دافع عن معتقلي الرأي حتى اعتقل معهم: حبيب عيسى المحامي الذي حيّر مخابرات الأسد!

دافع عن معتقلي الرأي حتى اعتقل معهم: حبيب عيسى المحامي الذي حيّر مخابرات الأسد!
ما يزال خبر رحيل المحامي والمعارض السياسي السوري حبيب عيسى يحظى باهتمام النخبة السياسية التي عاصرت هذا الحقوقي البارز الذي كان له نشاط مميز في فترة ربيع دمشق في بداية توريث الحكم بالقوة لبشار الأسد عام 2000. حيث كان المحامي الذي يطالب به كل معتقلي الرأي لثقتهم بإخلاصه لقضيتهم ولنزاهته في الدفاع عن نشطاء الرأي.. ولإيمانهم – من جهة أخرى- أن انتماءه العلوي ربما يشفع له قليلا ويحميه من الأذى لدى بعض كلاب السلطة الصغار. 

مأمون الحمصي: كنت أنتظر أن أرد له مواقفه النبيلة

ما تزال الكتابات تتوالى عنه لترسم صورة شبه مجهولة بالنسبة للكثيرين عن رجل قارع الاستبداد، وتمرد على انتمائه الطائفي، وآمن بهويته الوطنية السورية، وبفكره السياسي العروبي الناصري. حيث اعتبر النائب السابق مأمون الحمصي أن  خبر وفاة الأستاذ عيسى مؤلم ومفجع وكتب يقول: 

"خبر مفجع مؤلم وفاة المناضل الكبير حبيب عيسى رحمه الله عزوجل. كم كنت أنتظر اليوم الذي أرد له مواقفه النبيلة  حين اعتقالي لم يتركني كان يدافع عني بالقانون وكان يشد على يدي وهو يقول لي: "أبو ياسين خليك قوي" رحمك الله يا أبا عصمت وأحر التعازي للعائلة الكريمة وحفظ الله من كان معنا في تلك الأحداث المناضل الجبل أنور البني"

صبري عيسى: صديق العمر الذي هجر الصحافة باكراً

وكان المحامي الأستاذ حبيب عيسى المولود في مصياف بمحافظة حماه عام 1944 لأسرة فقيرة، قد وافته المنية يوم الثامن عشر من نيسان/ إبريل عن 77 عاماً، في مدينة دمشق.. متأثرا بإصابته بفيروس كورونا.

درس حبيب عيسى الثانوية في ثانوية عبد الحميد الزهراوي في مدينة حمص، ثم عمل مدرسا لفترة من الوقت، قبل أن يتابع تعليمه العالي وينتسب إلى كلية الحقوق في جامعة دمشق ويتخرج منها محاميا. وقد عمل حبيب عيسى لفترة من الزمن في الصحافة، حيث عمل محررا في صحيفة (الثورة) في سبعينيات القرن العشرين... وعن ذلك يكتب زميله الأستاذ صبري عيسى، المخرج الصحفي المخضرم في جريدة الثورة سابقاً، فيقول على صفحته على فيسبوك:  

" علاقتي بالصديق أبو عصمت تعود الى حوالي نصف قرن عندما عمل معنا في صحيفة الثورة ، ولم يمكث فيها طويلا لأنه ادرك أن قصة الصحافة في بلدنا عبارة عن كذبة كبيرة، وأن سقف النشر لن يوفر له حرية التعبير عن أفكاره وأحلامه في الدفاع عن حياة الناس وأحلامهم ، لذا غادر الصحافة رغم أنه كان متميزا وصادقا في كتاباته ، وآثر امتهان المحاماة كمهنة يستطع فيها الدفاع عن المظلومين والتعبير عن أحلامه بوطن سعيد تحكمه قوانين العدالة والحرية  ، وهذا ماعمل له طوال عمله كمحامٍ ليس عن الناس فقط بل عن رؤيته الشاملة في حلمه الكبير في الوحدة العربية ، وكان من أقرب الناس إلى فكر المفكر العروبي د . عصمت سيف الدولة ، حتى أنه أطلق اسم المفكر الكبير على أكبر أولاده. إيمانه  بضرورة الوحدة العربية كإطار قومي للوطن العربي كان هاجسه الأكبر، وبقي يعتبر نفسه مواطنا من الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة ، كما كان حريصا على إعلان ذلك في صدر صفحته على الفيسبوك".  

عاش المناضل الكبير الأستاذ حبيب عيسى عمره وهو يدفع غاليا ثمن محبته لوطنه وأمضى أفضل سنوات عمره داخل السجن ولم يتوقف عن إعلان مواقفه بشجاعة في كل المناسبات والفعاليات المحلية أوالمؤتمرات التي شارك فيها ، وكان حضوره فيها مؤثرا في إغناء الحوارات التي كانت تتم في هذه المؤتمرات ، ودائما كان يطرح ومكررا سؤاله: ما العمل؟ ودائما كان يجيب على سؤاله ببث رسائل محبة  إلى غاليته دمشق ،  وتحت عنوانه المفضل (صباح الياسمين يادمشق)

المحامي مهند الحسني: مخابرات الأسد "احتاروا بربه"!  

بعد افتتاح السيدة سهير الأتاسي لمنتدى جمال الأتاسي في بداية ربيع دمشق كان الأستاذ حبيب عيسى ناطقا باسم المنتدى، الذي كان يخضع بالطبع لمراقبة مخابرات الأسد، وقد روى المحامي مهند الحسني في شهادته عنه كيف حيرت نشاطات الأستاذ حبيب وانتماءاته السياسية مخابرات نظام الأسد فكتب على صفحته على الفيسبوك يقول: 

" حبيب عيسى ناصري من جماعة جمال الأتاسي. لكنه في حقيقته شيوعي من جماعة رياض الترك.....؟

 هذا بالحرف ما جاء في قرار الاتهام الصادر عن أمام محكمة أمن الدولة العليا إبان اعتقال العشرة الأفاضل على خلفية حركة المنتديات أو ما كان يعرف بربيع دمشق في سبتمبر 2001.

وبينما كان قضاة المحكمة مجتمعين دخلت عليهم  قلت لهم: سأذهب معكم فيما ذهبتم إليه بعبارة "جماعة" رغم تحفظي على عقلية الزعامة و الجماعة في السياسة  لكن يبقى السؤال الملح: هل يعقل أن يجمع المعارض ما بين جماعتين مختلفتين إيديولوجيا وفكرياً....؟

رد علي رئيس النيابة العامة ضاحكاً وقال: ولك حتى المخابرات احتاروا بربه. فرع صنفه على أنه شيوعي وفرع ثاني صنفه على أنه إسلامي و فرع ثالث قال عنه علماني و هو يقول عن نفسه قومي وعروبي. طيب احترنا يا قرعة من أين نبوسك وأنا لازم أدبج قرار الاتهام ....؟

رغم القشعريرة التي سرت بجسدي من رد " القضاة "  لكني أدركت أن أمام موكل سوري صميمي على مسافة متساوية من الجميع.  أيقنت أني أمثل هامة وطنية عالية حيرت حتى طباخي الافتراءات. لن أنسى قهقهتك العالية و وقفة العز وأنت تتلقى الحكم عليك بالسجن خمسة سنوات مع الشغل والنفاذ. وأن جميع محاولاتي لإقناعك بتقديم طلب ترحم لتنال بموجبه وقف حكم نافد أو ربع مدة كانت قد باءت بالفشل.

لن أنسى مواقف الرجولة معي بعد  اغترابي وخيانة من كان يعتبر أقرب الأصدقاء لي و بيعهم أملاكي بتحريض من نقابة المحامين بدمشق انتقاماً مني. اليوم خسرت سوريا هامة وطنية عالية. مات حبيب عيسى وبقيت سوريا وبقي الحلم بغد أفضل مشرق وكريم. العزاء للأهل والأصدقاء". 

فواز تللو: زنزانة وموقف ورسالة!

وتبقى فترة اعتقال الأستاذ حبيب عيسى بين عامي 2001- 2006  وكيف عاش في الزنزانة الانفرادية سنوات أربع، واحدة من المحطات الهامة التي رسمت جزءا من صورة هذا المعارض النبيل.. وعما جرى في فترة السجن بالتفاصيل الدقيقة من الداخل، يقدم لنا الكاتب والسياسي فواز تللو شهادة هامة وقد شاركه تجربة السجن نفسها  فيقول: 

اعتقلنا انا وحبيب عيسى في نفس الساعة والقضية، وقضينا لاحقا بعض الوقت معا في الزنازين لنختمها بأربع سنوات في الزنازين الانفرادية.

تعرفت على الراحل عن قرب بعد اعتقالنا، فكان أن نشأت بيننا صداقة عميقة خالصة لوجه الله ثم لأجل سوريا الحرة، ومن خلاله تعرفت على وجه آخر للقوميين العرب ناصريي الاتجاه تيار الراحل عصمت سيف الدولة”، وجه جميل لم أكن أعلم بوجوده وسط التشويه الذي ألحقه كثيرون بهذا التيار، من المنتمين له، لكن “أبو عصمت” كان مختلفا جدا جدا لدرجة يحسبه كل من عرفه بأنه ينتمي لتياره وفكره، فعنده كنت تجد سوريا التي تحب وتحلم. أيضا من خلال الأخ الكبير الراحل “أبو عصمت” ومثله أصدقاء قليلين رائعين، منهم من بات خارج سوريا ومنهم من بقي هناك في “الضيعة” في جبال الساحل الجميلة؛ رأيت من خلال “أبو عصمت” وهؤلاء القلة الرائعين الوجه الطيب والوطني للعلوي السوري .. وجه ظللت دائما أحلم واتمنى وجوده وتحقق حلمي بهؤلاء الرائعين ومنهم الرائع “أبو عصمت”، العلوي الوطني الذي تنسى معه الانتماء الطائفي والإيديولوجي والطبقي والمناطقي ليبقى الانتماء لوطن حر هو المشترك دون أن يلغي هوية منها.

كثير يمكن أن يقال عن “حبيب عيسى /أبو عصمت”، لكنني سأكتفي بموقف ورسالة.

أما الموقف فكان يوم دخل علينا رئيس فرع التحقيق في الأمن السياسي الوضيع “عدنان محمود” مع عناصره ، كنا في الزنزانة معا وحدنا منذ شهرين بعد سلسلة تنقلات سبقتها جمعتني أو فرقتني عنه في زنازين مختلفة، وكان القرار الذي علمنا به بعدها بدقائق هو نقلنا للزنازين الانفرادية التي قضينا فيها أربع سنوات في زنزانتين متقابلتين، لنخرج معا في نفس اللحظة، تماما كما اعتقلنا قبلها بما يقارب الخمس سنوات.

دخل علينا الوضيع رئيس الفرع مع عناصره ونظرات الحقد تنز منه، وقال “ضبوا أغراضكم” ، وهي عبارة من قاموس الاعتقال في سوريا تعني المجهول الذي يبدأ بحلم إطلاق السراح والحرية وصولا للانتقال إلى زنزانة انفرادية كالقبر لعشرين سنة تالية.

سألت “خير إن شاء الله؟”، فكان الجواب بأن ضربني، ففهمت المآل، لم أتوجع بل تسلحت بنظرة غضب وصمت، لكن “أبو عصمت” لم يتمالك نفسه وبدأ يغلي غضبا وقد كانت تلك المرة الوحيدة التي شاهدته فيها غاضبا طوال معرفتي به حتى رحيله، فقد كان دائما هادئا متحكما بنفسه، لكنه فعلها مرة، لا غضبا لنفسه بل غضبا لأجلي.

خرجت من الزنزانة مقادا من قبل بعض العناصر وعندها انفجر غضبا بوجه العميد رئيس الفرع الذي أمر عناصره بالإمساك به بإحكام خوفا من رد فعله ثم انهال عليه ضربا بينما كان “أبو عصمت” يصرخ مع كل ضربة أسمعها؛ يصرخ بصوت عال جدا (على غير عادته)، صوت ملؤه التحدي والاحتقار لسجانه الجبان المدجج بالسلطة والأعوان، كان يصرخ مع كل ضربة تنهال عليه بتحد واحتقار: “ضروب (اضرب).. ضروب.. ضروب..).

أما الرسالة فقبل أشهر، وكانت بعد سنوات من انقطاع التواصل بيننا، فأنا أدع للآخرين مبادرة الاتصال ما داموا تحت سلطة المجرمين داخل سوريا حتى لا أسبب لهم الأذى، فكانت رسالة من صديق وطني مشترك بيننا لا علاقة له بالسياسة حيث كتب يقول لي أن جاء ذكري في حديث بينهما فقال له أبو عصمت بحب وفخر في آن (واكتفي بذكر مقطع صغير من الرسالة مع صديقنا المشترك):

“المحامي حبيب عيسى صديقي, بيسلم عليك وقللي أنو مرة أنت قلت لشخص ما إذا “حبيب” بيصلي إمام أنا بقتدي فيه”.

في الزنازين الانفرادية كنا نتبادل الكلام أنا وهو ورفاقنا المعتقلون عبر أبواب الزنارين ولذلك قصص طويلة تروى، لكن أكثرها حزنا كانت قصة “أبو عصمت” يوم سقطت بغداد، فمنذ ذلك اليوم التزم الصمت التام حزنا، صمتا استمر لما يقارب الثلاث سنوات لأسمع صوته من جديد يوم خروجنا. ظننت أنه عاد كما كان، لكن الأمر لم يكن كذلك، فقد بقى بحكم الصامت حتى رحيله، صامتا من أجل بغداد فدمشق وكل ما يحيط بنا من مآسٍ".

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات