كيف تحمي إسرائيل الأسد؟

كيف تحمي إسرائيل الأسد؟
يعتبر الكثيرون أن رحيل الأسد مرتبط إلى حد بعيد بالفيتو الإسرائيلي غير المعلن؛ وأن سقوطه مستحيل بدون رفع هذا الفيتو. وهذا يمكن فهمه من خلال تصرفات القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية طوال سنوات الحرب في سوريا، حيث اقتصر عملها على شن ضربات جوية أو صاروخية عقيمة، معظمها طال تشكيلات موالية لإيران تقاتل إلى جانب الأسد، لكنها لم تؤثر على مجرى الأحداث لا من قريب ولا من بعيد. 

من أجل فهم هذه الاستراتيجية لابد من العودة إلى بداية قرننا الحالي، حيث تم تشكيل مجموعة محددة من السياسيين والجنرالات السابقين في الموساد وهيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي بعد فترة من توريث الحكم لبشار الأسد عام 2000. قدمت مجموعة العمل هذه عدة أطروحات رئيسية حول التعامل مع حاكم دمشق، وأصبحت مع الوقت مرجعاً ومنهجاً سارت على خطاه الحكومات المتعاقبة هناك:

الأطروحة الأولى: الأسد حاكم عربي من نوع خاص.. تلقى تعليمه في الغرب وسعى إلى تحديث بلاده.

هذا غير صحيح تماماً، فقد نشأ الأسد في الأجواء القاسية لنظام والده الديكتاتوري البغيض، ولم يمكث في الغرب سوى فترة قصيرة جداً. عاش هناك منعزلاً متقوقعاً في كهف هلوساته الطائفية، وبعيداً عن أجواء الحضارة الغربية وروحها المتشبعة بأفكار التحرر والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان.

ومع ذلك لا تكمن المشكلة في السمات الشخصية لبشار الأسد فقط. نحن نتحدث عن سوء فهم عميق، ليس من قبل هؤلاء القادة الإسرائيليين فحسب، وإنما من قبل الكثيرين في الغرب والشرق، لجوهر النظام الذي شكله والده حافظ على مقاسه ومقاس أولاده فقط؛ وأبعد حتى أخاه رفعت الطامع بعرشه! 

لقد قام هذا النظام دائماً وأبداً على القمع الوحشي لإرادة سكان البلاد، وعلى سفك الدماء المستمر والغياب التام لأبسط الحقوق المدنية. في هذا الصدد لم يكن هناك فرق بين النظام السوري ونظام صدام حسين في العراق. وربما يوجد هناك اختلاف واحد فقط: صدام كان فظاً وجلفاً ولم يُخفِ جوهر نظامه القمعي؛ في حين حاول حافظ الأسد إخفاء حكمه الدموي تحت الشعارات الوطنية والتصدي والصمود في وجه إسرائيل والإمبريالية والرجعية؛ أما ابنه بشار الأسد فقد فعل ذلك عن طريق صخب خادع مزين بشعارات الإصلاح والتطوير والتحديث، وحبه للإنترنت وتولعه بالتكنولوجيا.

الأطروحة الثانية: يحافظ آل الأسد على حدود هادئة وآمنة مع إسرائيل 

التزم الأسد (الأب والابن) رسمياً بمعاهدة فك الارتباط التي عقدت بوساطة أمريكية عام 1974. إن عدم إطلاق رصاصة واحدة من طرف الحدود السورية تجاه إسرائيل، يؤكد على جدية نوايا نظام الأسد بأنه "يعرف كيف يحافظ على كلمته" بالنسبة للكثيرين في إسرائيل. 

للوهلة الأولى، هذا هو واقع الحال. لكن مع ذلك، وجد آل الأسد فرصاً أخرى للمناورة  بعدما حولوا الحدود اللبنانية مع إسرائيل إلى حدود لهم، وقاتلوا عند الحاجة عبر وسطاء: الفصائل الفلسطينية والوطنية اللبنانية في البداية، ثم "حزب الله"  و"حركة أمل" لاحقاً. إضافة لحلقة قتالية أخرى كانت تابعة لنظام الأسد فيما مضى، تمثلت في حركتي "الجهاد الإسلامي"، و"حماس" التي عاش زعيمها السياسي حتى وقت قريب في دمشق.

هناك حقيقة أخرى منعت استفزازات الأسد في هذا الجزء من الحدود تمثلت في قرب موقع دمشق الخطير وغير الآمن من مرتفعات الجولان؛ بحيث تضع أية محاولة للتحرش غير المحسوب إسرائيل عاصمتنا المحتلة من قبله، في مرمى نيران محتل آخر!

الأطروحة الثالثة: لا بديل عن الأسد بين السوريين

اعتقدت المجموعة أن إزاحة الأسد لن يؤدي بالضرورة إلى ظهور نظام أقل عدائية في دمشق تجاه الدولة اليهودية. ولم يكن هناك ما يضمن أن الأحزاب والمنظمات السياسية السورية الجديدة ستكون منفتحة على السلام معها. علاوة على ذلك، تم التذكير بتجربة ثمانينيات القرن الماضي في لبنان، عندما انتخب بشير الجميل رئيساً عام 1982، وكانت هناك آمال عريضة في توقيع معاهدة سلام مع الجارة الشمالية. لكن الجميل قُتل قبل توليه المنصب؛ وبعد فترة وجيزة تم تشكيل "حزب الله" الشيعي بدعم من إيران. 

هذا غير صحيح، لاسيما بعدما أبدت بعض أوساط المعارضة السورية انفتاحاً في العلاقات مع إسرائيل، حتى إن عدداً من روادها - ككمال اللبواني - زاروا تل أبيب وأعلنوا استعدادهم للسلام والعناق السامي؛ في حين طالب آخرون بدعم لوجيستي وأسلحة لمحاربة النظام في دمشق. اعتقد هؤلاء السُذَّج أنه يمكن بمساعدة الحكومة الإسرائيلية إسقاط الأسد وتأسيس نظام معتدل جديد في دمشق. لكن في الحقيقة لا ترغب إسرائيل بأن تكون هناك دولة ديمقراطية قوية أخرى على حدودها أو في محيطها الإقليمي، لأن هذا يشكل خطراً عليها ويسحب منها حق احتكار هذه الصفة الوحيدة التي تروج لها ليل نهار، وتكسب بسببها الحماية والدعم والمساعدات الأمريكية والأوروبية.

الأطروحة الرابعة: التماهي مع الموقف الروسي في سوريا يصب في مصلحة إسرائيل

هناك اتفاق غير علني بين موسكو وتل أبيب يؤكد على عدم السماح للأسد بالتحول كلياً إلى المعسكر الإيراني، والسعي إلى إعادة هيكلة جيشه كيلا يصبح ميليشيات غير منضبطة، على نمط أحزاب الله المنتشرة في العراق ولبنان واليمن وأماكن أخرى، والتي تتبع طهران وتنفذ أوامرها بكل حذافيرها. 

كذلك تم إنشاء ما يسمى بآلية خفض التصعيد بينهما، والغرض الرئيسي منها هو الحفاظ على التواصل وقت الضرورة بين الجيش الإسرائيلي والتشكيلات الروسية المنتشرة على الأراضي السورية لمنع وقوع الحوادث، لاسيما بعد كارثة طائرة "إيل -20" التي تسببت بمقتل 15 عسكرياً روسياً كانوا على متنها. وبموجب هذه الآلية يقوم الجيش الإسرائيلي منذ عام 2013 بضرب الأفراد والمواقع والبنية التحتية لـ "فيلق القدس" و"حزب الله" على أراضي سوريا، إضافة إلى المستودعات التي تحتوي على الصواريخ الموجهة للحزب. 

أثبتت هذه الآلية نجاحها على مدار السنوات الماضية، وتم تجنب الحوادث تقريباً سواء أثناء عمليات سلاح الجو الإسرائيلي أو في الحالات التي تنتهك فيها الطائرات الروسية المجال الجوي لتل أبيب. 

تخاف إسرائيل من خفض مستوى الحوار مع موسكو، لأن هذا يحد من قدرات جيشها في السماء السورية. لذلك، أصبحت موسكو الوجهة الرئيسة لبنيامين نتنياهو في السنوات الأخيرة بدلاً من واشنطن؛ حيث جرى اتفاق سياسي مبدئي على أعلى مستوى يمنح إسرائيل حرية التصرف في سوريا. لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فمن الواضح أن الضربات التي يشنها سلاح الجو الإسرائيلي على مواقع التنظيمات الحليفة لموسكو في سوريا تخلق عقبات أمام الجيش الروسي. 

اعتقدت إسرائيل أن بوتين قادر على لعب دور ضابط إيقاعات الدم التي يسفكها كل المشاركين في الأرض السورية، ويوقف أي عازف منهم في أية لحظة؛ لكن هذا الاعتقاد كان وهماً؛ فإيران تصول وتجول بميليشياتها في طول وعرض الأراضي السورية، وتقترب بهدوء وصمت وبشكل مموه من حدود الكيان الصهيوني رغم كل الضربات التي توجه إليها! 

الأطروحة الخامسة: العلاقات بين الأسد وإيران آنية ويمكن إيقافها

اعتبرت المجموعة آنفة الذكر أن العلاقات بين إيران الأصولية وسوريا العلمانية مصطنعة وغير طبيعية. وما دام هذا الاتصال "مصطنعاً وغير طبيعي"، فيمكن قطعه بسهولة. لكن كيف؟

افترضت المجموعة أن استعادة الأسد لهضبة الجولان، سيدمر علاقته بآية الله وينهيها. ولهذا السبب أصرت على اعتبار توقيع معاهدة سلام مع بشار الأسد هو أعلى مصلحة استراتيجية لدولة إسرائيل. 

ومرة أخرى: للوهلة الأولى، يبدو هذا منطقياً من الناحية النظرية، لكن في الواقع يتبين أنه خطأ جسيم صب في صالح إيران، التي أخذت تتولى زمام الأمور في سوريا نتيجة لتقاعس إسرائيل وتفرض سلطة أمر الواقع على الجميع، بما فيهم الأسد بعدما أدركت ضعفه وهشاشة نظامه، وتحوله إلى مجرد دجاجة عقيمة لا يمكنها أن تبيض!

وهكذا يتضح أن الأطروحات الإسرائيلية السابقة حول الأسد خاطئة، ولا يمكن الدفاع عنها على الإطلاق، وتفصح بشكل لا لبس فيه الكيفية التي يحمي بها هذا الكيان الغاشم كياناً غاشماً آخر يتمثل بالأسد وعصابته؛ ولكن بدون الإعلان عن ذلك.

هذا الكيان لا يأبه بمصير السوريين كما يدّعي أحياناً؛ إذ كيف له أن يأبه بمصيرهم وهو يضطهد ويلاحق ويعتقل العرب الفلسطينيين ويدمر بيوتهم ومدنهم وقراهم؟   

إن بيبي (بنيامين نتنياهو) هو الوجه الآخر لبيشو (بشار الأسد)؛ وصنع الجميل للشيطان ربما يعطيك الجحيم مكافأة - حسب المثل التشيكي!

التعليقات (2)

    آشور

    ·منذ سنتين 11 شهر
    بناء عليه نفهم لماذا جرى القضاء على المقاومات الوطنية المدنية في لبنان وفلسطين وبرزت مقاومات إسلامية ضررها أكبر من فائدتها لقضايانا .. استخدم المجرم حافظ الاسد المقاومة لتلميع صورته "الأسود من الفحم" .. لعنت آلهة المشرق روحه

    غفار

    ·منذ سنتين 11 شهر
    هذا النص دراسة عميقة توضح العلاقة بين الأنظمة الاستبدادية وليس مجرد مقال، تحيات
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات