كيف دنس حكم البعث والأسد الجامع الأموي واقتحمه بالدبابات واللطميات وشيوخ السلاطين؟

يستطيع حال الجامع الأموي أن يختصر حال السوريين، فعندما يكون السوريون بخير يكون مسجدهم عامراً بالمصلين وطلاب العلم والمعتكفين من النساك والزهاد، وعندما يكون الوطن في أسوأ حال - كما هو حاله اليوم- يصبح تكية ويرتقي منبره كل من هب ودب، وملتقى يقصده العشاق والمتيمون للقاء هناك، دون أي مراعاة للحرمات.

مفخرة أهل الشام طيلة 13 قرنا! 

 بناه الوليد بن عبد الملك في نهاية القرن الأول الهجري وخطب خطبته الشهيرة، بأن أهل الشام يتفاخرون بمائهم وهوائهم وفاكهتهم وهو أراد أن يضيف لها مسجدهم، بقي المسجد على حاله تقريباً حتى سنة 461 هجرية "حين نشب فيه الحريق العظيم، فنسخ آياتِ حُسنه، وطمس وجه جماله، وصيّره تلالاً من التراب، وبقي على ذلك أربع عشرة سنة إلى سنة 475 حين جُدّد بأمر ملكشاه السلجوقي"، حسبما قال علي الطنطاوي في رائعته " الجامع الأموي في دمشق".

الطنطاوي يضيف أن ما فعله البشر في المسجد أكثر بكثير من الكوارث الطبيعية "فلقد انتابه الإهمال مرة حتى صار كأنه خان أو فندق، وامتلأ صحنه باللاجئين والمقيمين، وصار الرجل يجد لنفسه موضعاً فيه يضع فيه حاجاته وصندوقه، ويقيم لنفسه مقصورةً أو كوخاً، ويستقر فيه، وبلغ ما فيه من هذه المقاصير أكثر من ثلاثمئة، واتخذ فيه الأمراء حواصل ومستودعات، وبقي ذلك مدة لا يُعرف مقدارها حتى جاء الملك الظاهر، فكان من بداية إصلاحاته أن طرد هؤلاء الناس، ونظّفه وغَسَل رخامه، وفرشه وأعاده مسجداً للعبادة والعلم.

وعبث به التتر والمغول مرتين، مرة في أواخر القرن السابع الهجري، إذ عطّلوه واتخذوه معسكراً لهم، ونصبوا فيه المنجنيقات لرمي القلعة، وارتكبوا فيه أنواع الإثم والفجور. ومرة على عهد تيمورلنك الذي أساء إلى دمشق إساءة لم يأت مثلها أحد".

ذكريات الحريق المؤلم! 

ثم كان الحريق الأخير سنة 1311 الموافق لـ 1983 الذي ذهب بالمسجد كله (أي الحرم)، وجدّده أهل الشام وأعادوا له ألقه وجعلوه بصورة قريبة إلى صورته التي هو عليها اليوم.

المسجد العريق الذي يعتبر رابع أهم مسجد في العالم الإسلامي بعد الحرمين الشريفين في مكة والمدينة والمسجد الأقصى في القدس، والذي يعتبر المسجد الأقدم في العالم الذي يحتفظ بهيكله الأصلي منذ بنائه قبل 13 قرنا،  أحببت أن أعود لتاريخه عقب ما أشيع عن تعيين المنشد نور الدين خورشيد إماماً لهذا المسجد.. ثم الأخبار التي نفت القرار، وإن أوحت بأن كل شيء وارد في العبث بالمقدسات والاعتبارات التاريخية معا.

دبابات البعث وسياط مخبريه! 

نظام البعث منذ وصوله إلى السلطة عام 1963 عمد إلى إعادة هيكلة المؤسسة الدينية برمتها على قياسه وهواه، وكل المشايخ الذين نراهم اليوم هم من إنتاج هذه السلطة التي ربتهم على عينها، منتهكة بذلك الأعراف والقواعد الشرعية، حيث تم تعيين أحمد كفتارو مفتياً لسوريا منذ عام 1964 حتى وافته المنية عام 2004، كفتارو الذي يوصف بأنه مفتي البعث، جاء تعيينه – رغم وجود عشرات المراجع الفقهية والعلمية الأكفأ والأكثر أهلية- كمكافأة له على تأييده رياض المالكي مرشح البعث في الانتخابات النيابية مقابل مرشد الإخوان مصطفى السباعي عام 1957.

طبعا لا ينسى الدمشقيون أن أول سلطة غاشمة اقتحمت المسجد واعتدت على حرمته بعد غزو تيمورلنك عام 1400 للميلاد، هي سلطة البعث الانقلابية التي استولت على مقدرات البلاد.

يتذكرون جيدا اقتحام مسجدهم بالعربات المصفحة بعد انقلاب البعث، لفض اعتصام التجار عام 1965.. وترميمات المسجد في عهد حافظ الأسد، الذي عهد بها إلى مقاولين فاسدين نالت من قيمته التاريخية.. وفي عهد الوريث غير الشرعي بشار الأسد.. لن تنسى باحة المسجد سياط المخبرين والشبيحة التي انهالت على المصلين والمتظاهرين بعد إغلاق أبواب المسجد، واعتقال العشرات من داخله لمنعهم من الخروج في مظاهرة.   

بعد تلك الأحداث.. حرص النظام منذ بداية اندلاع الثورة السورية في آذار/ ماس 2011  على نقل خطبة الجمعة من الجامع الأموي، وذلك بعد أن عهد إلى محمد سعيد رمضان البوطي بارتقاء هذا المنبر، كرشوة له على تأييده لمواقف النظام، إثر إهمال طويل تعرض له هذا الشيخ المهم والمثير للريبة، ثم بعد أن اغتيل وُضع مكانه مهرج ينتحل صفة شيخ اسمه (مأمون رحمة)  ولم يلبث هذا الشيخ أن تفوق بخطابه ولغته حتى على الشبيحة، وأصبح مثار سخرية، فاضطر النظام لإقالته، وجعل منبر الأموي مداورة بين شيوخ السلطان، الذين باتوا يتسابقون من يقدم فروض الطاعة أكثر.. بموازاة إباحة فضائه للطميات ثارات الحسين المملوءة بالحقد الأعمى، والجنون الطائفي! 

شيوخ السلطان..  وأقبح إعلان! 

قبل أسابيع وأثناء مسرحية الانتخابات الرئاسية ظهر على وسائل التواصل الاجتماعي فيديو لشيوخ يدعون لبشار الأسد بالحفظ، وكأنهم في مسيرة مؤيدة، في مشهد بدا مستهجناً وغريباً، فحتى شيوخ السلطان على وقاحتهم ونفاقهم لم يكونوا يجرؤون على القيام بخطوة كهذه، ولكن هؤلاء الشيوخ من جماعة الصوفي المغالي أحمد خورشيد المتوفى عام 2010 تجرؤوا وفعلوها، ومعهم ابنه المنشد نور الدين، الذي أراد النظام أن يكافئه على فعلته هذه. صحيح أن الخبر قد نفاه خورشيد رسمياً على صفحته في الفيسبوك، بعد تماثل الخطيب توفيق البوطي للشفاء، ولكن تسريب هكذا خبر قد يكون بالون اختبار لعلماء السلطان، الذين يزعجهم دون شك تعيين مطرب كإمام للجامع الأموي.

كان النظام سابقاً يعين أزلامه من شيوخ السلطان المنخرطين في سلك الخطابة والإمامة، ولكن تعيين منشد ومغنٍ كخطيب للمسجد الأموي، لو تم فإنها لعمري سابقة في تاريخ هذا الصرح الديني الكبير، وسيذكرها التاريخ كثيراً.

خصوصاً وأن جماعة أبو النور خورشيد يعتبرها حتى شيوخ السلطان من غلاة الصوفية الذين تصوفوا قبل أن يتفقهوا، وكانوا كثيراً ما يتندرون على الشيخ أبو النور، الذي كان يعطي ما يشبه صكوك الغفران لجماعته، وله فيديو شهير على اليوتيوب في ذلك، إذ يقول فيه إنه رأى في المنام أنه وجماعته كانوا في الجنة وكانت امرأتان تريدان اللحاق بهم فمنعهما الحرس من الملائكة، ولكن عندما قالتا إنهما من جماعة الشيخ أبو النور تم فتح الأبواب على مصراعيها لهما!.

بعد مراجعة سريعة لتاريخ هذا الجامع.. يمكن القول: لأن يبقى المسجد الأموي مغلقاً أو أن يصبح تكية تؤوي الفقراء والمشردين، خير من أن يستباح حرمه بمشاهد اللطميات أو يعتلي منبره من لا علم ولا أخلاق له، ممن يتم تعيينهم بأقبية فروع الأمن. وفي ظل حكم نظام الأسد لم يعد مستغرباً اليوم أن يصبح أي رفيق طليعي ممن فاز بمسابقة رواد البعث للخطابة خطيباً، للجامع الأموي الكبير، أهم معلم ديني وتاريخي في دمشق المحروسة التي تعيش – كما جامعها – واحدة من أسوأ اللحظات السوداء في تاريخها الطويل.