الإعلام والجمهور السوري: السلاح القاتل!

الإعلام والجمهور السوري: السلاح القاتل!
(صَوِّرْ، صَوِّرْ، خلي الدنيا تشوف الإجرام) جملة آمرة مستجدية طالما سمعها العالم من أفواه كثير من السوريين المنكوبين من القصف والمجازر تخاطب مراسلي أورينت والوسائل الإعلامية الأخرى الذين تواجدوا مع الحدث. واضح أن هذه الكلمات كانت تعبر عن إصرار السوريين أن لا تمر جرائم "نظام" بشار أسد والميليشيات التابعة له دون أن يعرف العالم بها، ذلك وبفضل امتيازات الهاتف النقال أصبح آلاف من الشباب والفتيات ناشطين ومراسلين، مئات قتلتهم ميليشيات أسد لأجل صورة! ليقال عن الحرب السورية: "إنها الحرب الأكثر توثيقا في التاريخ"*؛ واضح أن السوريين خافوا أن يقتلوا وتدمر حواضرهم بصمت كما حدث مع أهالي حماة في مذبحة فبراير 1982؛ مساكين السوريون، ظنوا الظنون الطيبة في المجتمع الدولي! فقد ظنوا أنه لن يرضى عن انتهاك حقوق إنسانيتهم بهذه الوحشية وأنه سيوقف أسد عن قتلهم وتدمير مدنهم وقراهم!

قضيت بضع ساعات أتصفح ما وقع بين يدي من دراسات ومقالات غربية وعربية عن الإعلام والثورة السورية؛ مُخزٍ وطفولي وكيدي المكتوب باللغة العربية، بالمطلق ليس هدف الكتابات المعرفة، ففيها كثير من المعلومات المغلوطة والتعاميم المجحفة. هدفها يمكن حصره بالانتقام من هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك لأن "الكاتب/ المحلل" لم يجد له فيها عملاً وظيفياً، أو كان مستجدياً لعمل وظيفي، أو مسترضياً لهذا النظام السياسي أو ذاك، أو لتناقضها عن وجهة نظره السياسية وانتماءاته!

أعطى الإعلام التلفزيوني الغربي الناطق بالعربية أملاً كبيراً للمتظاهرين السوريين بأنه معهم ولن يتركهم وحيدين حينما غطى المظاهرات ومن وجهة نظر المتظاهرين من اللحظة الأولى لانطلاقها، كفرانس 24 و البي بي سي وقناة الحرة، لكن هذه التغطية بعد حوالي أربعة أشهر من انطلاق المظاهرات أصبحت حذرة وقدمت روايات نظام أسد على روايات المتظاهرين بميل بدأ يتوضح شيئا فشيئا تجاه روايات نظام أسد. البعض ادعى أن المسيحيين العرب المسيطرين على مراكز التحرير الإعلامي في هذه الوسائل وفي عدد من كبريات التلفزيونات العربية هم وراء هذا الانقلاب، لكني أظن أن خلف هذه الحكاية آمر عمليات أعطى أمره لهدف أظن أن القارئ عرفه بعدما انجلت الوقائع عن الكارثة! 

الإعلام الغربي عموما أبدى اهتمامه بالثورة في بداياتها، لكن بمرور الوقت تبنى خطاب الحرب الأهلية، وأن المعادين لنظام أسد إسلاميون متطرفون كارهون للقيم الغربية والإنسانية، عموما، وقد اتحدوا مع مقاتلين متطرفين أتوا من دول عدة، بما فيها الدول الغربية، ضد نظام يقرون بإجرامه لكنهم يجدونه أفضل مما ينقله إعلامهم عن تصرفات متوحشة لتشكيلة من المتطرفين تسيطر على شوارع المدن السورية وتهدد بنقل نشاطهم إلى أوروبا. ولسنوات لم تخرج التغطية الإعلامية الغربية خارج هذين الإطارين، ولم يعن الإعلام الغربي مطلقا أن يسأل: كيف وصل هؤلاء المقاتلون إلى سورية ومن ساعدهم ومن قدم لهم السلاح والمال ليتمددوا فيها؟! وهذا ما أربك الجمهور الغربي من القضية السورية فأخرجها من دائرة اهتمامه، بعدما عاداها وعادى كل ما يخرج منها وعنها لسنوات. ويمكننا أيضا أن نعتبر أن عدم إنصاف تغطية الإعلام الغربي ربما يعود لمنع  نظام أسد دخول وسائل إعلام غربية أو صحفيين غربيين، إلا انتقاءً حسب من تتطابق وجهة نظرهم مع روايته للأحداث، وكان قد اغتال فعلا عددا من الصحفيين الغربيين الذين تسللوا إلى سورية لتغطية الحدث على حقيقته.

 القنوات العربية الرئيسية، وأخص الجزيرة والعربية، تحفظت على نقل المظاهرات لأسابيع، لكنها بعد ذلك تبنت روايات الثورة بالكامل، ثم تحولت إلى سلاح ضد نظام أسد، لكنها دخلت في استقطابات وتقاطعات حادة وتبنت جهات سياسية مختلفة عن الأخرى، وهذا ما عزز انقسام آراء المشاهد العربي عموما والسوري خصوصا، وأربك إمكانية خلق رأي عام موحد تجاه المجزرة السورية الكبرى التي اتضحت نتائجها بنهايتها حينما خسر السوريون والعرب والعالم كله بلداً كان اسمه سورية وشعباً سورياً ابتلع الشتات نصفه والنصف الآخر يبتلعه الفقر وويلاته ككوارث الأمراض الجسدية والأمراض الاجتماعية المدمرة!

في سورية انتشرت وسائل إعلام الاسترزاق (صحف، مواقع، إذاعات، وأفلام وثائقية ومراكز أبحاث..)، تمولها جهات ومنظمات غربية وعربية تحمل شبهات فساد وأجندات خاصة يمكن تلخيص أهدافها بالتالي: 

 إظهار السوريين وكأنهم قادمون من مجاهل التاريخ سماتهم الجهل والتطرف الديني والعنف الوحشي، حيث ركزت على القصص الشاذة في المعركة عن واقع المرأة خصوصا والمجتمع عموما، وهذه تخصص بها الإعلام والأعمال الوثائقية الممولة من منظمات غربية؛ أما الممولة من حكومات عربية فكانت ولا تزال تحاول أن تأخذ السوريين رهائن ومرتزقة مؤيدين لصراعاتها مع هذه الدولة أو تلك، لكن جميعها اتفقت على مبدأ معارضة نظام أسد، الذي كان إعلامه يصوره بطلا وبأن جيشه مقدس يقاتل بشراسة ملايين المقاتلين من القاعدة ومن إرهابيين ومرتزقة، يقتل كل يوم منهم ألوفا على شريط أخبار تلفزيوناته ومانشيت الصحف التابعة له، وأنه يتصدى لمؤامرة عالمية ضده وضد سورية تقودها عشرات الدول العظمى والصغرى، هدفهم تدمير الدولة العصرية الديمقراطية واحة التسامح الديني والحوار سورية التي يحكمها، وأنه بعدما يقضي على الإرهابيين الذين يستهدفون وجود الأقليات في المنطقة التي هو حاميهم ستعود الدولة مزدهرة غنية! رواية لا يصدقها عقل لكنّ كثيراً من وسائل الإعلام الناطقة بالعربية في مصر وتونس وغيرها تبنتها و حشت بها عقول جمهورها، كما وجدت الرواية لها طريقا في عدد من وسائل الإعلام الغربية اليمينية أيضا! 

لم يكن هدف إعلام نظام أسد الأب ولا الولد الحقيقة أبدا ولا تعنيهم، لكن هدفهم كان إرباك الجمهور لجعل عملية فهم ما هو صحيح وما هو خطأ قضية صعبة، كما أن هذه العملية ستخلق رواية يستعين الخائفون الرماديون بها من بطش أجهزة أمن أسد بهم إن هم فهموا واقع الحال وقرروا تغييره والوقوف مع الثورة ضد نظامه! فالفهم سيؤدي بهم إلى اتخاذ موقف وهم في أعماقهم الخائفة لا يريدون أن يتخذوا موقفا ربما يدفعون ثمنه! وللأسف وسائل إعلام الارتزاق المعارض مارست نفس سياسة إعلام أسد لكن من وجهة نظر معارضة، ربما لأن معظم كوادرها ناشطون وغير مؤهلين إعلاميا، وهمهم الرواتب والامتيازات وإرضاء الممول مما أوقعها في أفخاخ إعلامية عدة أكثرها خطورة الفخ الطائفي، {سيكون لنا وقفة قادمة مع هذا الموضوع} فحولت قضية إنسانية ومذبحة مرعبة بحجم المذبحة السورية إلى حالة سخرية ونكايات ومكايدات قادها ثلة تسيطر عليهم حد الهوس شهوة الحضور!

مثلما غذّت وسائل التواصل الاجتماعي وسائل الإعلام العربية والسورية بالمادة الإعلامية، كذلك استمدت منها التحليلات والمواقف والآراء، هذه الحالة الإعلامية جعلت للحدث روايات مختلفة، وبالتالي، مواقف متناقضة منه، وهذا بدوره ساهم في تقسيم الجمهور السوري في بداية الثورة إلى ثلاثة أقسام: مؤيد للحراك الثوري وآخر معارض له والثالث رمادي لا يعنيه الطرفان كأنه في غيبوبة خارج الحدث مطلقا لا بل وخارج جغرافيته! للأسف موقفه هذا جعله الفريق الذي دفع أبهظ الأثمان. 

فيما بعد تشظى الجمهور السوري بتعدد وتشظي الكتل السياسية التي في معظمها الأعم تكتلات ساذجة ليس لها برنامج لكن هدفها السعي لأن تكون على قائمة المعارضات التي انشغل بترتيبها ديمستورا لسنوات وشغل بها الدول الغربية والعربية وشغل السوريين بكل فئاتهم عن القضية الكبرى للسوريين، الحرية، وعن المذبحة التي يتعرضون لها لأجل ذلك، {وسيكون لنا وقفة تالية مع هذه الطامة}!؟ طبعا هذا المشهد ولّد مشاحنات شهدتها صفحات السوشيال ميديا، وخلق استقطابات معزولة كل فئة تبحث عن رفقاء متقاربين في التفكير والانتماء، ووصل السوريون إلى حالة انغلاق تام، كل مجموعة شكلت جزيرة عزلت نفسها داخلها عن الآخر المختلف، لا بل أصبح أي نقاش مختلف لأي مقتحم للجزيرة مصادفة أو عنوة ينتهي بالتشاتم الحاد، هذا إذا لم يبدأ به أصلا! وتحولت الكلمات إلى رصاص يقتل ويمزق ويدمر المجتمع، حتى بات شرح مفهوم شعب سوري حاليا قضية معقدة! وبالنتيجة أصبح الخطاب الإعلامي بمرور الوقت توجهه وجهات نظر تلك الجزر المنعزلة تماما، وبالتالي أصبح هو الآخر أكثر استقطابا وانعزالا، وخصوصا المجتمع السُني الذي نشأت داخله ألف جزيرة وجزيرة ليس بينها جسور! وهذا الواقع الإعلامي انعكس على الوعي العربي الجمعي تجاه القضية السورية فهو الآخر تشظى وتناقض حسب انتماء فئاته، واستسلم بعد ذلك إلى اللامبالاة!

تشخيص الداء يُسهلُ وصف الدواء.

يبقى أن إعلام ميليشيا بشار أسد أقل خطورة لأن تاريخه تاريخ من التزييف والكذب، وهو ليس فاعلا حتى في وعي الموالين لأسد أنفسهم. لكن الخطورة الكبرى في عملية تزييف الوعي تكمن في الإعلام العالمي والعربي وكذلك في الإعلام الذي يُظن أنه محسوب على الثورة.

دائما وأبدا الحل سوري ويكذبكم من يوكلكم إلى الدول الكبرى. فلو رجعنا إلى التقرير الأمريكي الاستخباراتي الأخير الصادر 9/أبريل/2021  لعرفنا أن لا شيء يحمينا جميعا من النهاية المأساوية، فالتقرير يؤكد أن التراجع الاقتصادي والأزمات الإنسانية ستزداد شراسة لسنوات قادمة في سورية، وسيزداد معها الصراع وتتشكل ميليشيات جديدة تتقاتل وبدماء السوريين. إذاً اللامبالاة والاستقطابات والجزر المعزولة لن تحمي أحداً، وأبناؤكم اليوم كما في الغد القريب، ربما لعشرات السنوات، ستكون دماؤهم راوية للمذبحة دون أي قيمة وهدف، وسيزداد الخراب والجوع والمرض وهدر الكرامات وسفح الأعراض. لذلك على النخب السورية، رجال الفكر والسياسة والمال، أن يبدؤوا بالبحث عن بعضهم ويبدؤوا معركة الحوار العقلاني ونبذ الخلاف؛ وأن يشكلوا تجمعا وطنيا، سيكون من السهل عليه أن يجد حاملا دوليا يحمله، الكل مقتول إن بقينا على عدائنا لبعضنا ولا حوار يجمعنا، وأعتقد أن الواقع الذي نحن فيه أفضل دليل على أننا نسير نحو الهلاك. وحدتنا قوتنا وكل ما عدا ذلك آمال ورغبات.

الغريب أنه حتى النخب تصرفت كما العامة، وتفرقت وتشرذمت فتقزمت، وعزلت نفسها داخل فقاعات لا تتصل ببعضها، فكثير من رجال المال والمعارضين والكتاب والمحللين تعادوا فيما بينهم وعادوا من خالفهم الرأي والموقف(!؟) 


*مع بداية الثورة توفر لتلفزيون أورينت نحو 3 آلاف ناشط راسلوه بصور وفيديوهات وأخبار تقريبا من كل شارع في سورية، قتل نظام أسد المئات منهم!

اقرأ أيضا:

من يملك مفتاح السلام مع إسرائيل الأقلية أم الأكثرية؟!

سوريا وتركيا: تَقَلُّب السياسة والجغرافيا!

ماذا تستطيع السياسة لدى الثورة السورية فعله مع إيران؟!

الطائر السوري الحرّ في المصيدة القطرية*

السعودية بين الهم السوري والتحدي الإيراني

روسيا وسياسة الاحتمال الواحد!

أمريكا والمسألة السورية

التعليقات (4)

    Neman

    ·منذ 3 سنوات 20 ساعة
    سوريا كانت بخير .و بشار لا يريد أن يضر أحدا. فقام بعفو رئاسي . ولكن إعلام الخليج أراد إضاعة البلاد والناس ركضت وراء الخليج . ونسيت أن الخليج لا يحبون سوريا . لانها شريفة.

    KHALED EL AJLANI

    ·منذ 3 سنوات 20 ساعة
    مقال جيد وواقعي . الوضع تم ايجازه بنجاح . 1[المقدمة واصرار السوريين محاكمة بشار وحافظ للجرائم والخيانات المرتكبة منذ ستين عاما . 2[انحياز الاعلام الغربي والخليجي للانظمة الدكتاتورية . 3[المؤامرة الاميركية والعالمية على المصير السوري تهيئة لقيام اسرائيل الكبرى..

    Wafi

    ·منذ 3 سنوات 20 ساعة
    من الهام دخول منظمات خيرية .لإصلاح محطات كهرباء حلب .فأهل حلب يتمنون من يصلح محطة كهرباء مدينتهم . وهذا ما يجب أن يفعله السوريين .منظمات دولية لإصلاح الكهرباء .

    احمد الديري

    ·منذ 3 سنوات 20 ساعة
    كلام واقعي ومدروس الكل متآمر عل الشعب السوري الحر فقط لأنها ثوره الحريه والكرامة شكرا استاذ غسان لتبيين الحقائق وصوغها
4

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات