خطاب الإصلاح الديني: هل يهدف إلى تشويه الدين أو إدخال تغييرات عليه؟

خطاب الإصلاح الديني: هل يهدف إلى تشويه الدين أو إدخال تغييرات عليه؟
ظهرت أو تبلورت فكرة الإصلاح الديني في العالم العربي، منذ أواسط القرن التاسع عشر كنوع من الاستجابة للفكرة ذاتها التي ظهرت في الغرب، لكنها  ظهرت أيضا في سياق مناهضة السلطة /الخلافة العثمانية، وفي إطار المحاولات النهضوية العربية. 

والمعنى أنها لم تأتِ فقط كنوع من المقاربة مع الغرب، أي وفقا لمفاعيل خارجية، وإنما هي أتت استجابة لحاجات داخلية أيضا، وهذا ما مثلته شخصيات مثل خير الدين التونسي وعبد الحميد باديس، وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وعبد الرحمن الكواكبي على سبيل المثال، والذين قرنوا الإصلاح الديني بإصلاح أو بترشيد أنظمة الحكم والارتقاء في مستوى التعليم والمعرفة.

بيد أن مشكلة تلك الفكرة أنها ظلت محل شبهة واختلاف في مساجلات التيارات السياسية العربية، الدينية والعلمانية (وضمنها القومية واليسارية)، التي بنيت أساسا على الاستحواذ والإملاء والتدبير والتحكم، بدل أن تتوخى إعمال الفكر وإثارة القضايا وفتح الأسئلة. اللافت أيضاً أن تلك الشبهات والاختلافات شملت التيارات السياسية الدينية، الصوفية والسلفية والدعوية والجهادية، المعتدلة والمتطرفة، والتي بدت منقسمة على ذاتها، فيما يخصّ مضامين الإصلاح الديني، على ما شهدناه خاصة في السنوات العشر الأخيرة.

عموما هذه مناسبة للفت الانتباه إلى الالتباس الحاصل في إدراك معنى "الإصلاح الديني"، في موضوعه وحدوده وغاياته، سيما مع رواج اعتقاد مفاده أن تلك العملية ربما تفضي إلى نفي الدين أو تهميشه أو إدخال تغييرات عليه، وهو اعتقاد خاطئ ومتسرّع ومسيّس، بالطبع من جهة الذين يحاولون أخذ تلك العملية إلى هذا المسار، من أصحاب النظرة العلمانية المتطرفة، أو من جهة التيارات الدينية الجامدة أو المتطرفة التي تدعي حق الوصاية على الدين والدنيا، على الإسلام والمسلمين.

 الالتباس الحاصل في إدراك معنى "الإصلاح الديني"، في موضوعه وحدوده وغاياته، أن تلك العملية ربما تفضي إلى نفي الدين أو تهميشه أو إدخال تغييرات عليه، وهو اعتقاد خاطئ ومتسرّع ومسيّس

طبعا، لا يمكن تنزيه الصراع على فكرة "الإصلاح الديني"، عند أي طرف، فهكذا تجري الأمور على صعيد الممارسة السياسية، كما بيّنت التجربة التاريخية الأوروبية مثلاً. وكانت المسيحية شهدت مع مطلع القرن السادس عشر إطلاق مارتن لوثر ما بات يعرف بحركة الإصلاح الديني. 

وفي حينه لم تكن المسألة تتعلق بتغيير الدين أو نزع قداسته أو إدخال تعليمات جديدة على الإنجيل، فمارتن لوثر هو أصلاً رجل دين، وإنما كان الغرض تحرير المقدس من استغلال البابوات، الذين كانوا بمثابة سلطة، حتى إنهم تجرؤوا على الله ذاته بادعاء أنهم يملكون حق إعطاء "صكوك غفران" للناس، وهي بمثابة وثائق تغفر خطاياهم وتمنحهم مكاناً في الجنة، مقابل مبلغ مالي معين، ممهّداً في ذلك للتحرر من السلطتين الدينية والمدنية المتحالفتين معاً، أي من استبداد رجال الكهنوت (السلطة الروحية)، الذين ادعوا أنهم واسطة بين الناس والرب، ومن استبداد الملوك (السلطة الزمنية) الذين ادعوا أنهم يمثلون سلطة الله على الأرض. فبالنسبة إلى لوثر فإن علاقة الإنسان بربه لا تحتاج إلى أي واسطة.

وكانت سلطة رجال الدين تستند إلى تمكنهم من اللغة اللاتينية، واحتكارهم تفسير «الكتاب المقدس» المكتوب بتلك اللغة، فقام لوثر بترجمة هذا الكتاب إلى الألمانية، ونشره على الملأ، بحيث أصبح متاحاً للناس جميعاً، كاسراً بذلك احتكار رجال الدين للتفسير وللسلطة الدينية؛ وكان هذا معنى الإصلاح الديني وبداية فكرة الحرية والعقل والتمييز بين الديني والدنيوي.

على ذلك فإن «الإصلاح الديني» أساسا لا يتقصد نفي الدين أو تحويره ولا الاصطفاء منه، وإنما تنزيهه عن أغراض السياسة، والمصالح الخاصة والأهواء والعصبيات. بمعنى آخر فإن القصد هو تحرير الدين من الاستغلال البشري - السلطوي، كي يبقى في دائرة المقدس، وتالياً إصلاح أحوال الناس، الذين يحملون الدين ويطبعونه بطابعهم، ما يحرر الدين من التاريخ ويخضع التجربة البشرية التاريخية للفحص والنقد والمساءلة، بهدف تحرير عقول البشر وتحررهم عموماً.

 هكذا فإن المقاصد الأساسية لتلك الفكرة تتمثل أساساً في التمييز بين الدين، كنصّ مقدس وكطقوس ورموز، وبين ما حمل من مدخلات عبر العصور، من قبل مفتين وفقهاء ورجال دين، تبعاً لأهوائهم ومصالحهم وعصبياتهم. وكذلك التمييز بين قيَم الدين التي تدعو إلى الهدى والرحمة والحق والعدل والخير والمساواة بين الناس أجمعين وتعاملات البشر التي تخضع أيضاً للأهواء والمصالح وعلاقات القوة والمكانة وتحيّزات السلطة. ويأتي ضمن ذلك أيضاً، التمييز بين الإسلام والمسلمين، مع تعذّر التطابق، بسبب تباين الإدراكات الثقافية والاختلافات الحضارية والتنوعات اللغوية والتجارب التاريخية للمجتمعات، علماً أن العرب لا يشكلون سوى 20 - 25 في المئة من المسلمين.

إن «الإصلاح الديني» أساسا لا يتقصد نفي الدين أو تحويره ولا الاصطفاء منه، وإنما تنزيهه عن أغراض السياسة، والمصالح الخاصة والأهواء والعصبيات. بمعنى آخر فإن القصد هو تحرير الدين من الاستغلال البشري - السلطوي، كي يبقى في دائرة المقدس

وعدا عن الاختلافات بين إسلام العرب ذاتهم، بين المشرق والمغرب والجزيرة، مثلاً ثمة اختلافات بينهم وبين إسلام المسلمين في إندونيسيا أو الهند أو آسيا الوسطى وهكذا. ومعلوم أن هذه اختلافات طبيعية، ولا تنشأ من علاقات السياسة والقوة، ولا ينشأ عنها عصبيات هوياتية، ولا صراعات على المكانة والسلطة، بمعنى أنها اختلافات يمكن هضمها واستيعابها، لأن الإسلام في الممارســة يكون وفق المسلمين في كل بلد، وتبعاً لــثقافة أهله وخبراتهم وتقاليدهم بغض النظر عن وحدة النص.

المهم أنه لا يمكن أن نستنتج من فكرة «الإصلاح الديني» أية دلالة على التغيير أو التحويل أو الإزاحة أو الاصطفاء، فهذا غير ممكن وغير مجدٍ، لأننا بذلك نكون في الواقع إزاء عملية أخرى غير الإصلاح. وقد يجدر بنا هنا التذكير بأن التيارات السياسية الدينية بالذات فعلت ذلك، بحيث إنها مع الزمن أزاحت النص القرآني المقدس، لمصلحة «الحديث»، وبعده أزاحت الحديث (حتى المتفق عليه) لمصلحة فتاوى الفقهاء ورجال الدين، الذين أخذوا يحرّمون ويحلّلون تبعاً لثقافاتهم وأهوائهم ومصالحهم وارتباطاتهم وعصبياتهم، بحيث بتنا كأننا إزاء دين آخر، باتت فيه المرويات الشفوية والحوادث التاريخية زمن الصحابة، ثم فتاوى ابن تيمية أو المودودي أو سيد قطب بمثابة المرشد أو الحكم بدل النص الأصلي.

أخيراً لا يتعلق إدراك مغزى الإصلاح الديني بتيارات العلمانيين فقط، وإنما يشمل التيارات الإسلامية أيضاً، وهذا يشمل تفهمها لتحرير التاريخ من الدين، وتحرير الدين من التاريخ، وضمنه من الأساطير ومداخلات السلطات. كما يشمل ذلك التصالح مع الواقع والعصر والعالم، بالقطع مع فكرة «الحدود» والخلافة والحاكمية والولاء والبراء والفسطاطين والجهاد إلى يوم الدين، فكل واحدة منها كانت ابنة ظرفها وبيئتها أو عصرها أو كنتاج للصراعات على السلطة والمكانة. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات