في أعقاب سقوط مدينة حلب التي شكلت نقطة انعطاف بالثورة السورية انطلق مسار أستانا ولحق به مسار سوتشي المكمل للمهمة.
أستانا الذي قيل لنا في حينها أنه مسار مشتق من مسار المفاوضات في جنيف, ومكمل له, وأن غايته البحث بالشق العسكري الخاص بالقرار 2254, ومنها البنود 12,13,14 الخاصة بوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن المناطق المحاصرة والتي أسماها ديمستورا (سيئ السمعة) بأنها بنود فوق تفاوضية ولا تحتاج لنقاش وأنها لازمة التنفيذ فوراً.
من الأستانا انبثق سوتشي ومنهما تم التوافق على ما سمي مناطق خفض التصعيد (مصطلح خفض تصعيد مصطلح غير عسكري ولا يخضع لأي توصيف قانوني معرّف بقوانين ومواثيق الأمم المتحدة) ومن سوتشي انبثقت اللجنة الدستورية, ومن ثم بلعبة ماكرة من الروس وأعضاء وفد أستانا العسكريين والائتلافيين تمت السيطرة على الهيئة التفاوضية بعد أن قاموا بانقلاب مدروس كان لروسيا دور هام بإنجاحه.
أذكر أني تلقيت الكثير من اللوم (الداخلي والخارجي) على معارضتي لمسار أستانا، وبالصدفة التقيت بالدكتور نصر الحريري، والذي كان يشغل منصب مستشار سياسي لوفد أستانا (رغم أن هناك قرارا تم التصويت عليه بالهيئة السياسية أو الهيئة العامة للائتلاف برفض مسار أستانا وعدم المشاركة فيه إلا أن هناك أعضاء خالفوا قرار الائتلاف وحضروا اجتماعاته منهم د.نصر الحريري, ياسر الفرحان, هشام مروة, ولاحقاً وبدل من فصلهم وتجريدهم من عضوية الائتلاف لمخالفتهم قرارات الهيئة العامة تم ضم معظم وفد أستانا ليصبحوا أعضاء بالائتلاف)، وبادرني د.نصر بسؤال عن سبب رفضي للمسار وأجبته بما قلته لكل الجهات الرسمية وغير الرسمية التي وجهت لي نفس السؤال: أن المسار فشل بتطبيق البنود 12،13،14، بحيث أنه فشل بوقف إطلاق النار حتى ليوم واحد، ولم يطلق سراح معتقل واحد، وبدلاً من فك الحصار عن المناطق المحاصرة فقد قام النظام بالتهامها, وأمام هذا الواقع على ماذا أدعمكم وأوافق على مساراتكم؟
وشعرت بأن لدى د. نصر حديثا تحت لسانه فتركت له المجال ليتحدث فقال: ماذا لو أننا طبخنا الحل في أستانا ووضعناه على مائدة المفاوضات في جنيف؟
قلت في حينها: إن الطبخة الروسية التي تتحدث عنها في أستانا ستكون سمَاً قاتلاً, ولن تستطيع هضمه معدة السوريين.
لكن العرض والفكرة كانت واضحة ووافية وكافية لنعلم ماذا يحيك لنا الروس في أستانا بمساعدة سوريين كنا نظن أنهم مؤتمنون على مصير الثورة, ويفترض أنهم من المدافعين عن مفاصلها, ثم تتالت الأحداث وبدعم روسي انتقلت الفصائل المشاركة بأستانا لتشكل رقماً صعباً بهيئة التفاوض التابعة لمؤتمر الرياض1 ثم انقلبت تلك الفصائل على مؤتمر الرياض1 بدعم إقليمي وعربي وروسي, ومهدوا لعقد مؤتمر الرياض2 الذي انبثق عنه تشكيل الهيئة التفاوضية برئاسة د.نصر الحريري كتنفيذ وتطبيق لما تم التوافق عليه سابقاً في أستانا, وللسير بما تم التخطيط له والبدء بإعداد طبخة موسكو كما وعدونا.
كما قلنا, على مدار 16 جولة في أستانا, فشل هذا المسار بوقف إطلاق النار حتى ليوم واحد, وكذلك فشل بإطلاق سراح معتقل واحد, وما تم من عمليات إطلاق سراح لبعض المعتقلين, تم بشكل فردي وبتبادل أسرى بعيداً عن أي تطبيق للبنود فوق التفاوضية التي أتحفنا بها "ديمستورا", أما مناطق خفض التصعيد فقد ابتلعها النظام بدعم من الضامن الروسي, وبقي منها فقط بعض من المنطقة الرابعة في إدلب وأرياف حلب والساحل وبقيت درعا البلد.
اللجنة الدستورية المنبثقة عن مسار أستانا وسوتشي والتي قبل أعضاؤها بتجاوز سلة الحكم والهيئة الانتقالية, فشلت على غرار فشل أعمال الهيئة التفاوضية, فـبعد ثلاث سنوات من محاولات التشكيل والاجتماعات, لم تفلح اللجنة وقيادتها المشتركة من الاتفاق على جدول أعمال, وكانت مهمة أحمد الكزبري (رئيس وفد النظام) كمهمة سلفه "بشار الجعفري" القيام بـتصفير العدادات بنهاية كل جولة, بعد تضييعه للوقت بسرديات وصياغة مفاهيم وتعريفات تذكرنا بكلام كبيرهم وليد المعلم (وزير خارجية الأسد) عندما قال: "سنغرقهم بالتفاصيل",
وفعلاً غرقنا بالتفاصيل, إنما ليس بذكائهم بل بغبائنا وإصرارنا على التماشي مع مسارات لا تخدم مصالح ثورتنا وشعبنا, تحت ذريعة عدم الانسحاب من المفاوضات وترك الساحة للنظام, أو غباء قول: إن استمرارنا بالمفاوضات غايته عدم إعطاء النظام فرصة للعودة للحل العسكري, رغم أن نظام الأسد لم يتزحزح عن خياره العسكري يوماً, وكان يزيد من جرعة القصف والانتهاكات قبل ومع وبعد انعقاد كل جلسات اللجنة الدستورية ومن قبلها جولات مفاوضات جنيف وبشكل متعمد, والذريعة الأخرى التي مزقت ثورتنا واستخدمها بعض أعضاء الائتلاف لتمرير أخطائهم وتلاعبهم بحقوق الثورة هو مفهوم "الواقعية السياسية", ومن خلال هذا المفهوم تم تمرير الكثير من القرارات المدمرة للثورة, وتم من خلال تلك الذريعة التلاعب بترتيب السلال والقبول بمخرجات سوتشي وتشكيل وفود ليست حرفية ولا مهنية كي لا نقول غير وطنية.
الهيئة التفاوضية وجولاتها أيضاً لم تكن بأفضل حالاً من اللجنة الدستورية, وكانت مضيعة للوقت وضحكاً على ذقون السوريين, ومحصلتها الإنتاجية أيضاً كانت صفرية رغم كل العناوين البراقة التي حاول بعض المفاوضين إتحافنا وخداعنا بها.
في الأستانا وبعد ١٦ جولة كان وفد الفصائل شاهد زور على ما يتم التوافق عليه بين الضامنين, دون أي اشتراك بمضمون المحادثات أو المفاوضات, وكذلك كان حال وفد نظام أسد.
اليوم وأمام استحقاقات ما يحصل على الجغرافية السورية في بيوت درعا البلد التي تتعرض لأكبر جريمة إنسانية من حصار دخل أسبوعه الثامن, وقصف يهدد حياة 11 ألف عائلة سورية إلى بيوت السوريين في جبل الزاوية ومدينة أريحا وجبل الأربعين ومناطق بجبل الأكراد والتركمان وأرياف حلب الغربية من قصف وخروقات مستمرة منذ حوالي ال60 يوماً, دون رد حقيقي يوقف تلك الجريمة التي تسببت بتشريد وقتل وإعادة تهجير الآلاف من سكان جبل الزاوية.
بكل بساطة وبواقعية حقيقية نحتاج اليوم لإعادة رسم استراتيجتنا القادمة سياسياً وعسكرياً, استراتيجية تتوافق مع استحقاقات يتطلبها واجبنا العسكري والسياسي والإنساني تجاه أهل درعا البلد وتجاه الشمال الغربي السوري المحرر.
أعداء الثورة لم يبخلوا علينا يوماً بتحديد أهدافهم وتطلعاتهم التي تنحصر بطردنا من أي منطقة لا تخضع لسيطرة نظام أسد وتهجيرنا أو قتلنا.
لكن وبمنتهى الصدق نسأل: ما هي أهدافنا اليوم؟
هل لدينا أهداف كما كانت سابقاً حتى عام 2017 تتحدد بحماية شعبنا وتحرير الأرض من ميليشيات أسد وإيران؟
هل لدينا أهداف بتحرير المعتقلين من معتقلات الأسد, من خلال تشكيل حالة عسكرية ضاغطة تجبر نظام أسد على إطلاق سراحهم؟
هل لدينا أهداف تتحدد بتأمين البيئة الآمنة والمستقرة وتوفر الحماية لأكثر من 4,5 مليون سوري (منهم المهجرون والنازحون إضافة للسكان الأصليين) من خلال تشكيل حالة عسكرية قوية تردع وتوقف خروقات وقصف نظام أسد وحلفائه؟
ما تم ذكره, يحتاج من الفصائل لعمل عسكري جاد وحقيقي على الجبهات, وهذا بدوره يحتاج لجيش منظم محترف مهني ذي تراتيبية عسكرية, ويحتاج بالتأكيد لفكر عسكري وضباط مؤهلين يدركون تفاصيل واحتياجات المعركة, فهل نملك تلك المتطلبات في واقعنا العسكري الحالي؟
أم إن المهمة الموكلة اليوم للفصائل هي البقاء بحالة السكون والردود الخجولة كنوع من إسقاط الواجب مع سلطة عسكرية لا تملك أدنى مقومات القيادة ولا تملك القرار ولا تملك أي إمكانية للسيطرة والتغيير مع غياب كامل لإرادة القتال, في ظل حالة فصائلية وحالة من الشللية التي لا يمكن أن تشكل حالة عسكرية ضاغطة،أو مهددة لميليشيات النظام وحلفائه رغم ضعف تلك الميليشيات عدة وعتاداً ورغم أن الدافع الأساسي لقتال قادة تلك الميليشيات ينحصر بمقدار التعفيش الذي سيحصلون عليه بعد قتالهم.
النظام حتى اليوم لم ينتصر, والثورة لم تُهزم ولن تُهزم
لكن كي لا نُهزم وكي نستمر بثورتنا وبقوة, ومن منطلق ضرورة الواقع يتحتم علينا تغيير أدواتنا وإيجاد طرق وأساليب تكتيكية وعملياتية جديدة تتناسب مع الاستحقاقات السياسية والعسكرية مستقبلاً, وهذا الأمر يفرض علينا من منطلق مصالحنا ومصالح حلفائنا أن نعيد ترتيب صفوفنا وفق حالة عسكرية منضبطة وحرفية ومهنية مختلفة تماماً عن واقعنا الحالي, ويحتم علينا أيضاً أن نعيد تقييم وترتيب العلاقة بين الجناح السياسي والجناح العسكري للثورة, وأن نعيد صياغة أولوياتنا الداخلية والخارجية, وأيضاً يحتم علينا إعادة النظر بطريقة ونوعية وشكل تحالفاتنا مع الآخرين.
تحالفاتنا مع الدول الإقليمية والعربية ليست ترفاً نمارسه بل هي حاجة ملحة تقتضيها مصلحة الثورة ومصلحة شعبنا المهجر والنازح والمشرد, لكن شكل هذا التحالف ومقتضياته وطبيعته وأبجدياته هو بحاجة لإعادة صياغة من جديد, فلا نكون تَبَعاً لأحد, وكذلك لا نكون عبئاً على أحد, ونحمّل الحلفاء أكثر من طاقاتهم, وأهم ما يجب البحث عنه هو استعادة قرارنا الوطني المستقل سياسياً وعسكرياً.
شعبنا يستحق الأفضل ويستحق منا كل تضحية
فهل نكون على قدر المسؤولية السياسية والعسكرية ويقدم أصحاب الكراسي تنازلات عن مصالحهم ومكاسبهم ومنافعهم خدمة للثورة وتضحية لشعب يستحق الانتصار؟؟
ونعيد طرح السؤال مرة أخرى: هل أخطأنا في رفض مسارَي أستانا وسوتشي؟
التعليقات (7)