شيعي درس في العراق بعهد صدام: رحيل مخرج (طاش ما طاش)

أعلن مستشفى الملك فهد التخصصي في مدينة (الدمام)، بعد ظهر أمس الثلاثاء،  وفاة المخرج السعودي عبد الخالق الغانم، الذي كان يتلقى العلاج من مرض السرطان في المشفى المذكور. 

وقبيل ساعات من وفاته، كتبت زوجته المخرجة والكاتبة لورين عيسى على صفحتها في موقع «تويتر» تبتهل بالدعاء لشفاء زوجها راجية من الله عز وجل: «اللهم لا تفجعني فيه وأطل في عمره».

شيعي درس الفن في العراق!

يعتبر عبد الخالق الغانم المولود عام 1958 في منطقة سيهات بمحافظة القطيف شرق المملكة العربية السعودية، لعائلة شيعية من أصول عراقية، واحدا من أبرز المخرجين السعوديين الذين تركوا بصمتهم على الدراما السعودية الناشئة في تسعينيات القرن العشرين..  منذ تولى إخراج المسلسل الرمضاني الشهير «طاش ما طاش» للنجمين عبد الله السدحان وناصر القصبي، والذي اعتبر فاكهة الدراما الخليجية في المواسم الرمضانية على مدار خمسة عشر عاما، قبل أن ينفصل الثنائي الكوميدي عن بعضهما، وينفرد ناصر القصبي بالفرص الإنتاجية السخية التي أتاحتها له قناة إم. بي. سي بعد توقف (طاش ما طاش).

بداية مسرحية وأعمال ممنوعة من العرض!

 تلقى عبد الخالق الغانم تعليمه الثانوي في مدارس القطيف، قبل أن يتوجه إلى العراق لينتسب إلى معهد الفنون الجميلة في بغداد في ثمانينات القرن العشرين، حيث درس الفن هناك في عهد صدام حسين في أوج اشتعال الحرب العراقية الإيرانية التي دفعته للعودة إلى السعودية بسبب محدودية النشاط الفني العراقي أثناء الحرب.. فعاد عام 1987 ليبدأ مشواره بعمل مسرحي قدم في منطقة (القطيف) في المنطقة الشرقية، بعنوان:«الكرة المضيئة». 

الكاتب عبد العظيم شلي، الذي كان معاصرا لمراحل إنجاز هذا العمل المثير الذي تعرض للمنع لاحقاًَ، روى قصته في مقال تأبيني له فقال: 

 " كان المؤمل ان يعرض العمل المسرحي في الدمام ويأخذ مداه جماهيريا في المنطقة، وعلى وقع البروفات التي جرت على مسرح (الثانوية الصناعية) بالدمام.. وعند البروفة الأخيرة، جاء خبر عاجل للجمعية بأن تعرض في الجنادرية، إدارة المهرجان هي من طلبت عرض المسرحية ضمن أنشطتها الليلية وكان من المقرر تقديم أكثر من عرض، وبالفعل تم العرض الأول، وسط حضور جماهيري غفير، وتفاعل الحضور مع فكرة المسرحية، الذي تشير الى قرية محرومة من الماء وثمة رجل اهوج يتحكم في مسار تدفق الماء، وهنا بطل المسرحية عبد المحسن النمر لكي يحصل على الظفر بالزواج بالفتاة الحسناء، طلب منه والداها شرطا أن يغامر بحياته لجلب الماء لأهل القرية المحرومين من الماء.. هذه المسرحية المتميزة تم تأويلها بإسقاطات في غير محلها، وحملت فوق طاقتها، وكان مصيرها المنع نهائيا، منعت بعد عرضها الأول الذي صادف عام 1988 ولحد الآن، وكاتب السطور شاهد على بروفات وعرضها اليتيم في الجنادرية" (1)

بعد هذا العمل المسرحي الذي منع من العرض.. قرر عبد الخالق الغانم أن ينطلق نحو التلفزيون بإخراج تمثيلية تلفزيونية مدتها أقل من ساعتين بعنوان «رحلة صيد» عام 1992 عن نص لسمير الناصر.. صور فيها ضمن حبكة درامية بسيطة أخطار رحلة صيد تواجه أسماك القرش بعد تعطل القارب في عرض البحر.

بعد «رحلة صيد» أخرج عبد الخالق الغانم  مسلسلا بعنوان «الخراش» لكن  هذا المسلسل الذي تم تصويره في المنطقة الشرقية في السعودية أيضا، بمشاركة فنانين معظمهم من هذه المنطقة، كـ  (عبد الباقي البخيت، وعبدالمحسن النمر وسمير الناصر وعمر العبيدي، وبشير غنيم راشد الورثان)، شكل ضربة قاصمة أخرى لعبد الخالق الغانم بعد منعه من العرض، لأنه " لا يتفق مع العادات والتقاليد" كما رأت الرقابة حينها. 

طاش ما طاش.. نقطة التحول ومحطة الشهرة! 

بدءا من عام 1995 تولى عبد الخالق الغانم إخراج السلسلة الكوميدية الرمضانية «طاش ما طاش» التي بدأت بداية إنتاجية متواضعة في التلفزيون السعودي ومن إخراج عامر الحمود، قبل أن يتولى عبد الخالق الغانم إخراج الجزء الثالث من العمل بعد خلاف نجميه السدحان والقصبي مع المخرج عامر الحمود،  ويواظب الغانم على إخراج أجزاء المسلسل الرمضاني الشهير حتى الجزء الـ15، تاركا بصمة مميزة في فهم روح الإخراج الكوميدي، وتوظيف عناصر البيئة والحس الانتقادي الذي يتحلى به العمل من أجل ترسيخ هويته الكوميدية التي كانت أحد أهم عوامل الجذب التي حقق من خلالها جماهيريته غير المسبوقة في ذاكرة الدراما الخليجية. 

لكن (طاش ما طاش) الذي نحا بجرأة نحو انتقاد العادات الاجتماعية في السعودية، وأحيانا كثيرة الغمز من رجال الدين، لم يسلم من الانتقاد ومن دعاء خطباء المساجد في السعودية على صناعه واتهامهم بإفساد الشباب والمس بثوابت الدين، كما سمعت ذات مرة بنفسي.

مسيرة حافلة ومشاركات تمثيلية نادرة

أخرج عبد الخالق الغانم عدداً من الأعمال الدرامية «جنون المال» (2006)، و«حارتنا حلوة» (2008)، و«سكتم بكتم» (2010) و«طالع نازل» (2012)، و«من الآخر» (2012) و«يا تصيب يا تخيب» (2012)، فيما كان  مسلسل «سناب شاف» الذي أنتجته أم بي سي عام  (2017) آخر الأعمال التي حملت توقيعه الإخراجي.. إلا أن هذه الأعمال جميعها لم تضاهِ شهرة وقوة انتشار مسلسل (طاش ما طاش) ولا ما كان يثيره من جدل في أوساط المحافظين أو المتشددين في السعودية. 

بسبب روحه الكوميدية الساخرة استهوى التمثيل المخرج عبد الخالق الغانم أحيانا فظهر ممثلا في مسلسل «شوية ملح» الذي أخرجه عام 2002، وفي آخر أعماله مسلسل «سناب شاف».

رحلة تعاطف ونعي ورثاء

بعد انتشار أخبار تدهور حالته الصحية، وجد عبد الخالق الغانم تعاطفاً كبيراً في الأوساط  الفنية والثقافية الخليجية، وأطلق زميله المخرج  عامر الحمود، نداءً مناشدة لرئاسة هيئة الترفيه في السعودية التي باردت لعلاجه على حساب الدولة ما دفع الغانم لتوجيه الشكر لكل من بادر وساهم في تحمل نفقات علاجه. 

وفاة عبد الخالق الغانم أثارت ردود فعل الفنانين الذين ساهم الغانم في صنع شهرتهم وبلورة نجوميتهم...

 فكتب الممثل عبد الله السدحان: «عسى ما أصابه طهوراً ورفعة له في درجاته وعزاؤنا لأسرته الكريمة». وكتب الروائي يوسف المحيميد: «إنّ عبد الخالق الغانم كان أحد أهم رموز الدراما التلفزيونية المحلية والخليجية».

كما كتب الفنان ناصر القصبي: «فجعت بخبر موجع وفاة الصديق العزيز المخرج عبد الخالق الغانم بعد معاناة طويلة من المرض... موجع كثيراً فقدك يابو وفي لي ولكل من عرفك واقترب منك رحمة الله عليك وعزائي إلى "وفي الغانم" وإخوانه ووالدته والله يصبركم على فراقه».

كان عبد الخالق الغانم متعدد المواهب، فقد كان يساهم في كتابة بعض حلقات (طاش ما طاش) إلى جانب الإخراج، وكان يعمل في التصوير والمونتاج أحيانا، ناهيك عما كان يخوضه من نقاشات مع نجوم العمل وكتابه لتعميق أفكاره الانتقادية.

 وبالتأكيد فرحيل عبد الخالق الغانم  وهو في الثالثة والستين من العمر، أي في أوج العطاء الفني.. يشكل خسارة للدراما الخليجية التي غالبا ما استعانت بمخرجين سوريين ومصريين لم يبلغوا ما بلغه الغانم من فهم عميق للبيئة التي طالما صورها بجرأة في أعماله.. وعرف مكامن البهجة في سرد تفاصيلها ومسراتها الصغيرة.  

هامش: 

(1) عبد العظيم شلي: " عبد الخالق الغانم أيقونة الفن السعودي "، صحيفة (جهينة) الإخبارية السعودية 19/5/2021