نقاش في مشكلات أو تداعيات المقاومات المسلحة

نقاش في مشكلات أو تداعيات المقاومات المسلحة
قبل عقود من الزمن اقترن مصطلح المقاومة عند الفلسطينيين وغيرهم في المنطقة العربية بمصطلح "الثورة" أي بالتحرير والحرية وبالكرامة والعدالة. وكانت المقاومة وجدت تمثّلاتها في الصراع ضد إسرائيل، في حين وجدت الثورة تمثّلاتها في استنهاض الفلسطينيين وتحريك الجماهير العربية للتمرّد على الواقع السائد الذي يؤبّد وجود إسرائيل.  

طبعا لم تسرِ الأمور بيسر، ذلك أن تعقيدات الوضع العربي وضمنه إعاقة قيام المجتمع والدولة فيه بسبب هيمنة الأنظمة التسلّطية جعل من المعركة ضد إسرائيل مجرّد ذريعة، أو مجرد مقولة لا معنى لها ولا تمثّلات ملموسة لها، إلا بما يخدم تكريس تلك الأنظمة التي طالما ارتكزت على مقولة إن فلسطين هي قضيتها المركزية للمخاتلة والتلاعب وتغطية مصادرتها الحقوق والحريات والموارد.

وفي الواقع فقد نتج عن ذلك انكسار المقاومة من حيث المبنى والمعنى، ليس فقط بسبب الضربات الإسرائيلية القاصمة التي وجّهت إليها (في فلسطين ولبنان)، وإنما بسبب محاولات النظام العربي تدجينها وتجييرها وتوظيفها أيضا ما نتج عنه فكّ التماهي بين معنى المقاومة ومعنى الثورة، ثم بين معنى التحرير ومعنى الحرية. 

بالمحصّلة فقد نجم عن كل ذلك أن المقاومة لم تعد هي ذاتها، هذا ينطبق على المقاومة الفلسطينية، مثلما ينطبق عليها في العراق ولبنان وسوريا من أوجه متعدّدة، ووفق التمثيلات الكيانية القاصرة التي عبرت عنها. 

وفي الواقع فإن المقاومات المسلّحة من أي نوع، تبدو اليوم وكأنها تعمل خارج مشروعها الوطني المفترض، فبعد أن كانت تعقد الآمال عليها لخلق الإجماعات الوطنية، باتت عاملا من عوامل انكسار هذه الإجماعات، لاسيما بعد أن تمكّن عدوّها من استنزافها أو من تقييدها إلى الدرجة التي صرفها عن الانشغال به. 

هذا حصل مع الفلسطينيين مع تحوّل حركتهم الوطنية إلى نوع من سلطة تحت الاحتلال، ومع جماعات المقاومة في العراق التي باتت نوعا من ميليشيا سلطوية وطائفية، وهذا حصل في لبنان، إذ تكشف حزب الله عن حزب طائفي يخدم الاستبداد والفساد والطائفية، ويشتغل كذراع إقليمية لنظام الولي الفقيه، ويأتي ضمن ذلك حربه الإجرامية ضد السوريين.

طبعا ليست المشكلة هنا مع المقاومة المسلحة بحدّ ذاتها، لاسيما إذا أحسنت إدارتها واستثمارها سياسياً، وإنما هي تكمن تحديداً في عسكرة المقاومة، أو الثورة، والتي تتمثّل في المبالغة بقدرة هذه المقاومة على مغالبة إسرائيل (مثلا)، وهو أمر لم يحصل حتى الآن. ذلك أن المقاومة المسلحة يمكن لها أن ترفع كلفة الاحتلال، وأن تتعبه وأن تستنزفه، ولكن تحقيق الغلبة عليه يحتاج إلى موازين قوى ملائمة ومعادلات سياسية مناسبة، كما يحتاج إلى توافر معطيات عربية ودولية معينة. 

أيضا فإن عسكرة المقاومة تتمثّل في حصرها بمجرد عمليات عسكرية وبجماعات من المقاومين المحترفين والمحدّدين، ما يعني إخراج المجتمع من دائرة الفعل، وتغييب كل أشكال المقاومة الشعبية، الأمر الذي يضعف المقاومة ومجتمعها، وهو وضع لطالما استثمرته إسرائيل جيداً.

وعدا عن تحويل المجتمعات إلى كتل سلبية في مواجهة الاحتلال فإن عسكرة المقاومة تؤدّي أيضا إلى انحرافها بتحوّلها إلى نوع من سلطة مهيمنة على مجتمعاتها، ما يصرفها عن الأغراض التي قامت من أجلها. هذا حصل في التجربة الفلسطينية كما في التجربتين العراقية واللبنانية، وهو حصل في التجربة السورية في الثورة ضد الاستبداد، وفي التجربة المهيضة لإدارة الفصائل العسكرية لـ "المناطق المحررة".

لكن المفارقة الأكبر والأوجع ربما تكمن في أن العسكرة جعلت المقاومات السائدة أكثر شبهاً بالأنظمة السائدة منها إلى مجتمعاتها، فهي جعلت المقاومة المسلحة فوق النقد والمحاسبة، وجعلتها مصدرا للشرعية (وهذا حصل فلسطينيا ولبنانيا وسوريا) وهو أمر يذكّرنا بما فعلته أنظمتنا، التي طالما سعت إلى تعظيم ترسانتها العسكرية ووحداتها الخاصّة وأجهزتها الأمنية على حساب المجتمع، وحتى على حساب ادعاءاتها في الصراع مع إسرائيل.

لا جدال بأنه لا يمكن تحرير شبر من فلسطين بالوسائل الدبلوماسية، أو بوسائل الحوار والإقناع أو على طاولة المفاوضات، كما لا جدال بأن أنظمة الاستبداد لا يمكن أن تسقط بمجرد مظاهرات أو اجتماعات أو بيانات، وهذا صحيح تماما، لكن صحة ما سبق لا يفسر كيف أن المقاومات المسلحة لم تفعل ذلك أيضا، لا بل إنها تسببت بأثمان باهظة دون مردود مناسب. والفكرة هنا أن انتهاج أي خيار لا يكفي لوحده، إذ يحتاج إلى رؤى سياسية واضحة، وإلى بنى كفاحية مناسبة، كما يحتاج إلى إدارة قادرة على تحقيق الأهداف بأقل ما يمكن من أثمان وبأصوب ما يمكن. 

التعليقات (3)

    رامي السوري

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    تحليل دقيق... بدون رؤية وتصور لا نجاح لأي عمل

    HOPE ثورة السوريين اختطفت

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    للاسف ثورة السوريين تم اختطافها من مدنيين فاشلين ادعوا انهم قادرين على تمثيلها سياسيا فتحولوا الى مجرد مشاركين في مؤتمرات وشهود زور لسحب البساط من تحت السوريين.. او تم اختطافها من قبل فصائل مسلحه اخذت الدين غطاء لها وهم ابعد ما يكونوا عن الدين؟؟ في سوريا المصالح الشخصيه افشلت الثوره ولابد من مراجعه جاده لكل مؤسسه سياسيه او عسكريه لاعادة الثوره لمسارها الصحيح!!

    HOPE 1

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    لا يجب ان تكون اي مؤسسه(عسكريه او مدنيه) فوق النقد والمحاسبه. اذا كان السياسي والعسكري كما يدعي قد رفع لواء الدفاع عن مصالح الناس فمن حق الناس ان تراجعه من خلال مؤسسات رقابيه تطبق القانون المدني او العسكري.. ,وهذه مهمة الائتلاف والحكومه المؤقته التي فشلا فيها!!
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات