علي الرز يكتب: ألم السفر.. حلم التراب الفلسطيني

علي الرز يكتب: ألم السفر.. حلم التراب الفلسطيني
أمي، هل هو مؤلم السفر للقاء بأبي؟ 

مؤلم يا صغيرتي إلا أنه لن يكون أكبر من ألمي أنا. سترينه في مكان أفضل وتكملان مسيرة الحزن على من بقي تحت رحمة هؤلاء الأوغاد الذين يجن جنونهم من قدرتنا على التجدد بعد الموت. قال لي ذلك المستوطن وهو يدوس بجزمته على رقبتي ما حسبكم، ألم نقتلكِ ثلاث مرات قبل الآن؟ أنتِ نفسك تعودين إلى الحياة وتضريبيني بحجر؟ تغرزين أظافرك في وجهي بعدما سحبناها في التحقيق؟ هل أنتِ بشر؟

بالتأكيد أنا بشر وأنت غير ذلك. قتلت غيري وتهيأ لك أنك قتلتني، وإذا قتلتني فسيدة أخرى ستغرز أظافرها في وجهك ويتهيأ لك أنها أنا. أما عن ضربك بحجر فأنا للحقيقة أضربك بثلاثة. واحد نيابة عن زوجي الذي قتلتموه ظناً منكم أنكم بذلك تخففون من كتل الرمل في أرضنا وتكشفونها على صخور الهيكل. وآخر بالأصالة عن نفسي، أنا التي كان زوجي وطناً صغيراً مربوطاً بحبل سرة وطنه الأكبر، وكلما ضربت الحجر وأصبت ما تحت خوذتكم تسلل الأوكسجين أكثر إلى جسدي وتمدد الرمل أكثر في مساحات وطني. وثالث نيابة عن ابنتي الصغيرة التي أريد لها أن ترث ذلك الحجر بصفته ورسالته ووظيفته... وكأنكم كنتم تعرفون ذلك الميراث، لذلك فجرتم السقف فوق غرفتها في الملجأ فطحنتم عظامها وها هي تنتظر القدر علّه يخفف عنها مشقة السفر.

من وحدة الدم إلى وحدة الألم. هذه الطفلة التي تتلاشى وتنطفئ أمامي تسألني عن ألم السفر إلى والدها، فقد أخبرتها أن والدها مسافر واعدة نفسي بأن أقول لها الحقيقة بعدما تتجاوز الأعوام الستة. عرفت في لحظة الحقيقة أن السفر كان يعني الموت ولم ترد أن تكشف كذبتي فسايرتني في المعنى وسألتني عن ألم السفر وهي تقصد ألم الموت.

آه كم وددت لو أشرح لها أننا من موت إلى آخر. موت طابور الذل على معابر الاحتلال. موت الحصار الاقتصادي والمعيشي. موت الحقوق المسلوبة في الأرض والوطن. موت استباحة فلسطين واستغلالها من قبل تجار «القضية» شرقا وغرباً. موت القمع والوحشية والعنصرية. موت الجوع والتجويع والتعطيش. موت السجون المكتظة بزينة الشباب والشابات. موت التجاهل الدولي الأقرب إلى التواطؤ. وحده الحلم نجا من الموت فأصابهم بالجنون لأنه يحيي الأمل بضوء في نهاية النفق... فالحلم لا تكشفه القبب الحديد ولا الأقمار الاصطناعية ولا أجهزة الاستخبارات ولا أساليب التعذيب.

لم تعد ابنتي تسأل عن ألم «السفر». يبدو أنها قطعت شوطاً كبيراً في الطريق إلى والدها، أو ربما لم أعد أسمع صوتها من آلاف القنابل التي تقصفنا. سافري يا حبيبتي خفف الله عنك ألم عظامك المطحونة. سلمي على والدك وقولي له إنه أنجب ابنة وحلماً، وأن فلذة كبده ستعود إليه تاركة مليون حلم خلفها.

كل وليد هو حلم بفلسطين وكل شهيد هو حلم بفلسطين... أما عني يا ابنتي فسأجمع مع نساء الحي في الملجأ ركام الحجارة لرجم المحتل كلما كان ذلك متاحاً، وسأطيل أظافري مجدداً لأغرزها في وجهه البشع.

سافرت ابنتي رحمها الله... تمددت فلسطين.

المصدر: جريدة الرأي الكويتية 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات