قراءة في رواية (القمصان البيضاء) لابتسام تريسي: سرد ينتصر لثلاث نساء ناجيات!

قراءة في رواية (القمصان البيضاء) لابتسام تريسي: سرد ينتصر لثلاث نساء ناجيات!
 عرفت الثورة السورية عدة أقلام نسوية في الساحة الروائية، أحد هذه الأسماء وأبرزها الروائية السورية ابتسام تريسي؛ في رواية (القمصان البيضاء) الصادرة عن دار موزاييك في إسطنبول تقارب الكاتبة سيرة حياة ثلاث نساء سوريات حملن شرف لقب ثائرات، بلغة جعلت أحداث حياتهن سيرة تسمع وحركة تنظر، إنها سيرة لا يمكن نسيانها ولا السهو عنها، إنها سيرة الثورة يجسدها نتاج روائي، سيرة التاريخ وسيرة الذاكرة، فكأن الثورة هي ملاذ لشخصيات روائية نسوية جديرة أن تبقى في الذاكرة.

 

عنوان إيحائي

العنوان في رواية (القمصان البيضاء) عنوان إيحائي؛ وهو يقوم على عناصر التشويق والإثارة لدى القارئ/ة.

لماذا هذا العنوان؟ استبدلت النساء الثلاث ثوب غرفة العمليات الأبيض، بقمصان بيضاء، حيث غرفة العمليات أشبه بالزنزانة، حيث التخدير والتغييب الدائم. بالإضافة للإيحاء إلى لحظة نسوية مميزة في حياة كل امرأة وهي حفل زفافها، هذه الذكرى لا يمكن أن يطالها السهو والنسيان.

 

المتن الحكائي

في هذا العالم السردي لرواية (القمصان البيضاء) هناك حكاية ثلاث نساء هن على التوالي رشا الأخرس ومرام المصري وسلمى تركماني، لكل امرأة حكاية، ما يجمعهن الحرب والمرض العضال، ترسم الكاتبة ببراعة عوالم تلك النساء الثلاث، كيف ينهش المرض العضال الأجساد، والحرب كقيمة ازدواجية أخرى ترزح تحت ثقلها النساء، ونرى كيف يمكن التغلب على ازدواجية النهش بين مطرقة وسندان كلٍ من المرض العضال والحرب.

 

الأنسنة الروائية:

رواية (القمصان البيضاء)  ترتكز على حالة "الأنسنة الروائية" باعتبارها عنصرا من عناصر الإبداع السردي، وهي توظيف هذا العنصر بجودة وحرفية قد تحرك في كثير من الأحيان الأحداث؛ وتصوب اتجاهها بالنسبة للقارئ، وتعمق لديه أن الأنسنة والمؤنسنات في الحياة هي بعض من كسر رتابة الأشياء فيها؛ وأن المنظومة "الكلية" و"الغائية" من تطور وتراكم وتتابع الأحداث في عالمنا، وإن كانت "قَدَرية" كما هي في المطلق، فإن نقاط التوقف والتقاطع والتعامد والتضاد، بل والتشابه والتكرار أيضاً، وإن بدت نمطية وغير مدركة، وغالباً لا تتسق مع السابق، أو المأمول، أو المتوقع بل دائماً كل هذه ستجعل المؤنسن أو المؤنسنات كامنة أو رابضة أو مؤجلة!

 ولتوقيت التغيير في منح الأشياء لمسة شياكة مؤنسنة سوف نرى كيف تكمن قوة الحياة للمرأة الثائرة المريضة، فتتبدل قيم الأشياء علواً أو هبوطاً وبالتالي العادات والسلوكيات والأنماط، وإن كانت في كل الأحوال تخضع في التغيير لجذورٍ عميقة؛ إٕنها إن صح النحت ثنائية تجربة الموت و الحرب للمرأة الثائرة وهي تنجو من موت الحروب كي تواجه المرض العضال!

 قد لا تكون ظاهرة للإنسان العادي ولكنها "لقطة روائية"كامنة كمون الجينات التي تتوالد وتتفجر روائياً في ظل تجربة الحرب السورية، الصياغة السردية التي ترصد العمق النفسي للشخصيات الروائية الثلاث ذات الخصوصية، والمنتقاة بعناية، الطموحات الشخصية واستجاشة مشاعرها الكامنة بكل حساسية ورهافة وجمال؛وحيثما كان الإبداع كانت الصياغة المخالفة للواقع والمألوف والمأمول، وتظهر دلالات هي بعض من عناصر "الدراما" السردية الباطنة، أو مكنونة في سياق الحدث أو المشهد والتعبير عن الواقع كرؤية شخصية "للمبدع" أو وسمةٍ خاصةٍ به، إن في المعمار الفني الأدبي سمات حيل بنائية تلجأ إليها الأدبية تريسي، وهي تقيم دعائم وأعمدة روايتها، وهذه السمات للحيل تم توظيفها ببراعة ومهارة وحنكة، على أكمل ما يكون عليه الكمال؛ وهذا ليس بالمفاجأة من روائية لها تجربة وباع طويل ووجود على خارطة جغرافية السرد السوري؛ تحسب للمبدعة كما تحسب للنص الأدبي؛حيث تحاشت المبدعة التكرار الفج، عدم ترك السرد تحت وطأة المصادفة؛ وإن حضرت "المصادفة" بوصفها حيل روائية بارعة وواعية وبجرعات محدودة سردياً، ولم ألحظ قصوراً سردياً أو ضعفاً أو ركاكة، أو عدم مصداقية أو إقحاما متعنتا، وهذا ما يحسب للنص وصاحبة النص أيضاً.

 

صورة الزمن:

يعرف مسارها وأحيانا مذاقها،  الرواية بحركة الزمن فيها الذي أراه يتغير في رواية (قمصان بيضاء) من مرحلة لأخرى، ومن حادثة لأخرى راسمةً بذلك "وتيرة تواصلية" كما أحب أن أسميها نقدياً؛ حيث تسير الشخصيات الثلاث، محدثة "التطور المحوري" للأحداث، لذا نجد الزمن الماضي يذكر باستحضار حوادث وتاريخ ماض؛ وذلك راجع حسب اعتقادي لغياب الأهمية في الزمن الحاضر بالدرجة الأولى، وللاعتبار به في الدرجة الثانية، فيكون بذلك خادماً للخطاب السردي، مخرجاً إياه من السرد العادي إلى السرد ذي"الزمن المتباين"؛ وذلك واقع عن قصد بغية تحمل المتلقي على التفكير وربط الحوادث إنها "القراءة الناشطة" في حين نجد أن الرواية كلها استحضار للحاضر، هنا الآن، وسط حديقة لغوية سماتها جمالية اللفظ وبراعة الصورة، ولا شيء يفيض عن حاجتها.

قدمت ابتسام التريسي في رسالتها قراءة جديدة للحاضر، إنها الزمن الكتابي هنا تحدي الموت الصادر بحق النساء الثلاث، الموت الرازح تحت "قدَرية الحرب" و"قدَرية المرض العضال" والموت هنا خاضع لهذين الاحتمالين فقط لا غيرهما، الزمن الكتابي شكل للبقاء، فيحدث هنا ما أشتهي أن أسميه "فتحات التجديد"، موقفة الزمن عند القرار القدَري بالموت الذي حكم به عليهن.. معتبراً أنهن بلغن مرحلة انتهاء حياتهن ومهماتهن ولا بد من قتلهن. إنها تمارين روائية على الحياة والموت في منحدرات الحرب والمرض العضال.

يعود الخطاب السردي لاستذكار الزمن الذي انقضى، وذلك باستحضار الماضي الذي نرى فيه بعض وجودنا؛ الماضي الأسود الذي لا ينسى الزمن الكتابي الإشادة بقدرتنا على الصمود في ظل المزرعة الأسدية القائمة على نظرية العصا والكرباج، ونجد في الماضي شبابنا، وهنا نلمح ملمحا نسويا للزمن؛ الشباب الأكثر صفاءً رغم تلبد الغيوم، والأكثر حياةً في ذاكرة الأنثى رغم صور الموت، إنه حنين مشروع للأنثى، حيث لا بد من العودة للماضي لحكاية الحاضر، وهذا ما زاد من رابط العلاقة بين الرجل والمرأة داخل النص.

ويكون للمرأة داخل النص ذاك الحضور الدال على البعد "السيكولوجي"، الحامل لسيرة كل منهن..  وباعث اللغة التواقة للمستقبل فتربط المرأة أحلامها برجال لا يستحقون تضحيات النساء، هذا النقد النسوي الناعم والشفاف؛ تقوله الشخصيات بالضرورة ويبرز من خلال تراكم وتتابع وتزاحم الأحداث والسلوكيات.. إنه يشي بما يدين القهر والقيم الذكورية القهرية و الفحولية، عبر نقد لا يلغي الرجل وإنما يركز على سلبياته.

رواية (القمصان البيضاء) للروائية السورية ابتسام تريسي؛ تنتصر للأصوات النسائية الصامتة في الحرب، أو التي تاهت في دهاليز الصمت.. والتي توغل في استخدم قوة العنف الأسدية، وتقدم نقداً ثقافياً متمكناً في قالب أدبي، دون أن تفصح عن أحكامها صارحةً، إذ لا بد من مشاركة القارئ/ة في صناعة الفكرة والحدث معاً.

ترصد تريسي فترة مهمة من تاريخ سوريا الثوري، كما تعالج غموض وعدم ثبوتية النفس البشرية حيث تتشكل علاقات اجتماعية وإنسانية ترزح تحت قدرية ثنائية للموت المتربص بحياتنا والحرب وتأثير ذلك كله على خيارات الحياة وحاجاتها وخساراتها ولا سيما في الحب.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات