بعيداً عن اللاجئين السوريين: كيف يؤثر "الخطاب العنصري" على مستقبل تركيا؟

بعيداً عن اللاجئين السوريين: كيف يؤثر "الخطاب العنصري" على مستقبل تركيا؟
يبدو الخطاب العنصري في تركيا ضد اللاجئين السوريين مثل نار تحت الرماد، كلما حاولت الحكومة التركية إخمادها بطرق لا ترقى في الواقع إلى مستوى الحدث، تعود للاشتعال من جديد مشحونة بخطاب المعارضة.

وفي قراءة سريعة لخطاب المعارضة التركية يجد المتابع أنها باتت تقفز بشكل واسع فوق الأجندات الانتخابية المعروفة، وفوق مستوى المناكفة المعهودة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، لتدخل في إطارٍ يضع البلاد كلها في زوايا حرجة غير محسوبة، لو سُلّط عليها الضوء بالشكل المطلوب لربما راجعت تلك المعارضة – ومعها الحكومة كذلك- سياساتها ومواقفها تجاه ملف اللاجئين، وهنا لا ننفي أن الحكومة التركية تحاول جهدها أن تدحض الشائعات وتفنّد أكاذيب المعارضة حول السوريين، غير أن سرديات الدفاع عن الوجود السوري غالباً ما تقترن بسياقات دينية أو عاطفية حول قسوة الحرب في سوريا وضرورة الوقوف إلى جانب المظلومين، وهذا ما لم يعد نافعاً أمام موجة عاتية من الحشد المضاد من قبل المعارضة.   

 المعارضة التركية باتت تقفز بشكل واسع فوق الأجندات الانتخابية المعروفة، وفوق مستوى المناكفة المعهودة لحزب العدالة والتنمية الحاكم، لتدخل في إطارٍ يضع البلاد كلها في زوايا حرجة غير محسوبة

ولعلّ من أكبر أخطاء المعارضة التركية التي تُقحم ملف اللاجئين في أجندتها الانتخابية -الخاوية أصلاً- أنها لا تضع في اعتبارها عدة معطيات من المؤكد أنها ستلحق الضرر -ليس على المدى البعيد- بدولة تطمح منذ سنوات للعبور فوق معاهدة "لوزان"، والدخول في طور جمهورية جديدة تبحث عن مكان بين اللاعبين الكبار سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.

إن رصد بعض تأثيرات وانعكاسات التعاطي غير السويّ مع ملف اللاجئين السوريين في تركيا، والذي بات رهناً في يد معارضة تؤلّب الشارع وتغسل دماغه بمئات الأكاذيب والشائعات والتلفيقات، وتدفعه دفعاً إلى ارتكاب "جرائم موصوفة" – ليس آخرها مأساة منطقة التنداغ في العاصمة أنقرة -  وحكومة لا تزال تتعامل مع السوريين على أنهم "ضيوف" لدى جيرانهم أو "مهاجرين" بين "الأنصار" رغم مرور عقد من الزمان على وجودهم هناك، ورغم أن هؤلاء الضيوف عانوا خلال سنوات من حوادث العنف العنصرية التي تجبرهم أحياناً على التزام منازلهم أياماً خشية "الانتقام الجماعي" المفروض عليهم مع كل حادثة هنا أو هناك، مع خسارة أرزاقهم وتكسير ممتلكاتهم دون وجه حق، يشير إلى ثلاثة مستويات:

أولاً- على المستوى الوطني

في دولة مثل تركيا التي تزخر بوجود القوميات المختلفة والأعراق والديانات والطوائف، يدقُّ الخطاب العنصري ضد اللاجئين ناقوس الخطر أمام هذه التركيبة السكانية المتنوعة، ويثير موضوع الكراهية ضد اللاجئين رياحاً سموماً لا تتعلق بالأجانب وحدهم.

تتعامل المعارضة مع "أزمة اللاجئين" ليس من منظور اقتصادي فقط يتعلق باتهام "الضيوف" بأنهم "سرقوا" أرزاق أهل البلاد وأعمالهم، إنما يصدّرون لجمهورهم دعايات قومية متعصّبة مرتبطة بالثقافة واللغة والعادات ونمط الحياة.

في الواقع، يمكن استيعاب مثل هذا المنطق في بلد صغير منغلق على نفسه يعود جميع سكانه لعرق واحد، لكن لا ندري كيف يسوق هذا الخطاب في دولة يقطن فيها نحو 100 مليون شخص، بينهم أكراد وأرمن ويونان وبوشناق وأيغور وفُرس..وعرب؟.. في دولة تحوي مئات الثقافات والعادات وحتى اللهجات المحكية، حتى يخيّل للمسافر الذي ينتقل فيها من ولاية "وان" أقصى جنوب شرق البلاد إلى ولاية أدرنة أقصى شمالها الغربي أنه ينتقل من قارة إلى قارة!.    

إن الخطاب العنصري القومي للمعارضة لا يُلغي فقط كرامة "الضيوف السوريين" – الذين يتمنى غالبيتهم العودة إلى بلادهم اليوم لا غداً وفق استطلاعات الرأي المنشورة بين الحين والآخر- إنما يستهدف بطريقة أو بأخرى قوميات كثيرة تتشارك المواطنة في تركيا منذ عقود، وكثير من تلك القوميات هم أصلاً كانوا لاجئين من بلدان أخرى، كالبوشناق والإيرانيين مثلاً، والمفاجأة هنا أن "اميت أوزداغ" -وهو أحد أكثر المعارضين شراسة ضد اللاجئين السوريين- هو من عائلة ذات أصول ليست تركية، بل من داغستان!   

إن الوحدة الوطنية في دولة متعددة الأعراق مثل تركيا يستلزم بالضرورة منع الخطاب العنصري من التفشي، فهو إن ظهر في البداية ضد اللاجئين فلا بد أن تتسعَ الموجة يوماً ما ضد مواطني الدولة أنفسهم.       

الخطاب العنصري القومي للمعارضة لا يُلغي فقط كرامة "الضيوف السوريين" – الذين يتمنى غالبيتهم العودة إلى بلادهم اليوم لا غداً- إنما يستهدف بطريقة أو بأخرى قوميات كثيرة تتشارك المواطنة في تركيا منذ عقود

ثانياً- على المستوى الإنساني والإعلامي:

طالما ظهرت صورة تركيا في العالم العربي والإسلامي ودولياً كذلك أنها دولة "صديقة للاجئين"، يهرب إليها المظلومون في بلدانهم، فيجدون فيها بقعة آمنة لا يُضامون فيها، وهذا بالضبط ما تحدث عنه مسؤولون أتراك بينهم الرئيس رجب طيب أردوغان.

لا شك أن ما حدث مؤخراً تجاه اللاجئين السوريين يضرب هذه الفكرة في العمق، فكيف لدولة أن تمنح "الحماية المؤقتة" لملايين البشر الهاربين من الموت والتنكيل والقمع في بلدانهم، ثم يتعرضون لحوادث قريبة من ذلك في ملجئهم؟ّ! 

إن أقوى ما رفعت به تركيا رأسها أمام الأوروبيين وأخجلتهم به -وحُقّ لها ذلك- هو أنها تستضيف وحدها أضعاف ما استقبلته دول القارة العجوز الغنية خلال عشر سنوات، غير أن المعارضة التركية لا تحسب حساباً أنها بخطابها الشعبوي العنصري ضد السوريين تُلغي كل ما قدّمته وتقدّمه دولتهم في هذا المجال. وعلى سيرة أوروبا، فاللاجئ هناك قد يتعرض في أي لحظة لحادث عنصري، غير أن الفرق هو أن القانون هناك يحاسب العنصري ويردع أمثاله عن إيذاء اللاجئين، أما في تركيا فاللاجئ السوري – مع كل أسف وأسى- لا قانون يحميه، ولا روادع تمنع من إيذائه، فيعود الأمر بالتالي إلى "شيمة" أهل المدينة أو الحي الذي يقطن فيه، لا إلى قانون يحاسَب فيه المخطئ وتنتصِر الضحية!.

ومن عجائب الأمور في هذا المجال أن رئيس بلدية "بولو" -الذي فاق في عنصريته كل ما في أوروبا والعالم من عنصرية- مرّر في مدينته قراراً يفرض على الأجانب ضرائب بعشر أضعاف الحد الطبيعي على المياه وخدمات أخرى!

كيف لدولة أن تمنح "الحماية المؤقتة" لملايين البشر الهاربين من الموت والتنكيل والقمع في بلدانهم، ثم يتعرضون لحوادث قريبة من ذلك في ملجئهم؟ّ! 

ثالثاً- على المستوى الاقتصادي:

هنا لن نُعيد الحديث عن إسهام اللاجئين السوريين في دورة الاقتصاد التركي، ولن نتحدث عن عشرات آلاف الشركات التي أنشؤوها في سنوات لجوئهم وما ترفد به الخزينة التركية وتنشّط من خلاله السوق المحلية، ولن نذكّر بآلاف الورشات والمعامل والفعاليات الاقتصادية التي تضم عشرات آلاف المواطنين الأتراك، ولن نعيد تكذيب الأسطوانة الملفقة للمعارضة بأن السوريين يقبضون رواتب من الدولة، لأن كل ذلك بات مستهلَكاً، ولأن المعارضة التركية تعرفه جيداً جداً لكنها تصر على تطبيق مثل تركي قديم يقول: "لا يوجد أعمى أكثر من بصير لا يريد أن يرى"، ما يهمنا هنا أن تركيا شهدت خلال السنوات الماضية، بسبب سياسة "الباب المفتوح"، نقطة جاذبة لرجال الأعمال والمستثمرين العرب، الذين شعروا بالأمان في ضخ ملايينهم وملياراتهم بمشاريع متنوعة فيها.

السؤال هنا: هل سيبقى الإحساس بالأمان بالنسبة لهؤلاء المستثمرين على حاله في دولة يهاجم فيها ثلة من العنصريين متاجر السوريين وسياراتهم ومنازلهم في مشهد هارب من القرون الوسطى؟؟ ألا تدفع تلك المشاهد من يريد الاستثمار في تركيا إلى مراجعة حساباته ألف مرة قبل الإقدام على تأسيس أعمال مستدامة في بيئة يتنامى فيها الخطاب العنصري دون قوانين رادعة؟؟  

الدول العظمى اليوم تفتخر بإسهامات الأجانب، وتشجعهم بكل ما تستطيع على الاستثمار فيها، والمشاركة في بناء اقتصادها، ومن نافلة القول أن تركيا تسعى إلى ذلك، لكنها أمام تحد حقيقي لا مجال في مكافحته للتأجيل والتأني، تحدٍّ تسمح فيه الحكومة التركية لقلة من شعبها أن يهدموا ما تقوم به من جهود جبارة في بناء اقتصاد تطمح أن تتقدم به في قائمة الاقتصادات الكبرى. 

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن قِطَاع السياحة في تركيا يشكل نحو 4 بالمئة من الناتج القومي للبلاد، مع تراجع هذه النسبة مؤخراً بسبب عدة معطيات أهمها انتشار فيروس كورونا. ومن المعلوم أن ازدهار السياحة في بلد ما لا يعتمد فقط على طبيعته الساحرة أو الخدمات السياحية المتوفرة فيه، إنما يعتمد على سلوكيات الشعب المضيف وحسن تعامله مع الضيوف.

في تركيا يتوفر الأمران معاً، وتظهر معطيات الواقع أن السوريين ساهموا في جذب مزيد من السياح العرب إليها، حيث قلص السوريون حواجز اللغة ومعاملات الإقامة والسفر والخدمات أمام السياح المتحدثين بالعربية، وذلك بشهادة كثير من هؤلاء الذين باتوا يتعاملون بالدرجة الأولى مع شركات السياحة السورية في تركيا. 

هل سيبقى الإحساس بالأمان بالنسبة لهؤلاء المستثمرين على حاله في دولة يهاجم فيها ثلة من العنصريين متاجر السوريين وسياراتهم ومنازلهم في مشهد هارب من القرون الوسطى؟؟ ألا تدفع تلك المشاهد من يريد الاستثمار في تركيا إلى مراجعة حساباته ألف مرة؟

وبعيداً عن إسهامات السوريين في هذا المجال، دعونا نسأل سؤالاً بسيطاً: كيف سينظر السائح الأجنبي عموماً والعربي خصوصاً إلى الحوادث المؤلمة المتكررة التي يتعرض لها السوريون؟ الجواب ببساطة: سيخشى السائح العربي على نفسه من أن يعثر عليه شخص من العصابات العنصرية فيظن أنه سوري فيعاقبه لأنه موجود في تركيا!!، سيخشى هذا السائح على نفسه في بيئة يسرح فيها العنصري دون عقاب رادع، وهنا لا يمكن إنكار ما تقوم به الحكومة التركية من ملاحقة مروجي العنصرية على وسائل التواصل أو في الشارع، لكن الحقيقة أن مروج العنصرية الأساسي هم أقطاب المعارضة التركية، التي بات عداء اللاجئين بنداً وحيداً على برامجها الانتخابية، والتي لا تعي أبداً محاذير هذه السياسة على بلدها، والحقيقة كذلك أن الحكومة التركية رغم جهودها في محاسبة العنصريين إلا أنها لا تزال بعيدة عن المستوى المطلوب من المحاسبة التي تجعل العنصري يعُد للألف قبل أن يمارس ساديته وقوته على بشر عُزّل لا حول لهم ولا قوة!

ربما يبدو ما تحدثنا عنه آنفاً مبالغاً فيه، وقد يقول قائل: لماذا هذا التهويل إزاء بعض الحوادث التي تعرض فيها اللاجئون السوريون للانتقام الجماعي؟ يُكمل هؤلاء أنها ظاهرة محدودة لا تعبر عن الشعب التركي ككل، وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن في المقابل، على الحاذق أن يدرك أن النار تأتي من مستصغَر الشرَر، وقبل أيام كافحت تركيا حرائق مأساوية في عدة ولايات أكلت غابات واسعة ومساحات خضراء شاسعة، ولم تكن تلك الحرائق في بدايتها سوى شرر صغير!

في هذا المجال لا بد من المرور على ذاك التسجيل المصور المؤسف الذي يظهر جمهور نادي "بشكتاش" الإسطنبولي يهتفون على مدرجات الملعب بعبارات مناهضة للاجئين.. على مدرجات الملعب الذي يُفترض أنه بعيد كل البعد عن السياسة وعن العنصرية وعن خطابات الكراهية.. هو نفسه جمهور النادي الذي ينال إعجاب كثير من السوريين الذين رفعوا علمه حين فاز آخر مرة ببطولة الدوري التركي!!!    

     الحكومة التركية رغم جهودها في محاسبة العنصريين إلا أنها لا تزال بعيدة عن المستوى المطلوب من المحاسبة التي تجعل العنصري يعُد للألف قبل أن يمارس ساديته وقوته على بشر عُزّل لا حول لهم ولا قوة!

خطاب المعارضة التركية تجاوز العتبة السياسية إلى حد بعيد، وبات زعماؤها مسؤولين عن دماء وحوادث مؤسفة، وحوادث كراهية كثيرة يذهب ضحاياها أبرياء بينهم نساء وأطفال، وأعداد أتباعها تزداد يوماً بعد يوم في مسعى للانتقام من سياسات "العدالة والتنمية" عن طريق اللاجئ السوري المستضعف!

 العنصري الشرس الذي لا تحاسبه دولته هو مجرد وحش صغير، يعتاش في البداية على كراهية الأجانب واللاجئين، ثم لا يلبث أن يتحول إلى مشكلة حقيقية لبلاده ومواطنيه. 


* من أسرة قناة أورينت

التعليقات (3)

    HOPE

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    اقتبس من المقال(ان ظهر/الخطاب العنصري/في البدايه ضد اللاجئين فلا بد ان تتسع الموجه يوما ما ضد مواطني الدوله انفسهم) هي الحقيقه التي يتوجب على القاده الاتراك الانتباه لها. الفكر العنصري الكريه يكبر مادام لا يوجد من يردعه واذا وصل ليكون له ثقل سياسي و اعلامي عندها تكون الطامة الكبرى فماله لتحطيم نفسه والدوله التي نمى عليها والتاريخ القريب يشهد ما حصل بالحرب العالميه الثانيه عندما وصل اليمين المتطرف النازي للحكم في المانيا و نتائجه. مقال جيد شكرا لك.

    جلجامش بن اوروك

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    جنابك الكريم اذهب وقاتل النظام المجرم انت وامثالك الشباب.

    مدني

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    الأورينت الداعشية مشغولة ليلا نهارا بالعنصرية ضد السوريين بتركيا مع أنو العنصري غريب وتركي .. أما زعيم إعلام الدواعش غسان عبود لما بصنف السوريين عرب سنة وأقليات فهاد يعتبر من أهم سمات الديمقراطية الأورينتية العبودية الداعشية
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات