دمعة لعصافير درعا

دمعة لعصافير درعا
-1-

دقَّاتُ ساعةٍ قديمةٍ، ونقرات مطر على زجاج معكَّر بأنفاسه الرمادية المستكينة منذ زمن بعيد.. آوى إلى مخدعه.. استلقى على سريره.. أشغل تلفازه، وراح يتابع الأخبار. ما لبث أن غلبه النعاس... 

- 2 -

هبَّ مذعوراً من صدى حلم مزعج: رأى نفسه يرتدي قفطاناً واسعاً من القنب، ويسير في موكب طويل من البشر، يقف في نهايته رجلٌ طويلٌ بدا كعمودٍ متحركٍ برأس غراب؛ يحملُ الناس من رؤوسهم ويرميهم في أتون محرقة لا حدود لها... ما إنْ وصل دورُه حتى انقطع الحلم، فاستيقظ مذعوراً يبلله العرق.. وقف وسط الغرفة، كأنَّه في جنازة من الهياكل العظمية، تحمل نعشاً فارغاً وتدور به، مضيَّقةً الخناق على أنفاسه. 

شخص لا مرئي تكلم: "لا أحد يتنفـَّسُ، لا أحد يحبُ، لا أحد يعيشُ، لا أحد... في حضرة الغراب الأصغر". سرعان ما اختفى، وغرق في هوة صمته السحيقة.

نظر إلى الحائط: الساعة متوقفة، رغم أنها لم تتوقف سوى مرة واحدة لحظة انقلاب الغراب الأكبر المشؤومة وسيطرته على كل شيء في مملكتنا؛ ويوم رأى مدينة جنوبية بحجم مكعب ثلج تتناثر بيد طفل اقتلعت أظافره، لأنه كتب على جدار مدرسته: "يسقط الغراب"؛ ولحظة صمته هذه!

ها هي الساعة انتحرتْ.. لابد أن شيئاً فظيعاً سيحدثُ ـ جاء صوت من بعيد! 

تحدث لصديقه العصفور في المطبخ، فإذا به أصَمَّ.... أبكمْ! 

سار إلى النافذة ليعرف ما جرى أثناء غيابه على بساط حلمه الغريب: توقف المطر، وتجمعت غربان صغيرة ذات مناقير طويلة جارحة، بدأت تنقر الزجاج محاولةً كسره... أحس أنها قادمة لتفترسه، مكملة حلم اللحظات الماضية! 

هرب خائفاً.. دخل الحمّام، وأغلق على نفسه.. لحظاتٌ ثقيلةٌ مرَّتْ عليه، وهو يحاول جمع أطرافه المبعثرة في هذا الفضاء الضيق. أشعل الضوء ونظر إلى المرآة: شبح مخيف لآثار رجل ميت منذ عصور؛ لم يبقَ منه غير حطام عظمي هش، وذاكرة ضعيفة، وحاسةٍ واحدةٍ تشم رائحة الموت الدائر في كل مكان.. تذكَّر في الحال مقطعاً للشاعر رياض الصالح الحسين:

                                      "انظروا إليه،

                                        انظروا إليه فقط 

                                        لقد تفسخ جسده 

                                        منذ زمن بعيد" * 

تلبسه الخوف، ليتسمر في مكانه. لكن سرعان ما دفعته قوة غريبة للعودة إلى غرفته... فُتحَ الباب أمامه، وغار في جوفها كوميض برق خاطف: الزجاج محطمٌ، العصفور منتحرٌ، الساعة غائرةٌ عبر الجدار، التلفاز مقلوبٌ يرسل هذيان الأخبار: مظاهرات تعم المدن، وصوتٌ يرتفع هاتفاً: "الشعب يريد إسقاط الغراب!". 

ذاب كله دمعة في الفراغ؛ حاول أن يعي ما سمع.. استحضر جزيئاته من الجاذبية المختصرة... قلمٌ تائهٌ بين أوراق طاولته استعاد كتلته المائية السابقة، وكتب على الحائط المرتجف موحياً للولادة الجديدة: "عاشت سورية حرة أبية؛ عاشت سورية وطناً للجميع!".

انهار مع الجدار ساجداً على ركبتيه.. رتلت روحه مرارة الأشياء.. انفتحت الكلمات حارقة شفاهه بدم الشهداء: "درعا طفولتي التي تنفست معي، ومع أولئك الساجدين بمعبد الآلام.. هي سيدة التاريخ التي انتفضتْ في حيرة الزمان والمكان...".

 صمت برهة، ثم أردف: 

- لا، لستُ أنا الذي يجترّ سجوده ويغيب بصمت الزوايا... سأنهي العالم على فاتحة النار.. سأبصق الأرض على الأرض، والزبد على الزبد.. سأبصق الحريق على الحريق، والحدود على الحدود، وألوِّن بدمي وجه الزمن الجديد القادم من سهول حوران!

خلعَ غرفته قبل رحيل الظلام وعودة مارد الموت، ليسرق روحه المنتفضة... مشى بكل الاتجاهات يفتش عن مدينة، عن شعب، عن وطن.

أضرمت نيرانه بيادر الخوف القابعة بعقله وقلبه، مذ شاهدهُ والده يقرأ كتاباً غير كتبه المدرسية.. يقرأ قصيدة لرياض الصالح الحسين!.. ابتعد في الأفق.. ازداد عنفاً وهيجاناً، لكنه كان وحيداً في المدى المفتوح على العدم والنسيان! 

- أتَقِف على قدميك مزيناً بالقراءة اليسارية الصفراء؛ أم مزيناً بما آمنت به من مراسم الطفولة، ووصايا الجد التي لا تنتهي؟! ـ جاء صوت الصدى البعيد ثانية. 

ارتمى بأحضان الدموع.. حمل حقيبته واتجه إلى مكان ما... وصل "محطة بغداد" **.. نظر في أضوائها شارداً بالفراشات البريئة تطارده بحديقة طفولته: من زهرة إلى زهرة، ومن قصيدة إلى قصيدة، ومن أغنية إلى أغنية... تسلق، خلسة عن الأعين التي لا تصلح إلاَّ للمراقبة؛ السور الفاصل بين الشارع والمحطة.. شعر بشيء عالق بقدمه، يمنعه من التسلق.. رأى جرواً صغيراً ابتعد عنه قليلاً، لكنه ظلَّ يراقبه بعينين حزينتين... التقتْ العيونُ الصامتة، وتجمعت الأرواح المعذبة.. تابع صعوده.. صار داخل المحطة.. سار على رصيفها.. جلس هناك ينتظر قطاراً مسافراً لمدينته المحاصرة.. نسي بأوج انفعالاته أنَّ القطارات تحنطت، وأوقف الزمن الموبوء نموها.. نهض وأدار ظهره للظلام المخيم على الجميع، إذ كاد يغفو على رصيف الانتظار... اتجه نحو الجسر المطل على السكينة، والمدينة الغارقة بأنفاسها الكئيبة الذليلة.. صعد الحاجز الحديدي، رافعاً يديه نحو السماء... أغمض.. انزاحت شباك العناكب عن خلايا ذاكرته.. عادت طفولة درعا: 

- أغمض عينيكَ يا بني واقفز.. لا تخفْ!

- أبتاه.. البحيرة عميقة والمياه باردة.. 

- لا تخفْ بني.. إنها طبريا ـ بحيرة الأنبياء والقصائد!

أغمض عينيه.. توقفتْ روحه على أبواب القيامة.. رمى نفسه.. أحس بقوة أخرجتْ الكواكب عن مدارها، وأحدثت عاصفة حملت معها برقاً ورعداً وريحاً وزوابعَ..، تركت ألوان قوس قزح بسماء فضية، وقلبت أحشاء البحيرة محولةً قاعها إلى بستان وردي تسبح فيه أسماكٌ شفافةٌ. سرعان ما رفعته أعماق الماء والحلم، لتتسلمه أسراب من ملائكة البط البيض قرب السطح، وتدفعه إلى الشاطئ بأمان... 

فتح عينيه.. وجد نفسه محطم الجمجمة، مكفّناً بجراح مدينة متخمة بالأكل والكلام الفارغ، تمرُّ بمدامع الرغبة المقتولة، ناهضاً من ولادته الجديدة يدفع الذعر عن أرتال الفراشات المغطية...... قنديل السماء!

- 3 -

الصبحُ صفاءٌ طفولي سال على جسد محنط بالكلمات الملونة، متعب من مُعدي الخطب المتقاطعة..؛ والمطر رذاذٌ على وجه الكون يبشرُ بقدوم العيد، وفراشةٌ نسجت جناحيها كحلاً على عيني طفلة حورانية تلعق دمعتيها على مرأى العصافير؛ مفتتحة المهرجان: "سورية تؤدي إلى درعا؛ ودرعا بوابتنا إلى عالم الحرية والكرامة والإنسانية...".

* المقطع من قصيدة "الراية".

** محطة بغداد: محطة للقطارات تقع بالقرب من الحديقة العامة في مدينة حلب.

التعليقات (1)

    نبيل أدهم

    ·منذ سنتين 8 أشهر
    سلمت دكتور علي قصة تحمل دمعة والكثر الكثير من الذاكرة
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات