تعتبر رواية (الحرب) للكاتب السوري معبد الحسون، والصادرة عن دار موازييك في إسطنبول في طبعتها الأولى عام 2021 من الروايات الديستوبية التي يتطرق فيها كاتبها للظروف السياسية والإنسانية والاجتماعية لحي من الصفيح يسمى حي"آرادمس" في ضواحي إحدى المدن السورية قبيل اندلاع الثورة؛ كما أّنّها أبانت عن جرأة الكاتب في طرح قضايا من الصعب تداولها علناً.
الحرب عتبة النص ومتنه!
يعد العنوان عنصراً من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته في الراوية الديستوبية؛ عنوان رواية (الحرب) للروائي معبد الحسون، عنوان يحيل على تاريخ "المذبحة الأسدية"، تحضر الحرب بحضورها "الفجعائي" وحضورها "الوقعائي"، حيث إن الحرب هي عتبة النص وهي مدخل النص ومتن النص، وحتى إشاراته، والعنوان هو هنا العلامة التي تعطي فرادة للكتاب وتميز النص الديستوبي عن غيره.
يختار الكاتب معبد الحسون أن يصور حياة مجموعة من الناس المهمشين في حي الصفيح (آرادمس) بيئة متخلية وترميزية لحيوات أناس سحقتهم سياسة "العصا والكرباج" في "المزرعة الأسدية"، ويختار الحكاية لتكون تحقيبية تعرج على تاريخ ما قبل "المذبحة الأسدية"، وتعالج الفترة التالية للمذبحة، وتقوم كل من الشخصيات بتقديم وجهة نظر مغايرة حيال الأحداث.
أدب من وحي مدن الصفيح
بالبدء لا بد من التعريج على معنى مصطلح الديستوبيا (Dystopia)فهي مأخوذة من اللغة اليونانية بمعنى المكان الخبيث-حسب المعاجم اللغوية الإنكليزية والفرنسية-.
لماذا رواية (الحرب) لكاتبها معبد الحسون عمل ديستوبي؟ رواية (الحرب) عمل يعكس الواقع الاجتماعي-السياسي المعاصر، وشذرات من الإنسانية، ويستنتج أسوأ سيناريوهات وأسوأ الحالات كتحذيرات للتغيير السياسي والاجتماعي القادم بعد المذبحة، وتعكس ثقافة الخوف السائدة بخبث.
لسبب آخر أفهم أن هذا النص هو نص ديستوبي؛ حيث يستلهم من أنفسنا أسوأ تصوراتها وترصد أسوأ سمات المذبحة وهي جرعة العنف الموغلة في قوة التوحش؛ هنا لا يمكن الفصل بين الواقع والترفيه؛ والأدب الديستوبي أو أدب المدينة الفاسدة أو الواقع المرير؛ هو مجتمع خيالي وغير مرغوب فيه، وهذا ترفيه، أما رواية (الحرب)؛ الواقع الديستوبي السوري ينجح حسون بتقديم واقع السوري بعد المذبحة حيث الفوضى تسود، والخراب والقتل والدمار والدم والفقر والمرض والجوع والكره؛ إنها الثقافة السائدة بعد المذبحة.
سبب آخر حامل لملمح الديستوبية الروائية في نصنا المتناول؛ تتنوع عناصر الديستوبيا في رواية (الحرب) بين الاجتماعية والسياسية والإنسانية وحتى المعيشية، كما أنها تقدم صورة جد مظلمة عن مجتمع "العصا والكرباج" الذي يفقد فيها الإنسان حريته وفردانيته وكرامته وحتى المشاعر والحلم؛ هذه خصوصية "المزرعة الأسدية" في خصوصيتها السورية.
نذكر هنا أنه يجب عدم المزج في رواية (الحرب) بين أدب الديستوبيا وأدب نهاية العالم"Apocalpse"؛ السمة الفاصلة بين النوعين كانت فخاً تيقظ له الحسون، فقد اهتم بنهاية الإنسانية وهي السمة الأساسية لتفريقها عن نهاية العالم؛ حيث الأخيرة سمتها الأساسية، نهاية الإنسان.
في رواية (الحرب) هناك علاقة وثيقة بين المكان والرواية، أصعب شيء في تحدي الكتابة هو كسب معركة الكتابة عن المدينة أو القرية؛ أورهان باموق إسطنبول في رائعته "جودت بيك وأولاده" إسطنبول المكان بوصفه لقطة روائية عبقرية، أحد أبرز من كتب عن المكان. بالتخصيص النص المتناول أثبت علاقة وثيقة ووطيدة مع المكان في حي"آردامس".
رواية المناطق المهمشة
تعتبر رواية (الحرب) قراءة لحي الصفيح (آردامس) القريب من إحدى المدن السورية، يرصد حياة السكان في هذا الحي، ويختار الكاتب مرحلة قريبة من بدء المذبحة وأحداث المذبحة؛ تحضر الحرب هنا بكونها واقع "فجائعي" بمقدار ما يكون بنفس الوقت "وقائعي" بجرعة مرعبة من الإيغال والتوحش في قوة العنف، ويصور عالم مهمشين وضحايا يذهبون ضحية هذه المذبحة التي جاءت كردة فعل على رفضه للفرد السوري؛ سلب فردانيته وحريته وكرامته.
الملمح الأول: الفوضى يسود الرواية جو من الفوضى السائدة في الحي، ويمكن أن نجد أن هذه الفوضى تعم حواس الإنسان، السمعية وأدق توصيفها، نلمحها في أغاني الحب الممزوجة بالقتل والدمار والتشريد. كلمات السب والشتم تحضر كملمح آخر للفوضى شكل من ثقافة الضحايا/الأعداء. البصرية وأدق شيء نلمحه حالة بيوت الصفيح البائسة التي تملأ الرواية تجاورها خيام الغجر الأكثر بؤساً ورثاثة، وهذا مستقى من واقع حياة الناس.
الملمح الثاني: المعاناة المعيشية للسكان؛ يصور الروائي حسون الحي حيث يظهره من المناطق المهمشة في سورية، التي يعاني أهلها يومياً من عدم وجود كهرباء وماء بالقدر الكافي نتيجة التهميش كثقافة سائدة في المزرعة الأسدية، ويظهر الكاتب المميز سطوة أخرى للعصا والكرباج، حيث موظفو القطاعات الخدمية "شلة" من المرتشين معدومي الضمير والأخلاق يقتتون على قوت يوم من يحرمونه من الخدمات التي من المفترض أن ينالوها.
الملمح الثالث: عدم مراعاة القوانين؛ من أبرز ميزات الفوضى في الحي عدم مراعاة القوانين من القائمين عليه وبالتالي لا يعتد به على محمل الجد من قبل السكان، حيث نرى مزاولة مهن من العالم السفلي على قبيل التهريب وامتهان قطع الطرق والشعوذة والاتجار بالممنوعات.
الملمح الرابع: الفقر؛ يلقي الكاتب الضوء أيضاً على الوضع المعيشي المزري للناس في الحي، نجد قاطع طريق من نوع مختلف أجبره الفقر على قطع طريق الحافلات العامة، ولكنه شكل آخر من تشكيلات خصوصية المخيلة السورية التي تختلف عن تجليات أبطال السير الشعبية المصرية لنجيب محفوظ مثل أدهم الشرقاوي والناجي وغيرهم الكثير، أو تلك الحافلة فيها النصوص الإنكليزية من قبيل "روبين هود".
روبين هود السوري!
هنا نحن أمام محاكاة لسيرة "روبين هود" السوري.. الذي لا يسرق ما خف وغلا ثمنه ولا النقود النقدية، إنه فقير المزرعة الأسدية يبحث فقط عن ما يسد رمقه مما يحمله المسافرين، إنه شكل أشد ما يكون عليه شكل السحق. الملمح الخامس الحياة الجنسية؛ يصور الكاتب حياة جنسية من نوع خاص عما هو متعارف عليه، الأمر الذي يظهر الكبت الذي يعيش فيه الحي، حيث إحدى المشعوذات ترتبط بعلاقة جنسية مع شاب يصغرها بعقدين تقريباً، الشاب عشيق العجوز يحب فتاة أخرى يراسلها عن طريق الحمام الزاجل، هذا التمثالات والتناقضات تظهر شكلا غريبا لا يتقاطع مع ثقافتنا الإسلامية. الملمح السادس ثقافة الخرافة؛ يشير الكاتب إلى ثقافة الخرافة التي تسود بين الناس، الذين يقرؤون في كتب الجن والشياطين، ويكثر المشعوذون والمشعوذات ويشير السرد إلى محبة بعضهم إطلاق لقب شيخ عليه نظراً لما لهذا اللقب من وقع على ثقافة الإنسان، حيث الشيخ شخص قريب من الله وينير طريق الناس إلى الذات الإلهية. نشاهد "زيدان" أحد شخوص الرواية يقصد المشعوذ الملقب بالشيخ "جمعة" لمحبته هذا اللقب، هنا يطلب زيدان مساعدة من المشعوذ لطرد كابوس شخص يهدد حياته ويقض مضجعه، يطلب المشعوذ بعض المواد الغريبة ومنها عضو تناسلي لضبعة، مبرراً طلبه بحاجته لضبع "مصعب أبو الحكم "الشرير الذي يهدد صفو حياة "زيدان".
والملمح السادس الحرب؛ يجسد الكاتب في هذه الرواية الديستوبية الحرب بوصفها "واقعا فجعائيا" والحرب بوصفها "واقعا وقائعيا"، وتجنب الكاتب الخوض في التحزبات والطائفية، غياب هذا الملمح؛ افترض حصول حدوثه كان سيحيل على أكثر خصوصية للديستوبيا السورية، ولم يفته التعريج على القبضة الأمنية القمعية المهددة بالقمع والسجن والقتل، زيدان المعتقل السابق الذي هو نفسه لا يعرف لماذا اعتقل، يصبح محلا لتحقيق طويل على يد عناصر الأمن الزائرة للحي حتى الموت لا يعفي الفرد في مزرعة الأبد الأسدية من قفل ملفه.
المزاوجة بين العامي والفصحى
أبرز هذه الخصائص هي لغة الرواية؛ لغة الكتابة الأدبية في رواية (الحرب)، هي لغة قلقة متحولة متحفزة تحاول أن تحاكي ديناميكية الأحداث المتوترة؛ بحكم تعامل المبدع معها انزياحياً في كثير من الأطوار.
نلاحظ في النص المتناول أن اللغة الفصحى حاضرة بقوة مدعومةً ببعض الحوارات العامية، وبعض الكلمات الفصحى توحي بشيء من التبسيط، التبسيط الذي يحمل اختيارا لغويا جديدا إلى حد بعيد.
إن نوع اللغة يجعلنا نعتقد أن الكاتب يتوجه إلى القراء السوريين بالدرجة الأولى، أو إلى الذين يعرفون بيئة سورية ولهجته ومميزاته.
إن رواية (الحرب) للروائي السوري معبد الحسون، جريئة في طرحها قضايا لم يكن بالإمكان طرحها قبل وقوع "المذبحة الأسدية"، ومؤلمة من جهة أخرى، وهي في ذات الوقت لا تخلو من الطرافة في أحيان أخرى، وسط كل ذلك نجد فوضى الحي، مضافة لها المعاناة المعيشية للسكان وفقرهم، وعدم مراعاة القوانين، والكبت في الحياة الجنسية، وشيوع ثقافة الخراب، ولا يمكن السهو ولا نسيان الحرب؛ إنها الحياة في مزرعة "الأبدية الأسدية" المنهارة.. حينما يصبح المكان مليء بالخبث والرذيلة والفساد والدمار المادي والمعنوي. إنها مدرسة حافظ الأسد النضالية، كما هندسها وورثها وحاول تأبيدها.
التعليقات (1)