الثورة السورية في عامها العاشر .. لم يسقط نظام الأسد بل أكثر!

الثورة السورية في عامها العاشر .. لم يسقط نظام الأسد بل أكثر!
عشر سنوات كان لنا فيها ألف أخدود.. وألف مظلومٍ حرقوا فيها.. عشر سنوات كان فيها ألف قديس وقديس.. وألف بلال وألف صخرة صماء حارقة على صدره..في الشام في عشر سنوات كان لنا ألف من آل ياسر وألف عمار وألف سمية طعنّ بألف حربةٍ في أحشائهن. وفي الشام ألف حمزة مبقور البطن مجدوع الأنف والأذنين. وفي الشام ألف جعفر مبتور اليدين.وفي الشام ألف أحمد بن حنبل في ألف سجن وألف زنزانة.. وألف جوع وألف مجاعة وألف مذبحة..وفي الشام ألف ماشطة فرعون وألف من أطفالها حرقت وفارت عظامها في الزيت المحمى.. وبين كل ألف وألف ألف يتيم وألف أرملة وألف خيمة.. وبين  كل ألف وألف سقط ألف قناع وقناع .. وألف حجاج وألف ابن سلول وألف مسيلمة وألف نخاسٍ وألف قواد وألف صعلوك وألف إمّعة.

إليها أتى وقود الطائرات من دولةٍ شقيقةٍ، الطيارون وصلوا إليها من دول مقربة.. غاز الكلور كان يأتي من دولة مجاورة رغم فقرها إلى الصناعة وإلى موادها الأولية.. براميل الموت البدائية كانت تصنع ولا تزال في أحياء مدن دولة مجاورة لطالما قصد أهلها الشام طلباً للأمان.. محورالمقاومة ودولة اللقيطة تحيط بها..هرولت إليها ميليشيات من كل شراذم الأرض حتى ميليشيات فلسطينية محسوبة على أهل السنة وميليشيات محسوبة على أهل الممانعة وأهل الوفا.

إليها من مصنع عسكري (مجيد) في دولة شقيقة أتت الصواريخ والقذائف متجاوزة في طريقها مستوطنات وأراضي محتلة.. أنظمة تعيسة سحبت الجنسيات ممن لجؤوا إليها بعد دفعهم في مقابلها أموالاً باهظة.. علماء الأمة انشغلوا عنها  في مؤتمرات حوار الأديان والتقارب مع الطوائف. نفقات الشبيحة والمرتزقة كانت تأتي من أغنياء المكونات الطائفية  في الدول المقتدرة .

رغم  ذلك كله ورغم التضحيات الباهظة كادت أن تسقط النظام في وقت مبكر من عمرها.. امتلك النظام العالمي كل الإمكانيات للقضاء عليها لكن باتت عصيةً عليه. لم تسقط النظام  المحلي لكن جعلت النظام العالمي كله يترنح كاشفة زيفه ونفاقه.

رغم قساوة المآلات لكن لايمكن أن يُتهم الشعب السوري بخطأ حساباته، وهو الذي جرّب الخروج على هذا النظام في بداية الثمانينات وتأكد من دمويته وناله منه ما نال .

 ما راهن عليه الشعب  السوري هو أن يواجه نظامه الذي يحكمه وجهاً لوجه وفي وضح النهار، وكان واثقاً أنه له كفؤ، لكن ما لم يحسب حسابه أن يهرع النظام العالمي برمته لحماية نظام العصابة من السقوط  بشتى الوسائل السياسية والعسكرية.

ولم تكن هذه العشرية الأولى الوحيدة وذات الطابع الدموي التي عاشها شعب عربي في مواجهة نظام قمعي، فقد خرج الشعب الجزائري في بداية التسعينات، وراهن على ما راهن عليه الشعب السوري سابقا ولاحقاً ، وتمت مواجهته بنفس الأدوات والأساليب وكانت عشرية دموية. فالشعوب لا تكل ولا تمل لكنها تؤذى في دمائها وممتلكاتها وأرزاقها فتنطوي وما تلبث أن تعود، فانطواؤها لا يعني الرضا.

تجرعت الشعوب أحداث حماة  في بداية الثمانينات ثم انفجر الوضع في الجزائر في بداية  التسعينات واستمر لعشرية دموية وبعدها سكتت على مضض عقدا كاملا حتى انفجر الوضع في الربيع العربي. ما بين العقدين منذ العام 2000 حتى مطلع الربيع العربي كان عقد خداع استفحل فيه أمر ما يسمى (محور المقاومة) وتميز العقد بانسحابين إسرائيليين من جنوب لبنان ومن غزة، وتميز بمعركة تموز، وعلا نجم المقاومة والمحورالخاطف لها. لكن سرعان ما تبين زيف هذه الظواهر وزيف توظيفها من أنظمة استغلتها ووظفت نتائجها، وهذا الزيف غدا أهم أسباب التغير الذي قام عليها الربيع العربي والثورة السورية تحديداً، ولا عجب أن أصبح هذا المحور العدو الأول لها واستمر معها  طوال العشرية.

والجدير ذكره قبل الابتعاد عن هذه النقطة: الثورات قامت في أحد أسبابها على زيف  محور المقاومة والممانعة وليس على حقيقة المقاومة، ومن أهدافها وتطلعاتها كان ومازال إسقاط هذا الزيف الذي أرهقها وأثقل كاهلها لعقود باسم المقاومة، فكانت الحالة السورية الأدرى بهذا الزيف وهي التي تعايشت معه منذ ظهوره في فضائها، فقدرها أن يطاردها هذا الزيف في صراع على البقاء وقدرها أن يصطدم معها هذا الصدام الدموي ـ وما زال هذا الصدام قائماً.

لم تتطلع  للقضاء عليه أو مطاردته، جل ما كانت ترجوه هو الانفصام عنه ومنه، والتحرر من قبضته  ودمويته. 

بالإضافة إلى هذا الهدف الذي حققته هذه الثورة المباركة رغم فاتورته الباهظة  لكن ثمة نتائج أحرى تتحقق. فإلى جانب إسقاط كل الأقنعة التي يمكن إسقاطها كذلك تحققت مسارات لم تكن بحسبان كل النخب الثوريةـ إنما سيقت  بطبيعة الثورة والأثمان الباهظة التي قدمت طوعاً وكرهاً، وبطبيعة  تجلي الثورة في علاقتها بالجغرافيا وميراثها من التراكمات التاريخية، والتقاء روح الثورة المستتر مع الكينونة والحيز الوجودي للمنطقة. فلا يمكن أن يحيد أي مخاض للمنطقة بطبيعته عن طبيعتها مادامت هذه الطبيعة قائمة، وطبيعتها توحي أنها لطالما في أي مخاض عبرالتاريخ تلاقت واصطدمت مع كل أعدائها في وقت واحد، وكان لها الخيار على الدوام في ترتيب أولوياتها  في الصدام، وطبيعة أعدائها كانوا بين أعداء خارجيين وغيرهم داخليين . 

فطبيعة الصراع في طبقات ذاكرة هذه المنطقة يحتوي الكثير من معارك طائفية تجسدت بين مركزيتين واحدة سنية ثابتة وأخرى شيعية أقل ثباتاً، تمثلت في دولتين وفي قوميتين هما الفرس والترك. تجسدت بينهما معارك عدة غيّرت من الحدود والتكوينات تجاوزت الثلاثة عشر معركة مفصلية، لا سبيل للخوض في تفاصيلها، نذكر فقط آخرها، كانت معركة تحرير اليونان في العام 1821 حيث كانت الأعداء الخارجية مصطفة لإسقاط الدولة العثمانية (المركزية السنية) في ذلك الوقت، فجأة تدخلت الدولة الصفوية مصطفة إلى جانب القوى الأوروبية فأربكت الموقف  سيما كان تدخلها من الجهة الشرقية البعيدة عن المعركة.

 لم تتطلع الثورة السورية إلى هذا المستوى من الصراع لكن جاءت معركة إدلب في مارس 2020 الذي تواجهت تركيا التي تمثل الثقل السني مع إيران التي تمثل المركزية الشيعية وميليشياتها في حياد من القوات الروسية الحليفة، وهي أول مواجهة حقيقة على مستوى المركزيات. ثم جاءت معركة كاراباخ كرديفة للحالة السورية، ولسوء حظ إيران أنها كانت متحالفة مع أرمينيا، وأخذت المعركة طابعا قوميا محضا مع طابع طائفي أقل، معركة بين الترك وبين الأرمن حلفاء الفرس.

 وفي هذه الأيام تصطف إيران إلى جانب الميليشيات الكردية في محاولة لإنقاذها من سحق الدولة التركية لها في معارك سنجار في شمال العراق . مع أن الأذر غالبيتهم  شيعة والكرد غالبيتهم سنة، والأرمن من خارج المعادلة الطائفية لكن المعركة باتت تأخذ طابع الصراع بين  مركزيتين، الصراع الذي كان له حضور على الداوم بين يدي كل المخاضات السالفة.  

النتيجة التالية التي تجلت في خضم المخاض الذي نتج وينتج عن الثورة السورية هي تشكل ملامح المركزية الإقليمية. فالمركزية التي نُشدت في الفترة ما بعد موجة الاستقلال في الأربعينات التي من المفروض أن تحققها الوحدة العربية ترنحت لعقود طوال في فضاء التشرذم العربي، فلقد استندت الأداءات المركزية للدول المقتدرة على فكرة القومية، وما أن تصدعت فكرة القومية حتى تهاوت أمامها الأدوار المركزية الهزيلة، ومع الهزائم العسكرية والنكسات التي منيت بها الدول ذوات الثقل الديمغرافي غاب الثقل السياسي نفسه لهذه الدول. 

ومع ظهورالدور الإيراني في المنطقة توغلت معه المركزية الإيرانية ما بات ملحاً في طبيعة الصراع أن تظهر مركزية سنية مكافئة له، الأمر الذي خلقه اندلاع الثورة السورية نفسها . 

موقع سوريا في قلب  المثلث الجيوسياسي الذي توارد على حكم المنطقة عبر التاريخ حتى من قبل الإسلام والمسيحية كذلك، فالمعروف أن هذا المثلث نقاط ارتكازه هي بغداد وإستانبول والقاهرة، والشام هي قلبه ومركزه ـ يجعل من سوريا حلبة صراع  على مركزية المنطقة  بين المحاور. قبل الثورة السورية  كانت الشام جزءا من الهلال الشيعي الذي عبرها بات يبتلع المنطقة. مابعد اندلاع الثورة وأثنائها تصدع الهلال الإيراني وبات في موقع الدفاع بعد أن كان في موضع الهجوم.

 وكذلك اندلاعها خلق حراكا جديدا وسجالا نشطا لهذه القوى (المركزية) ما بين القوميات المركزية في المنطقة  عرب وترك وفرس. 

والنتيجة التالية للثورة هي تسليط الضوء على معاناة ما يسمى أكناف بيت المقدس بعد أن كان الإعلام منشغلا في معاناة أهل بيت المقدس نفسه جاعلا منها قضية في الوعي الجمعي واستغلالها لعقود لصالح الأنظمة. ما كشفته الثورة السورية من جرائم في حق أكناف بيت المقدس هوالسبب الرئيسي لما يحدث في بيت المقدس نفسه، فالأعداء بعضهم من بعض ولا مفاضلة بينهم. 

ختاماً: حققت الثورة السورية في عقدها الكثير من الأهداف من إسقاط للأقنعة وتغيير جذري في طبيعة المرحلة، لكن كذلك ساهمت بوقعها في نتائج عدة لم تكن في حسبانها منها  مساهمتها في ظهور ملامح الدورالمركزي المنشود، ومساهمتها في إعادة الشكل الحقيقي للصراع الداخلي الطائفي الذي كان قد تم تمييع ملامحه قبلها. 

في ذكراها وفي عشريتها القاسية يصدق فيها ماقيل لكل المتجبرين :" بإمكانكم أن تدوسوا على الأزهار ولكن ليس بمقدوركم إيقاف الربيع".

التعليقات (5)

    محمود

    ·منذ 3 سنوات أسبوع
    صدقت... لا يصح إلا الصحيح...والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون...

    ahmad

    ·منذ 3 سنوات أسبوع
    مقال رائع وتوصيف دقيق وان ينصرنا الله فلا غالب لنا ولكن علينا اولا ان نعتصم بحبل الله جميعا لنقتلع الظالم ومن سانده باذن الله

    سمير

    ·منذ 3 سنوات أسبوع
    بلاشك مرحلة قاسية وحمل تقيل .. الله المستعان

    صابر

    ·منذ 3 سنوات أسبوع
    كل الثورات لم تأتي بخير وارجعوا الى التاريخ..تعرفوا ماذا اقول ..

    Gulia

    ·منذ 3 سنوات أسبوع
    لن يضيع الله دم الشهداء
5

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات