غسان عبود بين المقال و"المشروع"

غسان عبود بين المقال و"المشروع"
كثيرون يقرؤون ما يكتبه الأستاذ غسان عبود ليس بصفته مقالا بل كمشروع مستقبلي تكتمل ملامحه شيئا فشيئا. وفي تناوله الأخير لظاهرة رجال الأعمال بين الزّيف والحقيقة دخل في الدائرة الأهم للبناء والبقاء... دائرة الاقتصاد والاعمال والمشاريع. 

وإذا كانت السياسة في كل دول العالم هي انعكاس للاقتصاد علميا وواقعيا، فإنها في سورية عكس ذلك إذ أصبح الاقتصاد انعكاسا للسياسة... وأي سياسة للأسف. 

عندما شرح عبود للواء هشام بختيار رئيس المخابرات العامة الذي يتحدث معه، ويَعتبر رئيس الحكومة السورية "كلباً" مقتضيات المشروع الاقتصادي الضخم ، توقعنا أن يعبر من مدخل قانوني طويل عريض يعرض لأبرز القوانين المطلوب تغييرها والأخرى التي يريد استحداثها، فمشاريع كهذه لا تستقيم بدون قوانين صارمة. لكنه وهو الأكثر خبرة ببيت الحكم يدرك أن كل القوانين ومن أبرز الخبراء يمكن أن تتماثل مع الذباب عند الحاكم طالما أن موظفاً أمنياً عنده يَعتبر رئيس الوزراء كما اعتبره. 

ما يكتبه الأستاذ غسان عبود ليس مجرد مقال، بل مشروع مستقبلي تكتمل ملامحه شيئا فشيئا.

يحضرني هنا كلام قاله لي الشهيد الرئيس رفيق الحريري عندما أقنع الرئيس الفرنسي جاك شيراك باصطحاب عشرات الخبراء القانونيين الفرنسيين إلى سورية وأبقاهم هناك في ورشة عمل ضخمة وطويلة لتحديث القوانين في سورية. وبعد ذلك التقى الحريري بشار الأسد وأبلغه ببعض ما يراه شيراك مناسبا للعمل؛ من ذلك فصل فريق حكومي كامل عن الموضوع السياسي وتفاصيل السلطة وربطه برئيس وزراء ديناميكي مطلع على أن يضم الفريق وزراء المالية والاقتصاد والعمل والعدل والأشغال والخدمات الأخرى مع وحدة قانونية ملازمة له، على أن تضع التصورات الاستثمارية وخطط التنفيذ وتوقيتاتها. وكانت النتيجة أن قاطعه بشار وسأله: "ألا تريد أن تحل المشكلة بينك وبين إميل لحود (رئيس الجمهورية اللبناني آنذاك) بدل ما أنت شاغل بالك فينا؟". فهم يومها الرئيس الشهيد أن شيئاً لن يتغير وأن المساعي غير جدية. 

إذاً، لنتفق أن موضوع القانون يمكن أن يكون سلاحاً في يد السلطة حينا، ويمكن أن تستخدمه كنكتة أحيانا إن أرادت تسخيف أمر ما. لكن موضوع تنشيط الاقتصاد لم يكن ولن يكون في أولويات المجموعة الحاكمة. وهل نسي السوريون إبان الحرب العراقية الإيرانية خلوّ سورية حتى من ورق المحارم، وكيف أن حافظ الأسد كان يقول لمن يسأله :"خلهم يفكروا بهالأشياء بس". 

هل نسي السوريون إبان الحرب العراقية الإيرانية خلوّ سورية حتى من ورق المحارم، وكيف أن حافظ الأسد كان يقول لمن يسأله :"خلهم يفكروا بهالأشياء بس". 

وعلى سيرة الفاكس، التي تطرق إليها الأستاذ غسان أيضا تحضرني حادثة عندما كنت أعمل في صحيفة تصدر من لندن ونريد لمكتب دمشق إحضار فاكس. ذهبت ليلاً إلى جبران كورية مدير الإعلام في القصر الجمهوري فتوسط لي عند شخص في وزارة الإعلام، حيث أمضيت ساعتين في انتظاره ثم حضر مساعد له ووقعني على أوراق تتضمن ضمانات بسلامة استخدام الفاكس للأمور التي توافق عليها "القوانين" فيما كنّا في الصحيفة تجاوزنا الموضوع كثيرا نحو الكمبيوترات وبرامجها لكن المسموح فيه كان فقط الفاكس مع أوراق الضمانات. 

سورية ما قبل انقلاب البعث وتصحيحاته كان رائدة في الأعمال والانفتاح والتقاليد الليبيرالية. ما زال حتى اليوم رواد صناعة النسيج في العالم من تلك الدولة التي يكره الحكم فيها أي قصة نجاح. يعرض الكاتب لما كانت عليه سورية فيقول: "هذه البيئة الصحية استقطبت وخلقت كفاءات عليا في البلاد وأيدٍ عاملة وموظفين مهرة. أما سوء إدارة البلاد من العسكر الرعاع الفاشلين في سوريا فجعل الاقتصاد الحقيقي في الحضيض، وأنشأ بدلا عنه اقتصاد الفساد لقلة من السُرّاق". 

سورية ما قبل البعث وتصحيحاته كان رائدة في الأعمال والانفتاح والتقاليد الليبيرالية. ما زال حتى اليوم رواد صناعة النسيج في العالم من تلك الدولة التي يكره الحكم فيها أي قصة نجاح. 

يحاول الكاتب إجراء مقارنات مع دول قريبة من سورية استطاعت أن تخوض الغمارين: التحديات الأمنية والتطوير الاقتصادي. لكن سورية البعث لا تفعل لسبب بسيط هو أن تلك الدول تعمل على تعزيز مفهوم الدولة أما حكم الأسد فيعمل لتعزيز مفهوم سلطته ولا سلطة من دون تخلف وقمع. 

يكتب عبود: "إن المشروع لو حدث سيُطيح بالمشاريع الطائفية ويوحد السوريين بطوائفهم بالغنى وبالطموحات. بالنهاية إن المشروع لا يخدم نظامهم الوظيفي الذي خُلق ليدمر سورية والمنطقة"... فصل الكلام في رفض المشروع.

----------------------------------

* نائب رئيس تحرير صحيفة (الراي) الكويتية

التعليقات (4)

    مواطن سوري

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    أولاً دعونا نخرج من قالب الفرد ... مهما كان عبقرياً أو متفرداً لا يوجد أي شخص بحد ذاته يملك الحق والحقيقة كلها حتى الأنبياء كانوا مؤيدين بوحي الله الذي يدلهم على الصواب ثانياُ - لماذا يصر الجميع على وحدة السوريين ... علماً أنه مبدأ خاطئ تماماً ... تحيل لوحة فيسفساء كلها من لون واحد ... أين الجمال بالموضوع ، ما نحن بحاجة إليه ليس الوحدة وإنما آليات ضمان التعايش المشترك واحترام الفرد

    Hazem. Baig

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    مقال رائع.. ومقاربة جيدة جدا.. وتدخل رجال الاقتصاد يجب أن يكون في الوقت الصح.. لمنع تكرار مأساة الشهيد الرئيس الحريري

    Hazem. Baig

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    مقال رائع.. ومقاربة جيدة جدا.. وتدخل رجال الاقتصاد يجب أن يكون في الوقت الصح.. لمنع تكرار مأساة الشهيد الرئيس الحريري

    خديجة السرجاوي

    ·منذ سنتين 10 أشهر
    ارجو التواصل مع استاز غسان عبود +905526655071
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات