من يريد الديمقراطية في بلادنا ومن يرجّح الوحشية فيها وتجاهها؟
هو السؤال الأكثر محورية والأكثر جدلاً واختلافاً، وتقرير ذلك نظرياً مشفوعاً بعمل سياسي أمر يسهم في نظم طبيعة علاقات ترفع المنطقة إلى مصافّ تليق بها وتستحقها بتضحياتها.
لم تترك ثورات الربيع العربي عموماً والثورة السورية خصوصاً مساحة للمناورة في الإجابة الواضحة على سؤال كهذا، فكلما ازدادت الإرادة الشعبية في الحرص على تثبيت دعائم الديمقراطية من جهتها، قوبلت برد يتجاوز منظومة الاستبداد السياسي وجرائمها إلى التوحش المهول الذي رفع لواء الخراب العمراني والاقتصادي الواسع، وقتل وتشريد شعوب بأكملها، وارتكاب كل الفظائع بحق الإنسان، يتعاضد على ذلك المحلي والإقليمي والدولي علناً، لأن أحدهم بمفرده غير قادر على مواجهة تصميم المنطقة وإرادتها في إنهاء حقبة القهر العام والقمع المتشعب والعبودية المتجذرة والذل الممنهج .
ومن الأخطاء السياسية الفادحة التفريق بين الشرق والغرب في مسايرة الديمقراطية ودعمها، بل إن الغرب أكثر همجية في سلب خيار الديمقراطية ومصادرته، وأكثر خبثاً في تمرير التوحش ودعمه سياسياً واقتصادياً، وممارسته إن اقتضت الحاجة ولم يفلح الوظيفي المحلي أو الإقليمي في أداء مهمته.
والغرب لا يتعامل مع النزعات الديمقراطية في بلادنا بدوافع الحب والكراهية لها، أو الرضا والقبول والرفض، ولكنه يأخد هذه النزعات ويتعامل معها بجدية عالية بمنطق الخوف والرعب - ربما يستغربه بعضهم - لأن أي تجربة من هذا النوع بإرادة شعبية، فيها تهديد حقيقي لمنظومة المصالح الاستعلائية التي أتقن ممارستها أكثر من قرن ونصف من الزمن .
فسلوكه المناقض لكل قيمه المعلنة والمنصوص عليها في المواثيق الدولية ليس مدفوعاً تجاه ثورات الربيع العربي بالحفاظ على مصالحه الاقتصادية - كما يتوهم بعضهم - إنما بالحفاظ على كينونته القائمة على النهب والاستحواذ والنفوذ والسيطرة الكلية؛ والإرادة الشعبية العارمة لا يمكن تطويعها ولا إدارتها ولا الهيمنة عليها إذا تمكنت سياسياً، وهذا ما لم تفهمه المعارضة التقليدية، فكان ما كان .
وعلى مستوى القرار الدولي لا يختلف مجلس الأمن بأعضائه الدائمين فيما بينهم على تجريم الديمقراطية في بلادنا، وتحريمها في منطقتنا، وهؤلاء - تحرياً للدقة السياسية - ليسوا خمسة - الواحد + أربعة يتعاضدون فيما بينهم على التصرفات الإجرامية والوسائل الهمجية، ويعدّ " الفيتو المدروس " أحدها ليس إلا، ومن أكبر الدروس والعبر السياسية التي كشفتها الثورة السورية خطيئة التقسيم بين عالم حر ديمقراطي يدعم حقوق الإنسان يتمثل في مجلس الأمن بأمريكا وبريطانيا وفرنسا ومن وراءهم، وبين عالم أوليغارشي ومستبد يتمثل بروسيا والصين ومن خلفهم، وما زالت أطياف معارضة وثوار بسطاء يروّجون عن قناعة لهذه المعادلة !
أما القانون الدولي فهو لا يعدو كونه محطة ترفيهية هامشية للتنفيس ولذر الرماد في العيون، وكل من سيعول عليه سيحصد رياحاً، والزراعة فيه هواء، ولن يدفع هذا القانون بحال من الأحوال باتجاه الديمقراطية ومحاسبة المستبدين والمجرمين، فدير ياسين وصبرا وشاتيلا وتل الزعتر، وما جرى في حماة السورية والأردن وجزائر الستينات والتسعينات، وما حدث في العراق والصومال وأفغانستان، وما ارتكب في القرم وتركمانستان وفيتنام، وفي رواندا وسائر أفريقيا، وفي سجون التعذيب وأقبية المخابرات الهمجية، والمقابر الجماعية التي هي أكثر من أن تعد؛ لن تحرك إلا كزوبعة في فنجان، ولن تثار إعلامياً إلا لتمجيد الديمقراطية الغربية، والإيهام بأثرها الكبير على المستوى الإنساني، ولتعداد إنجازاتها مع تكريس الإجرام والوحشية وحماية سياسية متقنة للمفسدين والمتوحشين والهمج، وستنتهي نتائج تحقيق المحاكم الدولية - إن شُكّلت لقضية عادلة ما - بعد جهد جهيد وإنفاق أموال طائلة لتقول كما قالت في قضية الحريري جريمة الدولة الفظيعة : لا يمكنني إدانة منظمات وبإمكاني إدانة أفراد - سليم عياش - ثم تُغفل صفته في مسماه الطائفي "حزب الله"، ومع ذلك ما زال طليقاً بعد عشر سنوات من اتهامه من قبل المحكمة الدولية الخاصة، وهو تحت عين ما يسمى " الدولة " !
ولماذا يرفض الغرب الديمقراطية في بلادنا قبل الشرق، ويدعم بقوة كل صنوف التوحش، ويمارسها بنفسه حينما تدعو الضرورة، ومستعد لما هو أفظع وأشنع ؟
فإن جواب ذلك سهل جداً وصعب للغاية، وبسيط وعميق بآن معاً .
تاريخ المنطقة وثقافتها وحيويتها لا يمكن التساهل معه، فأي تموضع سياسي ديمقراطي سيفعّل ملفات، ويبدل علاقات، ويثبت سياسات مختلفة بشكل شبه كلي عما هو عليه النظام الدولي الحالي . وثروات المنطقة واستثمارها، وآليات الاستفادة منها، وآثار ذلك محلياً وإقليمياً ودولياً، ستقلب موازين معمولاً بها حالياً رأساً على عقب، وهذا يدفع الغرب بقيادة الولايات المتحدة قبل الشرق إلى المزيد من التوحش .
وتطلعات شعب المنطقة، وآماله في استعادة قراره الداخلي ودوره المتقدم عالمياً، له مفاعيله الكبيرة في الحضور الدولي، ومعالجة مشكلات الإنسانية، وهو ما يثير غضب العصابة الدولية العارم.
إن القرار الأنسب والطريق الأقصر للمنطقة كلها، رغم الفاجعة الإنسانية التي تعيشها بإدارة ومشاركة أمريكية، ورغم التوحش الدولي وأساليبه الدنيئة؛ أن ترفع من وتيرة تركيزها على الديمقراطية التي تضم الحرية إلى العدالة الاجتماعية بمعايير شعب المنطقة وثقافته، دون تجميل الإجرام والمجرمين - العدالة التصالحية - لأن هذا القرار بما يحمله من صعوبات هائلة هو المسار الأسلم لحياة مستقبلية واعدة، والأقل تكلفة من القبول بالعصابات المحلية، ومن مسايرة الإقليمي والدولي والدخول بمشاريعهم التي لن تزيد المنطقة إلا إرهاقاً وعنتاً وجوعاً وألماً، وما نموذجا العراق ومصر عنا ببعيدين .
وفي الوقت الذي يجب فيه أن نفكر بنبذ العنف الداخلي، وتحصين السلم الاجتماعي، وإدراك الدور الثقافي، وتجذير الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية بقرار سيادي؛ فإنه علينا التفكير والعمل على إيجاد حوامل بشرية لكل هذه المعاني الراقية، التي لا تصلح لها العصابة المجرمة حتماً، كما لا تصلح لها المعارضة التقليدية والهياكل المصنّعة، التي ما فتئت تراهن على الأمريكي خصوصاً والأوروبي عموماً، متجاوزين كل تاريخهم الإجرامي السابق في منطقتنا، وضاربين بعرض الحائط كل الأدلة الواضحة على توحشهم إبان ثورات الربيع العربي، ولعل آخر نتائجها ظهوراً منذ أيام قليلة، هو المبادرة الفرنسية الأمريكية لحل مشكلة لبنان "الطائف" الذي يتهاوى جوعاً أمام الإفساد المدعوم والإجرام المغطى دولياً، والذي يعمل على تدوير عجلته بكل صلف وعنجهية وإذلال.
والخطيئة السياسية الكبرى الوثوق بالدولي أو الإقليمي الوظيفي بأنه سيتيح المجال برضا وسلاسة لهذه الحوامل البشرية بالصفات الراقية آنفة الذكر بالتموضع السياسي داخل الجغرافيا الأهم في العالم
وخلاصة القول أن صيغة منطقتنا السياسية ستظل تتأرجح بين الديمقراطية الذاتية وبين وحشية النظام الدولي وأدواته الإقليمية والمحلية حتى ترجح إحداهما على الأخرى وتحاوطها. والمعطيات والوقائع تشير إلى رجحان الديمقراطية السيادية المحلية غير المستوردة شريطة العمل السياسي المهني الواعي بأهمية هذا الخيار ومستواه .
التعليقات (7)