شيخان من دمشق

شيخان من دمشق
الأول معروف جداً ولا يعمل إلا تحت الأضواء، وكلما تقدم في العمر تقدم كرشه معه إلى الأمام .. والثاني في منتصف العمر يعمل بعيداً عن الأضواء وكلما تقدم في العمر هزل بدنه.

الأول لا يحمل شهادات عليا ولم يكن يوماً أكثر من موظف، لكنه تمتع بامتيازات المشيخوت من مصالح مادية وأعمال تجارية تتهافت على شيخنا صاحب البركة، ولم يكن لديه وقت كثير للعمل الاجتماعي إلا بمقدار ما يحتاجه الـ "لوك" المطلوب .. أما الثاني فيحمل شهادات عليا في العلوم المادية والشرعية، لم يحاول يوماً أن يستثمر مكانته ولم يبحث عن منصب وعاش مكتفياً بكفاف يومه، لكنه فكر بالآخرين وبالعمل الاجتماعي فصمم وقاد وأنجز مشروعاً سكنيا نموذجياً من حيث التصميم والتنفيذ ومراعاة البيئة وبأقساط مريحة ساعدت كثيراً من الشباب على الزواج. 

الأول وفي بداية الثورة نهى تلاميذه عن إثارة الفوضى والتظاهر من الجامع الذي يخطب به لأن في ذلك انتهاكاً لحرمته وهدوئه، وكان قد خرج من مدرسته الفكرية الآلاف من الراضين بمصيرهم كعبيد والمبهورين كيف يثبت لهم كل يوم عظمة الله التي يعرفونها عبر قصص المعجزات التي وللعجب لا يصادفها في الحياة إلا الكهنوت المختارين من الله أمثاله كما يفهم عقلنا المحدود .. أما الثاني الذي سبق ومنعه النظام من الخطابة فقد كان يعمل على تأهيل شباب هم من أطلق الثورة السلمية وشجعهم ونظمهم لهذه الغاية وقادهم، ومن ثم عندما آن الأوان وحمل بعضهم البندقية وجههم فكانوا أرقى من حمل سلاحاً في الثورة دون أي تجاوز أو انتهاكات حتى بحق أعدائهم، لكن؛ لم يعرف عنه ولم يدع يوماً أنه صادف معجزة، ربما لأنه ليس مختاراً.

الأول التزم عدم الجهر برأيه بأي شكل أول الثورة وبقي صامتاً لأشهر ثم غادر سوريا لكن بقي صامتاً لخوفه على أهله، وبعد التحاقهم به ظل صامتاً لأنه لا يريد قطع خطوط العودة، فالله يعلم من سينتصر في النهاية، وعدا حالات نادرة وبتصريح حمّال أوجه؛ فهو لا زال صامتاً حتى ينجلي غبار المعركة .. أما الثاني فقد باشر العمل منذ اليوم الأول للثورة وعندما ضاقت الأحوال ولوحق في دمشق قرر الدخول في حصاره في الغوطة ليتابع نشاطه ومعه بعض من تلاميذه فكانوا مثال الالتزام الثوري الأخلاقي الديني المنفتح، وأحرق كل مراكبه مع النظام. 

الأول تابع نشاطه بعد خروجه من سوريا إلى بلاد الله الجميلة الكثيرة ليلتحق بكل هيئة مشيخوت "خمس نجوم" وبرامج "إسلام شو" خاصة عندما يتم تصوير الـ "شو" وسط المناظر الخلابة في أرقى المنتجعات، ولا زال مستمراً في "جهاده" هذا .. أما الثاني فلم يهتم بالظهور إلا عند الشدة وحيث الخطر، فرفض الانحياز في اقتتال بين الإخوة وأخذ دور الناقد الناصح الذي يشير إلى البوصلة مهما كلفه ذلك من ضغوط ومخاطر، وبعد سقوط الغوطة وتهجيره مرة ثانية بقي في المحرر متابعاً نشاطه التوعوي والاجتماعي رافضاً الالتحاق بأقرانه في الخارج والتمتع ولو بهدنة.

الأول لم يستخدم مصطلح "ثورة" يوماً بل سماها في حالات قليلة اضطر فيها للتعبير، سماها "أزمة" تماماً كما يسميها النظام الأسدي الذي لم يتناوله يوماً بكلمة ناقدة مباشرة، لكنه لم ينسَ أن يرسل مندوباً يمثله في واجهات المعارضة ليبقى فيها ويعض عليها بالنواجذ، فالدنيا دوارة وربما انتصرت الثورة .. أما الثاني فلم يستخدم يوماً إلا مصطلح "ثورة" مسمياً عدو الأحرار السوريين وبالاسم بوضوح في كل مناسبة لكنه رفض الالتحاق بالمناصب السياسية والشرعية المعروضة، ثم بات له ممثل في "الجنة" بعد استشهاد أحب الناس إليه.

الأول وعند كل هجمة وحشية كبيرة (لأن القتل والتهجير والتدمير اليومي المحدود والمعتاد لا يستحق اهتمامه)، عند كل هجمة وحشية كبيرة لا ينسى تذكيرنا أن ما يحصل لنا هو نتيجة فسقنا وقلة ديننا ثم يساهم بلائحة "دعوات إلى الله" بلا تحديد للقاتل ولا الضحية ولا السبب خالية من كل ما يمكن أن يعطيها هوية، لائحة "شفافة" يمكن استخدامها من قبل سكان الهند والصين والمريخ، لائحة حتى الشيطان يرتاح لحياديّتها عبقرية الصياغة .. أما الثاني وبكل مناسبة ومهما كان القتل محدوداً ومن قلب حصاره يقول لنا كم يحبنا الله لأنه أعطانا شرف الثورة، وللمفارقة لا يقدم لنا أي "لائحة دعوات" بل يبشرنا بالنصر ويحثنا على الاستمرار والوعي لنستحق نصر الله.

الأول لم يُسمع منه يوماً ذكرٌ لكلمة "ثائر مقاتل" لا خيرا ولا انتقاداً وكأن هذه الحالة لا وجود لها ولم يوجد يوماً جيش حر .. أما الثاني فلا يتوانى عن حثنا على الصمود بوجه النظام بكل الوسائل مقدماً التحية لمقاتلي الحرية لكن لا ينسى تقريع أي تعدٍ على المدنيين من قبل من يحمل السلاح. 

الأول تعب من كل ما يجري ويحنّ لأيام زمان الدعة والسكون المستنقعي جارّاً خلفه كل المتعبين ولو عن غير قصد وحسن نية في موقفه هذا .. أما  الثاني فيشكر الله على الخلاص من خمسين عاماً من الذل، ويقول إنه لا حرية بلا ثمن، ويشحذ همم المتعبين ليبث فيها الطاقة لتستمر حتى تحقيق النصر المحقق بإذن الله أو الشهادة إن سبقت وجاء الأجل.

لكن .. ومع تقديرنا الكبير للثاني، فإن الأول ورغم كل المآخذ عليه؛ فإنه يبقى في خانة تغيير المنكر لكن بـ"أضعف الإيمان" في الثورة السورية لكن مع أقل قدر من الخسائر ما تيسر له ذلك (فلا شيء بلا خسائر هنا)، لكنه لا يقارن بمن باع نفسه ودينه للنظام الأسدي بأي شكل. 

في النهاية، وبعكس المقدمة الممجوجة في مقدمة المسلسلات؛ الشخصيتان حقيقيتان وينطبق عليهما حالات لشخصيات كثيرة أخرى حقيقية، وكلها في طرف الثورة السورية .. أما من هم خارجها وأضرابهم من الكهنوت "متعدد الأزياء"، فمقامهم في مقال آخر قريب.

التعليقات (2)

    شكري شيخاني

    ·منذ سنتين 11 شهر
    سرد جميل جدا" واقعي للاول والثاني

    مسلم

    ·منذ سنتين 11 شهر
    تقييم دقيق وعميق يغيب يعسر على أذهان العامة
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات