بازار التغيير الديموغرافي الكبير: غربلة السوريين خارج أرضهم!

بازار التغيير الديموغرافي الكبير: غربلة السوريين خارج أرضهم!
تجلّى مصطلح "التغيير الديموغرافي" في هذا العقد السوري الثوري كثيراً، من خلال ما يحدث الآن في سورية، عبر كثير من الممارسات القمعية التي تعرّض لها السكان الأصليون بشكل منهجي، لمحاولة اقتلاعهم من مدنهم وأراضيهم من قبل نظام الأسد والميليشيات الطائفية المتحالفة معه.

 وقد تجلى ذلك في تهجير أبناء كثير من المناطق، ويعدّ ذلك جريمة ضد الإنسانية، ووفق ما ورد في نظام روما الإنساني للمحكمة الجنائية الدّولية، فإنّ: "إبعاد السّكان أو النقل القسري للسكان، إذا ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي، موجَّه ضد أي مجموعة من السُّكان المدنيين، يشكّل جريمة ضد الإنسانية".

إنّ الخريطة الدينية والمذهبية في سورية، يصعب الحصول عليها بشكل دقيق، ربّما تعتمد غالبيتها على إحصائيات ودراسات من المستحيل أن تطابق الواقع،  نظرا لما كان من تداخل سكاني ومجتمعي معقّد في سوريا، ولكنّ الطرق الّتي تم اعتمادها من أجل تحقيق هذا التغيير الديموغرافي تجلت بأساليب كثيرة منها: حرق سـجلّات المحاكم والنفوس، لطمس حقوق الأهالي غالباً، كما حدث في حمص عام 2013، وفي مدينة دوما عام 2012.

التوغل في تنفيذ المجازر التي طالت مناطق الفئة المراد تهجيرها حصراً، مع جرائم الاعتقال والتصفية والنهب والاغتصاب التي مارستها تلك الميليشيات على الحواجز العسكرية، وكانت سبباً في نزوح أبناء تلك المناطق إلى أماكن أكثر أماناً.

شـراء العقارات وهـدم المبانـي، كمـا فعـل النظـام فـي بساتين المزة عـام 2012، بلـغ عـدد سكانها 125 ألـف نسـمة، ضمـن المرسـوم رقم 66 لعام 2012 القاضـي بتهجير أهلهـا، بحجـة أحـداث منطقتين تنظيميتين فـي محيـط دمشـق، وقد لعبت الكثير من جهات العرّابين دوراً كبيراً في شراء العقارات واستبدالها بملكيات لفئات أخرى.

إجبار أهالي المـدن المحاصرة علـى توقيـع هـدن، مقابـل وقـف القصف عليهـا وإدخال بعـض الطعـام إليهـا تمهيـداً لإجبار سكانها علـى مغادرة مدنهـم وقراهـم، تحـت ضغـط الجـوع والحصـار، وقد بدأت تلك العمليات منـذ عـام 2013، كحصار الغوطة الشرقية والجنوبية والريف الغربي والشمالي لدمشق الزبداني، ووادي بردى، ودمّر، الهامة، وقدسيا، ومدينة حمص القديمة وحي الوعر والقصير وأحياء حلب الشرقية.

إجبار أهالي المـدن المحاصرة علـى توقيـع هـدن، مقابـل وقـف القصف عليهـا وإدخال بعـض الطعـام إليهـا تمهيـداً لإجبار سكانها علـى مغادرة مدنهـم وقراهـم، تحـت ضغـط الجـوع والحصـار، وقد بدأت تلك العمليات منـذ عـام 2013

لم يقف النظام عند نقطة الفعل، بل أتبعها بنقطة أُخرى هي إعادة الإعمار الّتي بدأ النظام بالترويج لها عبر عدّة دعوات واجتماعات كاريكاتوريّة رسميّة، بعد أن قام بتنفيذ الاتفاقيات التي وقعها مع الفصائل أو الهيئات المدنية، لإجلاء كل أو جزء من أبناء المناطق إلى مناطق أخرى أكثر أماناً، مقابل إجلاء أبناء مناطق موالية محاصرة إلى مناطق سيطرة النظام، كما حدث في اتفاقية المدن الأربعة الزبداني ومضايا، مقابل نبّل والزهراء، وأيضاً اتفاقيات الغوطة الشرقية وحلب الشرقية وريف حمص الشمالي ومحافظتي درعا والقنيطرة.

والآن تتكرّر الحالة وهي حلقة في سلسلةٍ ممنهجة ومدروسة بشكل متقن، وهي إخراج أبناء درعا ممن رفضوا الرضوخ للنظام، رغم أنّه حاول تغطية هذه المنهجيّة الطويلة بإصدار الكثير من القوانين الخلّبيّة والتشريعات الفارغة، من العفو عن المناهضين للدولة، قوانين التسوية، المصالحات الوطنية، العودة إلى حضن الوطن، إلى قوانين الملكيّات، حقوق تملّك الأجنبي، والكثير من التشريعات في هذين المجالين.

ولعل المراقب للحدث السوري الطويل يرى أنّ النظام استخدم الجهات المناهضة له ظاهريّاً في تنفيذ هذه العمليّة، كداعش سابقاً وما قامت به وما استخدمه ذريعة أيضاً لحرق المدن وتفريغها من سكّانها، وبعض التيّارات المتطرّفة في الشمال السوري، وحتّى الاتفاقيات الّتي عقدها مع الكثير من الدول الّتي سيطرت على مناطق واسعة في سوريا "إتفاقيات غير معلنة ولكنّها لا تخفى على أحد" ساهمت أيضاً في ترسيخ هذه المنهجيّة الأسديّة بشكل أو بآخر، والآن تشهد مناطق محافظة درعا جنوبي سورية، عملية إفراغ ممنهجة للشباب، من جرّاء سياسة انتهجها النظام السوري والحلفاء الروس منذ نشر حواجزه بين بلداتها ومدنها في عام 2018، تحت غطاء ما سمّي بـ"اتفاق تسوية" تستّر به ليمارس  التضييق بمختلف أنواعه والترهيب والحصار.

لقد هتك أبسط روابط المواطن بالوطن،  ما دفع  الشباب إلى الرحيل عن أرضهم بدلاً من القبول بهذا الإجرام الّذي لا يحتمل، وقد بدا الأمر متزايداً ملحوظاً في سفر الشباب، خصوصاً مع إصدار النظام بداية الشهر الماضي، قراراً يسمح بإعطائهم إذن سفر بعد أن كان قد عمد إلى منح جميع الشباب المطلوبين للخدمة العسكرية الإلزامية إذناً بتأجيل تلك الخدمة لمدّة عام كامل. 

إن السبب وراء كل هذا التغيير والتهجير هو "التخلّص من قوّة التغيير الحقيقيّة" لا سيما الشباب أصحاب الكفاءات والحسّ الثوري والوطني، الرافض للإجرام والرافض أيضاً للالتحاق بالخدمة الإلزاميّة المزعومة، محاولاً بذلك أيضاً التخلّص من أكبر عدد ممكن من السوريين، ليتخلّص من واجبات الدولة الخاصة بتأمين الخدمات وفرص العمل والمواد الغذائية والوقود وغيرها من الاحتياجات. 

إن السبب وراء كل هذا التغيير والتهجير هو "التخلّص من قوّة التغيير الحقيقيّة" لاسيما الشباب أصحاب الكفاءات والحسّ الثوري والوطني، الرافض للإجرام والرافض أيضاً للالتحاق بالخدمة الإلزاميّة المزعومة

والأهم من ذلك هو تسهيل إعادة سطوته الأمنية على المناطق التي ما زالت خارج سيطرته بشكل تام، إذ لن يبقى فيها، إذا استمرّ الوضع على حاله، سوى كبار السنّ والنساء والأطفال، بعدما نجح في تهجير القوّة الشبابيّة الرافضة لوجوده والحاملة للسلاح أو الحاملة للفكر الوطني الثوري.

إن النظام يواجه العديد من الإشكاليات، منها الحاضنة الشعبية للثورة السورية، فقد وجد أنّ مشكلته الأساسية في الجنوب السوري بعد مرور أكثر من عامين على التسوية، هي الطاقة البشرية المناوئة له، ومن هنا بدأ بتسهيل عمليات مرور الأهالي إلى الشمال السوري، بما فيها الاتفاقيات الرسميّة وغيرها من الطرق المختلفة، من عصابات تابعة للنظام تقوم بتهريب الراغبين بالخروج إلى الشمال، وتسهيل مرورهم عبر المعابر والحواجز الأمنية والتشبيحيّة المنتشرة هناك، وأيضاً تورّط الكثير من الضبّاط الأسديين في هذه العمليّات، وكان هذا كلّه بعد اتفاقيّة التسوية الروسيّة والّتي لم يغادر حينها إلا عدد قليل من أبناء الجنوب السوري في قوافل التهجير التي رعتها روسيا في شهر تموز 2018، بعدما وضعت الشباب أمام خيارات صعبة بالمغادرة أو البقاء إذ قدمت اتفاقاً غير واضح الشروط وتسوية لأوضاعهم ووعوداً بعدم ملاحقة المطلوبين منهم وأوهمتهم بحل سياسي قريب في سوريا، ليعيش الأهالي بعدها واقعاً مغايراً لكل الوعود تحت سلطة النظام.

كل هذا وهو تحت مباركة أصدقاء سوريا من دول مشاركة بهذه الجرائم، وأخرى صامتة عنها ليحقق لها غاية ومكسباً. 

قال رئيس الوكالة الاتحادية للتوظيف في ألمانيا، (ديتليف شيل)، في تصريحات نُشرت الثلاثاء الماضي،  إن ألمانيا تحتاج إلى نحو 400 ألف مهاجر ماهر سنوياً لتعويض النقص في اليد العاملة، والأمر لا يتعلق باللجوء بل بالهجرة المستهدفة لسد الثغرات في سوق العمل.

وأيضاً تركيا الّتي اتّخذت من أعداد اللاجئين ورقة لجني المليارات من دول الاتّحاد الأوربّي بلا أي مساعدة تقدمها للسوريين سوى السماح لهم في العيش على أرضها واحتمال الحملات العنصرية ضدهم، بعد أن سلّمت أكبر مدينة ثائرة وهي حلب للنظام السوري والروسي وافتعلت هجرة كبيرة وتغيير ديموغرافي، حصّلت منه أرباحاً سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة. والإمارات الّتي تغربل السوريين، فتستقدم المشاهير منهم وتقدّم لهم إقامات ذهبية وجنسيّات، دون النظر إلى بقيّة الفئات.. فدولة تأخذ الشباب، ودولة تأخذ الكفاءات، ودولة تأخذ المشاهير، ودولة تأخذ الأعداد، ودولة تأخذ رؤوس الأموال…. كلٌّ يأخذ ما يناسبه من هذا البازار السوري الّذي أنشأه نظام أسد، ولا يبقى لسوريا سوى القبور والعصابات.

دولة تأخذ الشباب، ودولة تأخذ الكفاءات، ودولة تأخذ المشاهير، ودولة تأخذ الأعداد، ودولة تأخذ رؤوس الأموال…. كلٌّ يأخذ ما يناسبه من هذا البازار السوري الّذي أنشأه نظام أسد، ولا يبقى لسوريا سوى القبور والعصابات.

إنّ عمليّة التغيير الديموغرافي لم ولن تتوقّف عند خروج أبناء مدينة أو قريةٍ أو بلدة من بيوتهم تاركين خلفهم الكثير من الذكريات والشعور بالانتماء، بل سيمتدّ إلى ما لا نهاية، فهذا الخروج لن يولّد سوى الرغبة في  العودة والانتقام، وردّ الفعل الّذي مورس عليهم بفعل يعادله في القوّة ويعاكسه في الاتّجاه، فهو فعلٌ مبنيٌّ على فيزياء مستمرّة وتنبئ بالكثير من عمليات السيطرة والإخراج الآنيّة والمستقبليّة، تاركةً أثراً بعيد المدى نرى بصماته على ملامح سوريا المستقبل.

التعليقات (5)

    HOPE مقال جيد

    ·منذ 3 سنوات 3 أشهر
    نظام روما الانساني للمحكمه الجنائيه الدوليه الذي ذكره الكاتب عجز العالم عن تطبيقه في سوريا لعدم رغبته. في سوريا كل التشريعات والقوانين المفترض ان تحمي حقوق الانسان تقف شاهدا على فشل الحضاره الانسانيه في الالفيه الثانيه. ما يحدث في سوريا مثال على ما قد تتعرض له البشريه ان لم يحكمها قانون او تشريع! وقد اصبح عندنا كسوريين القناعه ان كل هذا يحدث عمدا؟؟!

    محمد الزامل

    ·منذ 3 سنوات 3 أشهر
    مشكور اخ نبيل مقال رائع وتوصيف دقيق

    لوري

    ·منذ 3 سنوات 3 أشهر
    في سوريا كل مايحدث هو عملية ممنهجة وفق اتفاق دولي لكي يكون الجميع مستفاد سوى السوريين، نحن على يقين ان الذي يحدث هو عملية جنونية في هذا العالم لانهاية لها

    نبيل

    ·منذ 3 سنوات 3 أشهر
    ردعا على التعليق في الأعلى إن حضارة الألفية الثانية مبنية على مبدأ القوة لا الرحمة، وهذا مايعكسه كل حدث صغير كان أو كبيرا...

    HOPE

    ·منذ 3 سنوات 3 أشهر
    بعد الحرب العالميه الثانيه تشكلت القناعه لدى امم الارض ان العنف لا يستطيع حل اي صراع و نتيجته خسارة الطرفين المتصارعين. القوه التي تبناها العالم هي قوة القانون و تطبيق القانون فيه العدل والرحمه. اساس الخضاره الانسانيه في كل العصور هو القانون. بدون قانون الانسان يكون حيوان متطور فقط ولا يستطيع بناء حضاره.
5

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات