أمريكا والمسألة السورية

أمريكا والمسألة السورية
لقد أتينا على ذكر أمريكا مراراً في مقالاتنا السابقة التي نقدمها حول قضيتنا الوطنية السورية، فأمريكا في كل زاوية في المسألة السورية والملف السوري ملف أمريكي بامتياز. يقول كيسنجر المهندس الأهم للسياسة الأمريكية الدولية: "نحن لا نستطيع الانسحاب من الشرق الأوسط. لكننا نحتاج إلى وضع إستراتيجية واضحة حول طبيعة تدخلاتنا في المنطقة". إذاً في هذه المرحلة من التاريخ أمريكا ليست دولة خارجية بالنسبة للعرب، وبل ونكاد نجزم أنها ليست دولة خارجية بالنسبة إلى أية دولة في هذا العالم. فهي حاضرة سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتقنياً وعلمياً بهذه الصورة أو تلك في حياة المجتمعات الإنسانية. كرهنا ذلك أم أحببناه، صحيح أن درجات حضورها مختلفة الشدة والضعف في هذه المجتمعات، لكنها إحدى الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ البشري التي لها قول وفعل في كل مشكلات العالم وقضاياه، بما فيها القضية السورية. 

أمريكا دولة إمبراطورية تتكامل لديها أسباب القوة: المعرفية والعلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية والعسكرية والسكانية، وهذا مكّنها من التعامل مع العالم بوصفه حدودها الجيوسياسية، فهي أول دولة في تاريخ الإنسانية حدودها العالم كله، وهي الدولة الوحيدة في التاريخ البشري التي لم يَعْتدِ أحدٌ على حدودها، وكل حروبها خاضتها خارج حدودها منذ استقلالها، لذلك بات طرح أي دولة كبيرة كانت أم صغيرة لفكرة الاستقلال الوطني التام يثير السخرية، فأمريكا طالما عطلت سيادة دول عدة لفترة قصيرة أوطويلة، ومؤخرا أربع دول عربية أزالت أمريكا سيادتها بالكامل، كما أن لأمريكا قواعد عسكرية في اليابان وأوروبا وأستراليا، لا تستطيع هذه الدول حتى مناقشة أمر إزالتها! كما أن عقل أمريكا الإمبراطوري يحدد سلوكها إذ وصل بها الأمر إلى درجة مخاطبة دول عظمى باستخفاف، كما حدث مع الصين مرات عدة، وألمانيا حين طالبها ترامب بكلفة حمايتها! ولمن يريد الاستزادة بإمكانه العودة إلى مراجع الإحصاء وسيتأكد أن الفوارق شاسعة بالقوة العسكرية والاقتصادية والعلمية البحثية بين أمريكا والدول العظمى مجتمعة!

دعونا نتفق على الأوليات الثابتة للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أولاً: ضمان التدفق الحر لموارد الطاقة من المنطقة. ثانياً: ضمان أمن إسرائيل. ثالثاً: الحفاظ على القوة الأمريكية فيه. لذلك لن يكون مقبولا لأي دولة أو تحالف دول أن يتحدى هذه الضمانات الثلاث، ومؤخرا أضاف صناع السياسة الأمريكية هدفين آخرين: منع انتشار أسلحة الدمار الشامل ومكافحة الإرهاب. واجهت أمريكا وستواجه أي مساس بالمنطقة العربية، وخصوصا مناطق إنتاج الطاقة، سواء كانت من قوى خارجية أو حتى من محاولات عربية، راديكالية أو محافظة، تطرح الاستقلال السياسي النسبي عن الهيمنة الأمريكية، (تجربة العراق). كما أن مصالحها هي مؤشر سلوكها، فهي لا مع الإسلام ولا ضده بحد ذاته، ولا مع الدكتاتوريات ولا ضدها، ولا هي مع الجمهوريات أو الملكيات ولا ضدها، بل هي مع مصالحها فقط.

سورية في عيون السياسة الأمريكية

سأعود للأحداث التي حددت العلاقة بين أمريكا وسورية في عهد الأسد الأب والولد، لفهم العلاقة الملتبسة والمتناقضة في وعي كثير من السوريين. تتوسط سورية بين فلسطين واﻷردن ولبنان والعراق وتركيا، فموقعها هذا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية يعتبر خطيرا ويجب ضبط ما يجري فيها، لذلك خمسون عاماً تقريباً وأمريكا تتعامل مع نظام تعرف حدود فعله ومواطن ضعفه، ومتى تحمله على هذا السلوك أو ذاك. وتعرف أن همه الوحيد الذي يحركه هو البقاء في السلطة مهما كان الثمن الذي سيدفعه والمهمة التي ينفذها. لذلك لا ترى أمريكا أنه يشكل خطرا عليها طالما هو يقوم بوظائف نافعة للهيمنة الأمريكية، ولأنه نظام مأسور بهمه السلطوي وضع سورية ضمن أسره بدل المراهنة على انتعاش الدولة بمقابل خدماته، فهو ذاته النظام الذي تحالف معها في الحرب على العراق وسلمها قوائم بالحركات الأصولية، وهو نفسه الذي دمر حضور منظمة التحرير الفلسطينية منذ استلامه حكم سورية ودمر المقاومة الوطنية اللبنانية الداعمة لها، ومنح إسرائيل أراضي سورية استراتيجية تضمن حمايتها، ونفسه الذي دمر لبنان المثال (سويسرا الشرق) وحوله إلى رماد، نفسه الذي يساهم في تحويل سورية إلى كانتونات سيكون جبرها عملية معقدة.

نعتقد أن أوباما كان مرتاحا لقمع أسد المفرط للسوريين، فالأسد الذي اختار إطلاق العنان للقوة العسكرية ضد شعبه، كان من المفترض بسلوكه هذا أن تتحول سوريا إلى السيناريو الليبي وهو تدخل عسكري مفوض من الأمم المتحدة وقيادة الناتو، أو تدخل عسكري أمريكي أحادي كما حصل في مرات سابقة، وخصوصا أن مظاهرات السوريين الأولى تميزت بشعارات ليبرالية وضد أعداء أمريكا، وكأن المتظاهرين أدركوا أن السياسة الأمريكية لن تخذل شعبا يطلب مساعدتها ضد هيمنة عدوين لها الروسي والإيراني(!) لكن تقارير عدة كشفت أن أوباما اعتمد السلبية المتخاذلة في سياسته تجاه سورية، مستندة إلى موقفه الزائف من استخدام ميليشيا أسد للأسلحة الكيماوية، وكذلك نكتة الخطوط الحمر الكاذبة، فالسياسة الأمريكية ليس لديها خطوط حمراء في قضايا حقوق الإنسان والقضايا التي لا تمس مصلحتها الوطنية. كما أن سياسة اللين التي مارستها أمريكا تجاه الفيتو الروسي الصيني المتكرر ورفضها التدخل عسكرياً أعطى للأسد رخصة بالإبادة. وأوباما كذلك تلاعب على مظاهرات السوريين، حينما اعتمد سياسة استخدام سلاح الكلمات ضد جرائم أسد، ولو كانت الكلمات أسلحة لاحتل المعتوهون، كنصر الله وأشباهه، العالم، وحرر أوباما سورية من أسرها قبل إلقاء خطابه الثاني حولها! 

 فضّل أوباما أن تلعب أمريكا دوراً لا مرئياً في الصراع في سورية لذلك اعتمد سياسة الأعمال السرية التي لا تكلف الكثير ولا تجتذب الكثير من الانتباه والانتقاد، فأنشأ وحافظ على توازن الكتل وتوازن التدخلات فيها وليس إنهاؤها، ونقل سلطة التمرد من الناشطين السلميين إلى رجال مسلحين يفتقرون للعلم والمعرفة والسياسة، وخان الفصائل حين دعمها لكن أصر على تسليحها بأسلحة خفيفة وذخائر تقطع متابعتها الهجوم، معتمدا سياسة الدعم بسلاح لا يحقق نصرا لكنه يجعل الصراع أكثر دموية وديمومة ليتعفن ويتقيح! كما ميّع الحل السياسي الذي كان سيجنب سورية الانزلاق إلى حرب مسلحة بالوكالة شغل فيها أعداء أمريكا وأصدقاءها بحرب على التراب السوري، فاستيقظ الشعب السوري من حلم بحياة حرّة على خراب واسع!  

كذلك حاولت إدارة السياسة الخارجية لأوباما إخفاء جرائم أسد ما استطاعت عن الإعلام الأمريكي والعالمي، ولعل خير مثال الضغط الذي مارسته على مجلس النواب الأمريكي لمنع قيصر من فضح جرائم الأسد، وترك سورية تحترق، وعندما سئل مسؤول أمريكي عن السبب في ذلك قال: "نخشى أن تسألنا وسائل الإعلام بعد ذلك {أي بعد التعرف على الجرائم التي تحصل في سورية} وعما سنفعله حيال ذلك"، لأنهم ببساطة لا يريدون فعل شيء! 

 نعتقد أنه من الخطأ الظن بأن الوجود الروسي والإيراني يشكل عقبة أمام حل أمريكي للمسألة السورية، أو أن وجودهما خارج التوافق الأمريكي. وندرك أن أمريكا لن توافق لا الآن ولا في المستقبل أن يكون لإيران الدور الفاعل في مصير سوريا، أو أن يستفرد الروس بحل سياسي لسورية كما أن الاثنين لا مقدرة فعالة لديهما أساسا، وكنا قد بيّنا هذا في مقالات سابقة.

تدرك أمريكا أن "نظام" أسد لم يعد قابلا للحياة، وأن الاحتلال الروسي في دوامة لا يملك لها حلا، لكنها تريد بديلا مشابها للسلطة الأسدية الرثة من حيث الوظيفة وليس نقيضا له، وهذا البديل غير متوافر بعد. وبالتالي لماذا عليها أن تساعد في إسقاط نظام لا تعرف بديله؟ لكننا نعتقد أنه بإمكان أمريكا المساعدة على نشأة نظام يُؤمِن بالشراكة مقابل حق الشعب السوري بحياة توفر له وفرة تساعده على ترميم بلده وعلى حياة آمنة، فأمريكا تقود العالم وهي تغذيه بالتقنية المتطورة والعالم في زمانها أكثر إشراقا وتنويرا وتطورا، ولا يمكن أن تكون تكلفة ذلك من جيب دافع الضرائب الأمريكي فقط، ونحن نعتقد أن علينا المشاركة بجزء مهم من مواردنا في هذا التطوير. كما أن الشعب السوري يهمه أن تكون علاقته مع دول الجوار علاقة قائمة على التعاون المتبادل لما فيه خير المنطقة، وليس على مبدأ تأجيل العداء؛ وبالمطلق لا يرغب السوريون أن يكونوا في الخندق المعادي لأمريكا، ولضمان ذلك لن يكون لدينا جيش لا نقدر على إيفائه التزاماته، وإنما قوى أمنية تفرض الأمن داخل حدود البلاد.  

وأبدا ودائما، يجب أن يفهم السوريون أن لا حل لمشكلتهم خارجهم، لكن أم العقبات أمام توظيف العناصر الخارجية لتحقيق مطالبهم، تكمن في غياب الشخصية السورية السياسية الفاعلة الممثلة للسوريين. وغياب فريق من أطر نخبوية متنوعة قادرة على خلق عقد اجتماعي وعقد سياسي يضمن تحقيق مشروع سياسي لا يستعدي أحدا. وفي ظل هذا الغياب فإن فعل القوى الخارجية وعلى رأسها أمريكا سيكون متحرراً من أية قوة داخلية فاعلة، وسيدوم الخراب، ويتوسع تسلط ميليشيات الشر علينا، في ظل نظام متعفن ميت سريرا،  وسيغيب عنّا شكل الدولة وتنظيم حياة الناس، ونبقى طويلا في سجن مرير أسواره مخطوطة على الرمال. 

اقرأ أيضا:

من يملك مفتاح السلام مع إسرائيل الأقلية أم الأكثرية؟!

سوريا وتركيا: تَقَلُّب السياسة والجغرافيا!

ماذا تستطيع السياسة لدى الثورة السورية فعله مع إيران؟!

الطائر السوري الحرّ في المصيدة القطرية*

السعودية بين الهم السوري والتحدي الإيراني

روسيا وسياسة الاحتمال الواحد!

التعليقات (1)

    آشور

    ·منذ 3 سنوات 6 أشهر
    لا يمنع الحديث حول "أن مصالحها الأهم" من الاهتمام بسؤال: "على حساب مَنْ؟" عندما يقول ترامب: السيسي هو الدكتاتور المفضل لديّ نفهم جوهر السياسة الأميركية في منطقتنا وهو قائم على قهر الشعوب بل إبادتها لتأمين مصالحها .. لكن لن تبقى الأمور على هذا الحال!
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات