كتاب مثير لأستاذ جامعي عن "الحشود في الملاعب الرياضية": فلسفة الغوغاء وأسرارها

كتاب مثير لأستاذ جامعي عن "الحشود في الملاعب الرياضية": فلسفة الغوغاء وأسرارها
لندن: ندى حطيط

- الكتاب: Crouds:The stadium as a ritual of intensity «الحشود: الملعب (الاستاد الرياضي) كطقس توحّد»

- المؤلف: أولريش غومبريخت

- الناشر: مطبعة جامعة ستانفورد 2021

ليس من السهل وصف التّجربة الشعوريّة التي يمرّ بها المرء عندما يشهد حدثاً رياضياً في ملعب كبير؛ إذ لا بدّ من الوجود مباشرة في قلب الأجواء الحماسيّة للملعب كي يمكن للإنسان الإحساس بكمّ الطاقة التي تنبع من مدرجات الجماهير، وهي مزدانة بالمشجعين وهم يهتفون لفرقهم. ومع أنّ مفهوم «الحشود» عامّة - والرياضيّة خاصّة - اكتسب منذ فترة طويلة سمعة سيئة تماماً في السياسة والثّقافة، فإنّ الناقد الأدبي والمشجّع الرياضي وأستاذ الأدب الفخري في جامعة ستانفورد، هانز أولريش غومبريخت، معتمداً على تجاربه الشخصيّة مشاهِداً في ملاعب أمريكا الجنوبية وألمانيا والولايات المتحدة، يقدّم في كتابه الأحدث: «الحشود: الملعب (الاستاد الرياضي) كطقس توحد»، مجادلة قويّة للإشادة بتجربة الحشود ومحاولة تفكيك أسرار تأثيرها الطاغي على الأفراد المنخرطين فيها، معتبراً «الاستاد الرياضيّ» نوعاً من فضاء لطقوس تجربة وجوديّة من التكثيف والتوحّد العابر للأفراد والأشبه بحالة صوفيّة جمعيّة، طارحاً بذلك زاوية رؤية مختلفة يمكن من خلالها التقاط طبيعة الديناميّات التي تحكم سلوك الجماهير.

في مقاربة هذا الرأي النقيض للاتجاه الغالب بالتعامل مع الحشود بوصفها تجمعات للغوغاء ووحشاً هائلاً بلا عقل تتلاعب به العواطف الجامحة، يدخل غومبريخت في محادثة مطوّلة مع أجيال من المفكرين الذين كانوا أكثر تشكيكاً في إمكانات الحشود، ومالوا للخشية منها ومن عنفها المتفلّت الذي يسهل التلاعب به، أمثال غوستاف لوبون، وفريدريك نيتشه، وسيغموند فرويد، وخوسيه أورتيغا ذي غاسيت، وإلياس كانيتي، وسيغفريد كراكاور، وثيودور أدورنو، وماكس هوركهايمر. وهو في محادثته تلك يأخذ قارئه في رحلة تاريخيّة شيّقة لتفكيك التوقعات السياسية من حراكات الجماهير: من الثورة الفرنسية إلى سقوط جدار برلين، ومن موسيلّيني إلى مارادونا، ومن الثّورة الروسية إلى «حزب الشاي» في بوسطن، ومن أجواء الكليّات الجامعيّة الأمريكيّة إلى ميدان التحرير بالقاهرة، ومن يسوع الناصري إلى كارل ماركس.

يقرن غومبريخت مع حماسه الظاهر لخبرة «الاستاد» بكثير من الصرامة الفلسفيّة، مستكشفاً أبعاد تجربة الانخراط في الجمهور كأنّه جالس بينهم، جازماً بأنّها تجربة استثنائيّة تتيح للناس العاديين اختبار شعور الانتماء لما هو أكبر وأبعد من حدود ذواتهم الفرديّة. لكنّه مع ذلك يتجنّب اتخاذ مواقف متطرّفة، مدركاً أن مفكرين كباراً عدّوا الحشد مساحة للغوغاء وأن الطاقة التي تنتج عنها دائماً تصرف في التفاهات والعبث. وفي ذلك يقول إن المنظّرين الناقدين المعروفين أدورنو وهوركهايمر «كانا ليجدا فكرة أن الموسيقا ذات الاثنتي عشرة نغمة يمكن أن تسهم في الصراع الطبقي أقل عبثية من التفكير الجاد فلسفياً حول سلوك الجمهور في الاستاد». يعمد غومبريخت لذلك إلى بناء تاريخ بديل للحشود كمتفرجين، في جزء لا يتجزّأ وعنصر أساسي من مكونات الحدث الرياضي، من سباقات عربات سيرك ماكسيموس في روما (التي كان يشاهدها 250 ألف شخص)، والمصارعين في الكولوسيوم (70 ألف شخص)، ثم فترة الهدوء في العصور الوسطى، إلى إحياء رياضات الملاعب في القرن الثامن عشر لحظة أقلعت نزالات الملاكمة بداية من لندن (10 آلاف شخص).

يستفيد تحليل غومبريخت لديناميّات حشود «الاستاد» من أعماله الفلسفيّة السابقة في علم الجمال، حيث يتقدّم عنده الوجود الحسي للفن محلّ تفسيرات المعنى. وفي ذلك يقول: «نحن ننتمي إلى الحشد بأجسادنا، ونصبح فيه جزءاً من علاقة تشابك بأجساد أخرى» على نحو أقرب ما يكون - وفق تعبيره – إلى «الحلقات الصوفية الوجدانيّة» التي يشكلها تجمع المصلين في الكنائس والمعابد والزوايا. والمشجعون في «الاستاد» «تنشأ لديهم علاقة أفقية بعضهم مع بعض تتجاوز الوجود الذاتي الفردي إلى كائن جمعي من الاهتمام المشترك، وتتصاعد عمودياً من خلال التعبير متصاعد الوتيرة للغبطة أو التّعالي».

ذلك الشعور بالغبطة يبدو في نص غومبريخت مركزيّاً أكثر من جوانب أخرى يوظّفها في محاولة تفسيره تجربة الأفراد ضمن الحشد في «الاستاد»، وعنده أن نقطة الانطلاق تكمن في تقارب الناس بشكل مقيّد للحركة من قبل أجساد بعضهم بعضاً في كتلة موحدة كأنهم أسراب من النمل أو النحل مثلاً التي تتحرك في إطار محلي بحركة منسقة تستهدف ديمومة النشاط الجمعي مع تجنّب تصادم الأفراد (وهي عملية معقّدة يدرسها علماء الأحياء المختصون). وينغرس الأفراد داخل كتلة الحشد الواحدة في حالة من التّوتر البدني والعصبي المكبوت يضيف إليها التركيز المشترك على اللاعبين أمامهم، الذين تؤدي أعمالهم في الملعب إلى استثارة الخلايا العصبية للأفراد باتجاه مطابقة حركات اللاعبين، وبالتالي قمع الحركة، ولكن محاكاتها في أعصاب المشجعين. والنتيجة هي كميّة هائلة من الطاقة الحركية التي يتم تصريفها في العنف والهتاف، أو تساميها في حالة تكثّف وتوحد صوفي لا يمكن الوصول إليها فردياً.

هذا التحليل لطبيعة تجربة الحشد يبدو انتقائياً يغرف من جهة المفاهيم العلمية المتقدّمة - لا سيّما مجال علم الأعصاب الذي تقدّم في العقدين الأخيرين بأكثر مما تقدّم طوال تاريخ البشريّة بأجمعه - ثمّ يمزجها بتعابير مجازيّة أقرب ما تكون إلى محاولة وصف شعور ذاتي استعصت المعرفة عن شرحه. ولذلك قد يجد القارئ نفسه في النهاية يميل للموافقة على وصف غومبريخت لتجربة التشجيع الجماهيري التي عاشها شخصياً عندما يقول إن «أحداث الاستاد التي شهدتها وسط حشد من الناس هي من بين أفضل الأشياء التي تقدمها الحياة»، لكن ربّما دون أن يتمكن من القبض على نظريّة علميّة محددة وتامّة لتفسير حالة (التكثّف والتوحّد الصوفيّ) التي يتحدّث عنها. ومع ذلك، فإن النصّ يبدو كأنّه دعوة صريحة من فيلسوف في فضاء المعارف النظريّة الإنسانيّة إلى العلماء لتفسير مشاعر حقيقيّة وحالات تسام على الذات في أجواء الحشد أصبحت في أيامنا المعاصرة وبشكل متزايد مساحة تجتذب أعداداً هائلة من البشر وتخضع في أجواء الرأسماليّة المتأخرّة إلى كثير من الاعتبارات التنظيميّة والتجاريّة، وتعنى بإدارتها سلطات معولمة عابرة للسيادة المحليّة للدّول، وتكتسب أدوراً محوريّة في تشكيل الهويّات الإقليميّة والقوميّة في لاوعي الجماهير. ولعل دعوة غومبريخت تلك تكتسب أهميّة مضاعفة بعد الزلزال السياسي الذي ضرب المجتمعات الغربيّة إثر الأزمة الماليّة العالميّة في 2008 وأفرز تصدعات سمحت بعودة أجواء التحشيد الشعبوي إلى الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، واستفادة الاتجاهات اليمينيّة من أجواء «الاستاد» لتمرير شعارات مفعمة بمعان سياسيّة عنصريّة غالباً ضد الآخر المختلف، وأيضاً بعد وباء «كوفيد19» الذي فرض إيقاعات مستجدة على عالم الرياضة؛ ومنها المباريات «الشبح» المفتقدة الروح في ظل غياب الجماهير عن أراضي الملاعب، وكذلك تمكّن جماهير الأندية الأوروبيّة من أخذ زمام المبادرة والتصدي بشكل جماعي فاعل ومؤثر لمؤامرة خلق دوري كرة قدم «أوروبيّ» خاص للأثرياء.

وإذا كانت هذه حال المقاربة النظريّة التي يطرحها غومبريخت، فإن أمتع أجزاء كتابه تقع في مساحة الملاحظة والخبرات الشخصيّة وحكايا الملاعب التي يسوقها لشرح وجهة نظره. هناك وصف مثير لأجواء الحشد في مباريات فاصلة؛ بوروسيا دورتموند ضد ميلان (12 فبراير/ شباط 1958) عندما نجح الفريق الألماني في تحقيق التعادل في الثواني الأخيرة من اللقاء، ومباراة أستراليا ضد نيوزيلندا في مباراة الرغبي بالاستاد الأولمبي في سيدني عام 2000 التي يذكرها المشجعون كأسطورة الآن. إضافة إلى المقدّمة التي تستكشف حشود فرق الجامعات بوصفها ظاهرة فريدة من نوعها في تكوين الثقافة الأميركية.

المصدر: جريدة (الشرق الأوسط) السعودية

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات