أي فكرة عبقرية صاغها ماركس هذه لفهم المساخر المتنكرة بأزياء الماضي والساعية للعب دور ما على مسرح التاريخ المعاصر.
ولعمري إن استحضار أرواح الماضي اليوم التي تتم على مرأى من أعيننا في حفلة تنكرية، إنما تسعى لأن تقتل الوجه الحقيقي لثورات الحرية، والعمل على هزيمة من يعاند التاريخ بوصفه مسار الحرية ووعي الحرية وتحقيقها.
يظهر التاريخ المسخرة في الحفلة التنكرية التي يحضرها من استفاقوا على هشاشة وجودهم الآني، فراحوا يتوسلون من الماضي أردية ولباساً يظهرون فيه بوصفهم امتدادا للتاريخ وثأراً منه. بالأمس وقف نوري المالكي خاطباً، وكأنه في ساحة المعركة القديمة في كربلاء ودون أن يرف له جفن قال: “الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم (موجودين)- موجودون- “الحسن مازال موجوداً”، “أنصار يزيد وأنصار الحسين مرة أخرى يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة، وهذا يعطينا رؤية إن الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته بعد، وإنما مازالت فصولها التي نعيشها اليوم من الإرهابيين”.
وقبل ذلك أجرى الصحفي علوني لقاءً مع زعيم جبهة النصرة الفاتح أبو محمد الجولاني الذي قال: “جبهة النصرة نتاج لتاريخ طويل من الجهاد منذ زمن محمد “ص” وكان صحابة الرسول ينتظرون ويتوخون هذا اليوم الذي نشهده وأن يكونوا جنوداً بيننا”.
“قال خِر لي يا رسول الله.. قال عليكم بالشام”. “إعادة حكم الله على الأرض”.
وبين الفاتح الجولاني والمالكي عشرات المتنكرين بثياب الماضي: حسن نصر الله والعرعور وأيمن الظواهري والصدر والحكيم وأبو بكر البغدادي، ناهيك عن عمائم إيران. كل هؤلاء يمثلون على مسرح الحياة مسرحية تنكرية بحرفية عالية.
يستعيد المالكي حادثة مقتل الحسين الذي لم يباركه ولن يباركه أحدٌ من السنة، فضلاً عن أن اسمه منتشر عند السنة. المالكي- المسخرة يلبس بزة إفرنجية وربط عنق ويترك بعض الشعر في وجهه، ولا ينسى أن يضع في إصبعه خاتماً مرصعاً بالعقيق.
ويقدم خطاباً بوصفه مقاتلاً في صفوف جيش الحسين، الذي مازال قائماً دون أن تدركه الهزيمة، ضد جيش يزيد الذي مازال هو الآخر زعيماً لأهل السنة.
يستحضر المالكي شخصيتين؛ شخصية يرفعها الشيعة إلى مستوى الرمز الإلهي هو الحسين، وشخصية لا يكاد يذكرها أحد من السنة اللهم إلا في كتب التاريخ، ليجعل احتكاره الطائفي للسلطة معنى غارقاً في القدم واستمراراً لشرعية الحسين في حقه بالخلافة المسلوبة منه. غير أن السني على طريقة “الفاتح أبو محمد الجولاني” ينكر على الشيعي انتسابه للحسين ويعلن أنه أولى به من الفرس قتلة عمر.
يظهر الجولاني في التلفزيون، قبل أن يسفر عن وجهه، وظهره إلى الجمهور متخفياً وكي يضفي على نفسه نوعاً من الوقار والهيبة والسر والغموض، يتحدث بوصفه استمراراً للصحابة ومنفذاً لحديث رسول الله “عليكم بالشام”. ثوبه الأسود لا يخفي ساعة في يده مصنوعة في أحد دول أوروبا أو اليابان.
لا ينكر المالكي اسمه ولا يتخذ اسماً حركياً فيبدو عادياً، فيما “الفاتح أو محمد الجولاني” اسم حركي مع صفة من صفات الفاتحين، ليضفي على شخصيته طابعاً أسطوريا. بعد يوم على ظهوره تكشف الحياة صورته الحقيقة- شاباً في مقتبل العمر.
يتحول الحسين من شخصية عادية سعت للاستيلاء على السلطة بوصفه الأحق بوراثة أبيه إلى شخصية أسطورية تعلن انتصار الدم على السلاح.
يرث نصر الله شخصية الحسين وتصبح كل معاركه في سوريا ملبية لنداء لبيك يا حسين ودفاعاً عن مقام السيدة زينب.
إنه السيد المنتمي إلى أهل البيت والذي يمت بقرابة إلى الحسين، ينزل جزءًا من غرته على جبهته كما كان يفعل الحسين.
ويستغرق استغراقا مطلقاً بالشخصية المأسطرة. ولهذا فهو أيضاً ذو بُعد أسطوري عند أصحابه، هذا البعد الأسطوري يخفي وراءه سياسية دنيوية بكل معنى الكلمة. الزعلان على مقتل الحسين والذي يُحيي عاشوراء يقتل مدينة كاملة اسمها القصير، ويعلن فرحاناً عبر لافتة ترفع على مئذنة أحد مساجدها مكتوب عليها: "لبيك يا حسين".
ويقف على النقيض منه شخصية تعلن نفسها أنها منتمية إلى الحسين: إنه أبو بكر البغدادي واسمه معروف إبراهيم بن عواد بن إبراهيم البكري الحسيني زعيم داعش. عندما يقف حسيني في مواجهة حسيني على أرض المعركة في سوريا يُعقد الانتماء إلى الحسين، وينزع الاحتكار عن أحد الطرفين.
صار الحسيني الشيعي أصلاً ضد الحسيني السني أصلاً. أي إن أحفاد الحسين بأزيائهم التنكرية يمثلون على المسرح كوميديا قاتلة. الحسيني الداعشي والحسيني الإلهي وجهاً لوجه على أرض سوريا. وهكذا يصطف أبطال الحفلة التنكرية وجهاً لوجه في وجه الجديد المنشود، والجديد بلاد بلا وعي طائفي يعيد التاريخ القديم على نحو كوميدي. صنّاع التاريخ- الكوميدي أو المسخرة التاريخية يعيدون سلطة المرجع، الفقيه المرجع. آية الله روح الله الخامنئي فتواه إلزامية كفتوى ابن لادن أو فتوى الظواهري، مع فارق مهم أن الفقيه الشيعي الإيراني رجل دولة كبيرة ذات أهداف خارج حدودها، فيما الفقيه السني سري هارب في جبال أفغانستان أو باكستان. إذا انحدرت قليلا من قمة الكبيرين ستلتقي بالسجستاني وعصام البرقاوي. السجستاني من بيته المتواضع في بغداد يقود الدفة دفة المركب الطائفي ويمثل دور الزاهد، وعصام البرقاوي، وارث ابن تيمية، يفتي من سجنه في عمّان بصلاح هذا السلوك أو ذاك من سلوك مساخره .
والأسير بدوره يحاول أن يكون ندّ حسن نصرالله. في الحفلة التنكرية
في الحفلة التنكرية هنا لا فرق في الجوهر بين لابس العمامة والعباءة الدينيتين من جهة، وبين لابس البزة وربطة العنق من جهة أخرى. فالمسخرة يجري استحضارها بأزياء تنكرية متعددة ومختلفة.
تظهر المسخرة على نحو أكثر كوميدية بأزياء الماضي القريب عند البعثي- العلماني الاشتراكي في الظاهر وارث عفلق والبيطار والحوارني .الابن- المودرن ورث السلطة من أب طاغية، حكم على ميشيل عفلق مؤسس البعث الذي يحكم باسمه بالإعدام، واغتال البيطار، وأودع رفاقه المسالمين ربع قرن في سجن المزة. يرتدي الابن مرة البزة وربطة العنق ليحافظ على وقاره، ومرة يلبس بنطال الجنز كي يظهر انتماءه إلى حداثة العصر.
ووراء ربطة العنق وبنطال الجنز والقميص المفتوحة أزراره من المقدمة عقل ينتمي إلى العقل الطائفي، ونفسية طاغية عصر حق الملوك الإلهي، فيستنجد بمسخرة تمثل دور القياصرة البائدين في موسكو وبولي الفقيه في طهران وأداته في الضاحية ليبدأ حفلة القتل والتدمير.
ويحكم في الظاهر بدستور كتبه له فقهاء السلطان القانونيون المتخرجون من وطن الثورة الفرنسية التي صاغت وثيقة حقوق الإنسان، دستور مزوق ببنود الحق في الحرية والعدالة والمساواة من جهة، وحق البنية التسلطية في تدمير البلاد وقتل العباد.
قد تكون هذه الحفلة التنكرية بأثواب الماضي ضرورية لانكشاف الوجه الحقيقي للتاريخ المسخرة، في مسار صناعة التاريخ الأصيل الذي يقوم الأحرار بصياغته بكل ما ينطوون عليه من نبل وروح المستقبل المنير. إنهم الوجوه الحقيقية التي لم تلبس قناع الزيف. وحده الإنسان غير المتنكر بالماضي إنسان المستقبل والحرية هو صانع التاريخ الحقيقي.
التعليقات (3)