حتمية المواجهة: درعا والجبل نموذجاً

حتمية المواجهة: درعا والجبل نموذجاً
في مقالي السابق المنشور على موقع أورينت نت تحت عنوان : "الديمقراطية أو الوحشية.. ماذا يريد الغرب لنا " رجحتُ وفق معطيات ملموسة لدي الديمقراطية السيادية على التوحش الغربي، بشرط العمل السياسي المهني الواعي بأهمية المنطقة جيوسياسيا، ولدور أصحابها تاريخيا، بناء على رؤية استراتيجية تتخلص من المفرقعات البطولية ونثريات المواقف البيانية، ومن أهم بنود هذه الاستراتيجية وأولوياتها الإفصاح عن وجود المواجهة، وارتفاع وتيرتها، وازدياد أوارها؛ واستجلاب الأمان لا يتأتى من دفن الرأس في التراب وترك الجسد ينتهك، ثم التعلل بنفي الحقيقة لعدم المعاينة البصرية .

والعالم سياسيا لا يقبل الفراغ ولا الحياد، وكذلك الحياة في عموم جزئياتها لا تقبل بالحياد أيضا، وحينما تقبله فهي لا تحترمه .

وقد تقاسم النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة العالم مع الاتحاد السوفياتي وفق هذه النظرية حتى سقوط الأخير، وكانت فكرة عدم الانحياز فكرة هزيلة وساذجة، تعبر عن الضياع والتشتت، فلا إمكانية من وجهة نظر أصحابها في صناعة سياسية تتجاوز الأميركي والسوفياتي، فأعلنوا عدم الانحياز. وكان الأجدى بهم عدم خداع الناس وتضليلهم، وإفساح المجال لحلحلة المشكلة عبر الزمن والتراكمية بعد التحليل السياسي الصحيح .

 العالم سياسياً لا يقبل الفراغ ولا الحياد، وكذلك الحياة في عموم جزئياتها لا تقبل بالحياد أيضا، وحينما تقبله فهي لا تحترمه.

والقول إن الغرب هو الذي يواجهنا أو العكس هو نصف الحقيقة، والصواب أن كلاً منا يواجه الآخر في الوقت ذاته، على اختلاف في الرؤية والهدف من هذه المواجهة، وعلى تباعد كبير في الوسائل والإمكانات .

فالمواجهة التي تقودها الولايات المتحدة تستند إلى رؤية استراتيجية عميقة تؤكد أن منطقتنا آفاقية تاريخياً، وحيوية لا تقبل التقوقع، ويصعب جدا استيعابها بما هي عليه من الفقر والاستبداد، فكيف إذا تخلصت منهما معا ؟! ولا سبيل للحفاظ على النظام الدولي إلا بالقتل والإجرام ضد هذه المنطقة، وبإذلالها .

والمواجهة وفق الأجندة الأميركية قبيل ثورات الربيع العربي لا تؤتي ثمارها المرادة من قبلهم إلا بفكرة الحرب أو التلويح بها، ولكنها بعد الثورة السورية خصوصاً أمست حرباً ضروساً تأتي على الأخضر واليابس.

 

أما المواجهة من منظور ثقافتنا وتاريخنا فهي تنطلق من انتزاع السيادة وتحقيقها بأسس ذاتية، والخروج من حالة الضعف والاستضعاف والاستجداء، ورفض الأدوار الوظيفية أيا تكن الجوائز والهبات والمكاسب، أو العواقب .

المواجهة التي تقودها الولايات المتحدة تستند إلى رؤية استراتيجية عميقة تؤكد أن منطقتنا آفاقية تاريخياً، وحيوية لا تقبل التقوقع، ويصعب جدا استيعابها بما هي عليه من الفقر والاستبداد، فكيف إذا تخلصت منهما معا؟

والمواجهة باعتباراتنا لا تعني القبول بمسلمة الصراع والاقتتال، والحذر من هذا الاقتتال لا يكون بالتخلي عن فكرة المواجهة والهروب منها، إنما بالإقرار بوجود القتل وتوابعه بحسبانه مسلمة غربية، وخيارا أوحدا له، ثم مواجهته علناً سياسيا وعسكريا، دون الوقوع تحت أحادية الحرب، لأنها تقود المنطقة إلى مزيد من العنف والعدمية. فنحن لا نريد أن نفني الغرب، ولا أن نذله، ولا أن ننهيه، إنما نريد مواجهته وردعه والتموضع في بلادنا رغما عنه، ولا تصلح الموادعة لتحقيق ما نريد. وما زالت المواجهة - على روعة ما تقدمه - تفتقد إلى استراتيجية محكمة من قبلنا فهي حتى حينه تنطلق من أفكار بخطوات مبعثرة لا ينظمها مشروع، وكل من يدعيه من الأحزاب التقليدية فهو واهم، ويغرر بالآخرين .

 

وتعتبر الراديكالية بناء على ما سبق ورقة أميركية تتناقض مع ثقافتنا، فهي لا تعرف إلا العنف أو الإخضاع مثله، وهي الوجه الآخر للاستبداد المدعوم غربياً. ولا نبرئ أنفسنا من إنبات بيئة الراديكالية، والتقصير والتهاون في التصدي لها، وتسهيل دورها الوظيفي، ثم نحن بحاجة إلى جهد نوعي لتحصين نسيجنا الاجتماعي منها .

 

وحتى ندرك مستوى المواجهة، ولا نستسهلها، ونتحاشى أخطاء سابقة ومتوقعة لاحقا، لا بد من معرفة أهم الأدوات - وليس جميعها فهي كثيرة - التي تخدم الحرب الأميركية في المنطقة، وهي على النحو التالي: عصابة ملالي طهران وجميع الميليشيات الطائفية التابعة لها، والكيان الصهيوني، والمال الخليجي الرسمي.

وهذه الأدوات ابتداء، فضلا عن سواها، تتكامل الأدوار بإيقاع مشغلها فهي ليست متصارعة أو متناحرة فيما بينها، إنما متنافسة على الحصة والدور، وما انفك كثيرون يرددون عداءها لبعضها، أو عداوة الإيراني للأميركي .

ويراهن آخرون على بعض هذه الأدوات، ويفاضلون بينها مبتعدين بضعف رؤيتهم السياسية عن أن مداهنة أحد هؤلاء سيفضي بهم إلى خدمة الأميركي، وسيدخلهم في دائرة الوظيفية التي أتقن الأميركي تشغيل الثلاثة فيها مع آخرين .

فلا تعد المقتلة الجارية الآن حربا بين السنة والشيعة كما يروج الغرب وأزلامه وبسطاء السياسة، ولا حربا أهلية؛ إنما هي وحشية تمارس من المصالح الاستعلائية التي يخدمها الشيعي، كما يخدمها الراديكالي، كما تخدمها منظومة الحكم الوظيفي السني الأخرى بدرجة أقل، كما يخدمها الصهيوني؛ على نسيج المنطقة المتطلع إلى السيادة بإرادة وقرار ذاتي .

والمواجهة بين كل هؤلاء من جهة وبين النسيج العريق من جهة ثانية هدفها الإبقاء على السيطرة الكاملة على المنطقة، والتحكم الكلي بمقدراتها وإمكاناتها، ومنع الحرية والكرامة أن ترسي دعائمها .

لا تعد المقتلة الجارية الآن حربا بين السنة والشيعة كما يروج الغرب وأزلامه وبسطاء السياسة، ولا حربا أهلية؛ إنما هي وحشية تمارس من المصالح الاستعلائية التي يخدمها الشيعي، كما يخدمها الراديكالي، كما تخدمها منظومة الحكم الوظيفي السني الأخرى

سيقول أحدهم : إن الحنكة تقتضي عدم تكثير الأعداء والخصومات، والعمل على تفتيتها وعدم تمكينها، وإذ إن الفكرة في غاية الدقة فإن متبنيها ومسقطها على واقعنا في غياهب الدروشة السياسية، لأن كثيرا ممن ناقشتهم فيها ينسبون الصداقة لعدوهم، ولا يفرقون بين الخصومة والمنافسة، ولا يميزون بين التحالفات والتشغيل وأداء المهمات، ويتنكرون للتاريخ القريب جدا والواقع القائم ومجرياتهما، ويصرون على التمسك بالتصريحات بعيدا عن السلوكيات. ويشبه هذا القول سؤالا آخر : هل مطلوب من شعب المنطقة أن يواجه العالم كله ؟! 

والأصل أن نقول: ماذا نفعل إذا كان العالم كله يمعن في قتلنا وتشريدنا ونهب ثرواتنا! هل نستسلم، ونرفع الراية ؟ 

 

وستطالعنا هشاشة سياسية أخرى حينما تتفاخر أنها لا تؤمن بفكرة المؤامرة، متغافلة حتى أدنى دركات الغفلة أن الكلام ليس عن اجتماعات دبرت بليل، ولا عن خطط على الورق؛ بل عن جيوش احتلال ضخمة على الأرض، وعن ملايين المعتقلين والجرحى والمهجرين، وعن تغيير ديمغرافي خطير برعاية أممية على أرض سوريا العظيمة عبر عشر سنوات تتجاوز بخبثها وعد بلفور واتفاقية سايكس بيكو التي أشرف على تنفيذها البريطاني والفرنسي، وحافظ عليها الأميركي وأدواته، وعن جبهات ممنوع الاقتراب منها للدفاع عن العرض والأرض .

فالقضية برمتها خارج سياق تخيلات المؤامرة، وداخل نطاق المصالح الاستعلائية التي تجري رعايتها والحفاظ عليها ترهيبا وقتلا وتشريدا وترويعا .

 

وما يجري في جبل الزاوية الأشم وفي درعا القلعة يؤكد حتمية المواجهة، و يدعو إلى جعلها استراتيجية موجهة لكل سلوكنا السياسي، وما يتفرع عنه؛ فالقتل واقتلاعنا من الجذور هو ردهم الوحيد على ثورتنا واستعادة قرارنا، وكل الاتفاقات أو التوافقات الإقليمية أو الدولية ستكون كأستانا المشؤوم، أو أكثر شؤماً وتوحشا، إلا حينما يكون السوريون على رأس الطاولة بعزة وكرامة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه من خلال الهياكل المصنعة البتة .

ماذا نفعل إذا كان العالم كله يمعن في قتلنا وتشريدنا ونهب ثرواتنا! هل نستسلم، ونرفع الراية؟ 

 

وأفضل رد على الدولي قبل الإقليمي هو ثبات أهل درعا وجبل الزاوية، والدفع من خلال كل السوريين إلى خيار المواجهة، والإصرار على التغيير السياسي الجذري، وعلينا جميعا أن نتيقن أن الهدنة - أي هدنة - لن تكون إلا مؤقتة، فهؤلاء لا يثقون بنا ويخافون من ثورتنا، وعلينا ألا نثق بأحد .

إن على سوريا - كل سوريا – وخاصة على السويداء وإدلب وأرياف حلب ألا تقبل ولا تبرر ولا تدعو إلى تهجير جبل الزاوية ودرعا، لأن ذلك سيمهد إلى تهجير سوري آخر .

 

وهناك ثلاث خطوات عملية أولية يستطيع فعله كل واحد من السوريين : 

• تثبيت جريمة الترحيل الممنهج بقيادة الولايات المتحدة وإشرافها، وبمساعدة الإقليمي الوظيفي، أو سكوته، فهو - الأميركي - يعد الديموغرافيا في الجغرافيا السورية وخصوصا بعد ثورة الكرامة من أكبر مهددات النظام الدولي، لأن الديمغرافيا من أكبر نقاط قوتنا، ومن الأهمية بمكان وزمان استنفار جميع الأقلام المعتبرة والألسنة المنطلقة لتوضيح خطورة ما يجري، وضرورة التشبث بالأرض . 

 

 • العمل على تجاوز الحالة الفصائلية، وربط الدفاع عن الأرض بالحالة الشعبية، وجر أكبر عدد ممكن من أفراد الفصائل إلى الحاضنة الثورية الأم، وتعميم التظاهرات السورية في كل مكان يستطاع فيه لذم التبعية الفصائلية وارتهانها، فكل ما في يدها هو ملكية ثورية، والتحذير الشديد من محاولة تسليم السلاح، فهي خطوة تخدم العصابة الحاكمة والمحتلين على حد سواء لترسيخ سطوتهم على السوريين. 

 

• على جميع السوريين الشرفاء دعم العمل الثوري السياسي وتنشيطه، خارج أطر الأحزاب التقليدية، والهياكل المصنعة، وبعيدا عن الأفراد المرعيين من الإقليمي " س " أو " ص " فإن ذلك من أكبر الضمانات للارتقاء بالثورة السورية، ورفع أدائها، وتمتين إرادتها، والتصدي لأعدائها ومحتلي بلدها .

التعليقات (2)

    HOPE

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    العمل السياسي هو ما يكمل العمل العسكري. تاريخيا اي حرب انتهت بمفاوضات. من المفاوض عن الشعب السوري المنتفض؟ لا احد! حتى الان فشل السوريين في ايجاد جسم سياسي يرتقي لمستوى تضحيات السوريين. لقد مرت الثوره السوريه بالعديد من المراحل المفصليه التي قلبت الموازين ضد الثوار الحقيقيين وهم المدنيين لان الامر اسند الى غير اهله. يجب ايجاد بديل سياسي فاعل عن الائتلاف الذي اثبت عدم جدواه!!!

    راجي رحمة

    ·منذ سنتين 7 أشهر
    مقال يصف الواقع بدقة ويضع ثلاث نقاط رائعة تؤسس للعمل
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات