مهمة حيدر علييف السرية في دمشق

مهمة حيدر علييف السرية في دمشق
الحزبي وعميل المخابرات حيدر علييف معروف كرجل حزبي سوفييتي، وكزعيم وطني أذربيجاني ترأس البلاد لمدة عشرة أعوام 1993 - 2003، ثم قام بتوريث الحكم لابنه إلهام؛ وإذا نظرنا بعين جلية فإننا سنجد أن نظامه ونظام آل الأسد الديكتاتوريين يشبهان بعضهما كتوأم من القطط السيامية (1). لكن، مع ذلك، لا أحد يعرف أنه كان عميل مخابرات سوفييتياً من الطراز الأول؛ فقد خدم في وكالات أمن الدولة منذ عام 1944، وبعد عدة أعوام أصبح رئيس القسم الخامس في باكو، ثم تولى مناصب قيادية عدة حتى وصل إلى قمة جهاز "الكي. غي. بي" في بلده. 

حقق خلال سنوات عمله في دول الشرق نجاحات ملحوظة، حيث كان على دراية كاملة بالعمليات الجارية في الحزام الجيوسياسي الممتد من باكستان إلى مصر. قال مساعد رئيس المخابرات السوفييتية السابق إيغور سينتسين في كتابه "أندروبوف بالقرب": "عمل مخبراً في إيران وتركيا وباكستان وأفغانستان. وارتقى إلى منصب مقيم رفيع المستوى في كل هيئة استخباراتية أجنبية من هذه البلدان" (2). كذلك كتب مساعد الرئيس الأسبق يلتسين في القضايا الأمنية "يوري باتورين" في كتابه "ملف ضابط المخابرات" عن أنشطته في هذا المجال (3).

لعب علييف أيضاً دوراً مهماً في حل المشكلات مع دول المشرق، مستفيداً من كونه المسلم الوحيد في الكرملين؛ وبالتالي، نسج علاقات ودية مع العديد من قادة الدول، حيث زار مصر وليبيا وباكستان والأردن والعراق في بعثات دبلوماسية أو مهمات سرية غير معلنة. لا يمكن لأي شخص أن يعلو على قدرته في مناقشة القضايا الحساسة على مستوى رؤساء هذه الدول، بما في ذلك الأكاديمي المعروف والمتخصص بقضايا الشرق الأوسط يفغيني بريماكوف، الذي، بالمناسبة، تم تركيز الاهتمام عليه أكثر بكثير من علييف. ومع ذلك فقد قيّم بريماكوف أنشطة زميله في الاستخبارات على نحو عال: "أصبحت أذربيجان تحت قيادته واحدة من أكثر الجمهوريات السوفييتية ازدهاراً. تطور الاقتصاد والصناعة والزراعة بسرعة. أصبحت السينما الأذربيجانية مشهورة جداً" (4). كذلك كتب نيقولاي زينكوفيتش في كتابه "حيدر علييف. تعرجات القدر" ما يلي: "في الواقع، لقد تعامل مع القضايا الدولية كثيراً، وليس مع قضايا الشرق الأوسط فقط... في الغرب، لا يزال يُعتقد أنه كان المستشار الرئيسي لأندروبوف بشأن الوضع في العالم الإسلامي"(5).

مهمة سرية في دمشق 

في بداية عام 1984، ناقش المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي التقرير الذي أعده جهاز المخابرات "الكي. غي. بي." إلى الأمين العام للحزب يوري أندروبوف، حول توتر الوضع بين الأخوين حافظ ورفعت الأسد في سوريا. 

قررت رئاسة الحزب إرسال حيدر علييف إلى دمشق بمهمة وساطة خاصة، خوفاً من تفاقم الأمور وتحولها نحو صراع مسلح. تم تأجيل المهمة لمدة شهر بسبب الوفاة المفاجئة لأندروبوف، ومن ثم سافر إلى هناك في الفترة الممتدة من 11 إلى 13 آذار/مارس 1984.

تمت تغطية الزيارة على أنها ذات طابع رسمي بحت؛ فقد ذكر، بالتفصيل الممل للغة ذلك العصر الإعلامية الخشبية، أن رئيس الجمهورية حافظ الأسد قد استقبل الضيف بكل حفاوة وترحيب. وناقش الطرفان قضايا الوضع الدولي الراهن والحالة في الشرق الأوسط. وأكد الجانبان على الرغبة في تطوير وتعزيز علاقات الصداقة والتعاون القائمة بين البلدين، وأعربا عن ارتياحهما المتبادل لنتائج التعاون الثنائي. كذلك استقبله وزير خارجيته عبد الحليم خدام، ورئيس حكومته عبد الرؤوف الكسم. 

لكن بعد مرور وقت طويل تحدث حيدر علييف عن الغرض الأساسي لتلك المهمة السرية: "في عام 1984، تم إرسالي بشكل عاجل إلى دمشق. دار في سوريا صدام بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت الذي ترأس المخابرات حسب المعلومات الأمنية السوفييتية. لم يستطع الكرملين السماح بتغيير النظام أو الزعيم في سوريا. ذهبتُ على الفور إلى دمشق، والتقيت مع حافظ الأسد الذي خضع للعلاج. استمر اجتماعنا ثماني ساعات على الرغم من مرضه. لم يمر وقت قصير حتى أرسل شقيقه رفعت إلى إسبانيا. وهكذا تم حل المشكلة وتنفس المكتب السياسي السوفييتي الصعداء" (6).

ماذا حدث حسب رواية فاروق الشرع

تدهورت صحة حافظ الأسد بشكل مفاجئ عام 1983، لذلك نقل إلى مشفى الشامي في دمشق، وأدخل على الفور غرفة العناية المشدّدة، ولم يُسمح لأحد بزيارته. حاول رفعت الأسد الاستيلاء على السلطة، وانتشرت القوات الموالية له لتسيطر على جُل دمشق، مستغلة الفراغ الذي أحدثه مرض أخيه في حكم البلاد. ونتيجة لذلك، انقسمت سوريا إلى معسكرين متعارضين: من ناحية كانت هناك قوات رفعت المدعومة من أكثرية علوية، ومن ناحية أخرى القوات التي ظلت موالية لحافظ. 

بدأ رفعت حملته بجمع الوزراء، حيث "ألقى خطبة تمثل نقيضاً لما أعرفه أنا على الأقل عن سياسة سورية وأفكار الرئيس حافظ الأسد. كان واضحاً أنه يتحدث كمن يعتقد أن الرئيس قد دخل في مرحلة الاحتضار الأخيرة، وأنه يطرح برنامج القيادة الجديدة" (7). ثم مد نفوذه إلى بعض النخب الأكاديمية والمدنية والسياسية والاقتصادية، لذلك "أصبح يمثل قوةً في الحزب والدولة وفي بعض أحزاب الجبهة، ولكن مفارقات سلوكه السياسي الكبيرة كانت تكشف عن شخصيةٍ غير متسقةٍ. فبينما كان خطه سعودياً - أمريكياً بشكل معلن، ولم يكن يشعر بأية خشية من التصريح به، فإنه كان يتحدث بلغة ثورية "يسارية" ومعادية لـ "الإمبريالية" مع السوفيات إلى درجة أن بعض قادة الحزب الشيوعي السوري المشارك في الجبهة الوطنية التقدمية قد سوّقوا صورةً (كاستروية) له في الوسط اليساري السوري" (8)

بعد أن تشافى حافظ وتحسّنت صحته بعض الشيء عاد لممارسة عمله، حيث بدا أكثر تشككاً فيما يجري حوله، وانصبّ جل تفكيره بالطريقة التي تسمح له بالتخلص من أخيه الذي أصبح منافساً قوياً. في البداية أصدر مرسوماً يقضي بتعيين ثلاثة نواب له هم عبد الحليم خدام وزهير مشارقة ورفعت الأسد في آذار/مارس 1984. وبهذا التعيين يكون قد خفض من سلطة شقيقه. لكنه في الوقت نفسه أعطى تعليماته للشرع بالتحضير لطرد رفعت من سوريا. لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، ولا سيما أن هذا الأخير قد وسّع نفوذه وضاعف عديد أنصاره ومؤيديه ومقاتليه، وأخذت شعبيته تطغى على شعبية الجميع.   

لم يستطع الكرملين، كما هو الحال اليوم، السماح بتغيير النظام أو الرئيس السوري، الذي كان مؤيداً لإقامة علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفييتي. لذلك "في قلب هذه التطورات، وصل حيدر علييف نائب رئيس مجلس الوزراء وعضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي إلى دمشق على رأس وفد مهم. كان لوفاة يوري أندروبوف المفاجئة دوي في كل مكان، تسلم أندروبوف الحزب الشيوعي السوفياتي مباشرة بعد وفاة ليونيد بريجنيف وقاد حملة قوية وجدّية لمكافحة الفساد في دول الاتحاد السوفياتي ونُظر إليه كإصلاحي في الداخل على الرغم من نظرة الغرب السلبية له في الخارج، وخسرت سورية بغيابه حليفاً قوياً ذا قدرة على اتخاذ القرار في الماكينة البيروقراطية السوفياتية. نقل علييف إلى الأسد رسالة قسطنطين تشرنينكو، وكانت أول رسالة يوجهها القائد السوفياتي الجديد إلى غيره في العالم. وكان لذلك مغزاه السياسي في التعبير عن استمرار التحالف السوفياتي - السوري" (9)

كان لزيارة علييف وجهان: خارجي وداخلي.. تركز الخارجي على علاقة سورية المتوترة مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية؛ أما الوجه الداخلي فهو تداعيات الأزمة الناشئة بين الأخوين الأسد - حافظ ورفعت - ووقوع البلاد على شفا حرب طاحنة بينهما. لقد "وقّت السوفيات هذه الزيارة بالتزامن مع شروع الرئيس الأسد بتفكيك مفاصل الأزمة التي نشبت بين أقطاب قيادته في رسالة واضحة إلى الجميع بأن الرهان على التمرد ضد الرئيس الأسد محكوم مسبقاً بالإخفاق" (10).

استمر اللقاء بين علييف وحافظ الأسد لأكثر من ثماني ساعات، حيث نجح مبعوث الكرملين خلال هذا الوقت المارثوني في إقناع حافظ بتقديم عدد من التنازلات، والموافقة على طلب علييف بأن يلتقي رفعت أيضاً. وهنا "لم يشأ الرئيس ألا يستجيب لرغبة علييف لكنه كان متخوفاً من نزوات رفعت الذي لم يستطع بعد أن يهضم عملية نقله من قائد محاط بطقوس العظمة والغطرسة إلى مجرد نائب للرئيس يكلفه بما يراه مناسباً" (11).

خاف حافظ الأسد من هذا اللقاء المرتقب، لذلك كلف الشرع بمرافقة الزائر إلى مقر رفعت في حي المزة. وفي اللقاء "كان رفعت المتقلب الأدوار والأفكار والاتجاهات يبدو سوفياتياً أكثر من علييف. برّد علييف كثيراً من مزاجه الساخن، وربما كان متأثراً حين قرر اللقاء مع رفعت بما أشاع عنه بعض قادة الحزب الشيوعي السوري بصورة غير رسمية عن (كاسترويته)، لكنني لا أعتقد أبداً أنه خرج بعد لقائه معه بهذا الشعور، بل خرج بشيء قريب من تقييم الرئيس له إن لم يخرج بتقييم الرئيس ذاته" (12)

حاول حافظ إخراج أخيه من سوريا بأية طريقة كانت.. بداية تم الاتصال بالسفير الفرنسي لترتيب زيارة رسمية له كنائب للرئيس ومن ثم بقائه هناك؛ لكن وزارة الخارجية الفرنسية رفضت الطلب مراراً وتكراراً. ولم يبق لدى الشرع سوى الأصدقاء السوفييت، حيث تواصل مع سفيرهم في دمشق آنذاك فلاديمير يوخين. ما لبث أن وافقت بلاده عن طيب خاطر على تدبير استقبال رسمي بكامل الحفاوة والتكريم والمراسم والبروتوكولات كنائب للرئيس!

أجروا معه محادثة رسمية، حيث كال رفعت المديح للسوفييت، ووصف بلادهم بـ "أرض الأنبياء"!.. بقي هناك فترة لا بأس بها للاستجمام مع حوالي 70 ضابطاً من ضباطه، ومن ثم أكملوا الرحلة للإقامة في سويسرا!

عاد رفعت إلى سورية بطلب من حافظ، وذلك لينهي وجوده وتأثيره هناك، حيث خضع لمطالبه في التصالح مع خدام، وحضور المؤتمر القطري الثامن لحزب البعث الذي استمر بين 4 – 20 كانون الثاني/يناير 1985؛ ثم أكد ولاءه لأخيه أثناء الاستفتاء على ولاية جديدة لحكمه في 10 شباط/فبراير من نفس العام! 

ونتيجة لذلك، تمكّن الأسدان الدمويان من الاتفاق بفضل الرعاة السوفييت، وتم حل مشكلة الصراع على السلطة داخل الأسرة لفترة طويلة إلى حد ما. وغادر رفعت سوريا نهائياً، حيث عاش متنقلاً بين إسبانيا وفرنسا التي قبلت به هذه المرة!  

لماذا اختارت القيادة السوفييتية حيدر علييف لهذه المهمة الصعبة؟

لم يأت تكليفه بهذه المهمة عبثياً، بل جاء عن دراسة وفهم وإدراك. كان علييف شيعياً أذرياً ولد في 10 مايو أيار 1923 في مدينة ناخيتشيفان. لكن أصول آل علييف تأتي من قرية جومارتلي الأذربيجانية، حيث حمل بعض أسلافه لقب "الكربلائي" الفخري، وهو لقب يخص الشيعة الذين حجوا إلى كربلاء. قال حيدر علييف في مقابلة: "أنتمي إلى الدين الإسلامي بجذوري. أنا أذربيجاني الجنسية وأنا فخور بذلك" (13). في حين ينتمي الأخوان حافظ ورفعت الأسد إلى الطائفة العلوية، التي تتبع الشيعة الجعفرية الاثني عشرية، وتعتمد بشكل أساسي على كتبهم الفقهية وعقائدهم الباطنية. 

اختارت القيادة السوفييتية علييف الشيعي من أجل فك شفرة التقية الطائفية لدى حافظ ورفعت، ويصل معهما إلى حل توافقي. وبالفعل كان له ما أراد: أحدهما حصل على السلطة الأبدية له ولعائلته؛ والآخر حصل على المال والحصانة والرعاية الأوروبية.

لا شك أن موسكو لعبت دوراً حاسماً في إنقاذ النظام من الفوضى والانهيار. لكن يجب التنويه بشكل خاص إلى دور علييف في تسوية هذه الأزمة. فقد اعتبر أحد الشخصيات القليلة التي يمكن لحافظ الأسد أن يستمع لنصائحها، ولم تكن موسكو مخطئة في اختياره كمرشح لهذه المهمة الصعبة. قال الكسندر دزاسوخوف سفير الاتحاد السوفييتي في سوريا 1986-1988: "لقد سمعت الكثير من الكلمات الرقيقة عن علييف من الرئيس السوري حافظ الأسد" (14).

عند تذكر تلك الأحداث، نلاحظ على الفور الفرق بين موسكو الأمس وموسكو اليوم، والأسد الأب بالأمس والأسد الابن اليوم. لو رحل بشار الأسد، منذ بداية الأحداث لما استطاع تحويل الأزمة إلى سلسلة من المذابح والفجائع والدمار. لو فعل الروس ما فعلوه عام 1984، ودعموا الدعوات لإخراج الأسد من سوريا واستضافته على أراضيهم، لكان بإمكانهم وقف الكارثة، وربما وضع حد للمأساة السورية التي تسبب بها؟!


المراجع:

(1) يحتاج هذا الأمر لمقال خاص.

(2)- Синицин. И. Андропов вблизи. Воспоминания о временах оттепели и застоя. Москва, Центрполиграф, 2015, с.154 . 

(3) - Батурин Ю. Досье разведчика. Опыт реконструкции судьбы. Предисл. В.И.Трубникова. Москва, Молодая гвардия, Новая газета, 2005, с.347 .

(4)- Иван Кудрявцев. Гейдар Алиев: сверстники меня уважали, «Вести» (13 декабря 2003).

(5)- Зенькович Н. Гейдар Алиев. Зигзаги судьбы. Москва, Яуза, ЭКСМО, 2007, с. 566.

(6)- Андриянов В. Мираламов Г. Жизнь замечательных людей. Серия биографий. Гейдар Алиев. Москва, Молодая Гвардия, 2005, с. 134.

(7)-  فاروق الشرع. الرواية المفقودة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت 2015، ص 102.

(8)-  فاروق الشرع. الرواية المفقودة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت 2015، ص 106.

(9)-  فاروق الشرع. الرواية المفقودة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت 2015، ص 109 - 110.

(10)-  فاروق الشرع. الرواية المفقودة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت 2015، ص 110.

(11)-  فاروق الشرع. الرواية المفقودة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت 2015، ص 110.

(12)- فاروق الشرع. الرواية المفقودة. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. الطبعة الأولى. بيروت 2015، ص 111.

(13)- Гусман М. Формула власти: 55 интервью в золотом галстуке. — М.: ТЕРРА-Книжный клуб, 2005. — С. 95.

(14)- Андриянов В. Мираламов Г. Жизнь замечательных людей. Серия биографий. Гейдар Алиев. Москва, Молодая Гвардия, 2005, С. 134.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات