في شهادة لأورينت: كنتُ شاهداً على مجزرة الكيماوي في خان شيخون

في شهادة لأورينت: كنتُ شاهداً على مجزرة الكيماوي في خان شيخون
أربعة أعوام مرت على مجزرة الكيماوي التي ارتكبتها ميليشيات أسد الطائفية في ريف إدلب.. ومازالت ذكريات المجزرة المرعبة عالقة في أذهان من شهدوها. الزميل عبد العزيز نجم، ابن خان شيخون ومراسل أورينت نت في إدلب، يكتب لنا هذه الشهادة عن الوقائع التي شهدها بنفسه صباح يوم الثلاثاء الأسود، في الرابع من شهر نيسان/ إبريل 2017     (أورينت نت)

كانت ليلةً رتيبةً كالمعتاد، أصوات القصف تملأ الأجواء والتحذيرات عبر القبضة اللاسلكية متكررة، عبثاً أحاول أن أرقد بسلام خوفاً من قذيفة أو صاروخ مفاجئ  يحيل المكان إلى أنقاض، أنتظر ساعات الصباح الأولى لأتفقد المكان أو أطمئن على الأهل والجيران وأتأكد بأننا أصبحنا  بسلام ، لم يخطر ببالي أبداً أن أستيقظ على حدث سوف أتذكره كل العمر بغصة وألم

صباح الكيماوي

في تمام الساعة 6،50 دقيقة من صباح يوم الثلاثاء تاريخ 4/4/2017 تعرضت الأحياء السكنية في مدينة خان شيخون لقصف بصواريخ تحمل مواد كيماوية سامة "غاز السارين" من طائرة حربية من  طراز سوخوي 22 تابعة لنظام أسد، الصراخ يملأ المدينة، الخبر مدوي كالصاعقة، لم تعتد المراصد على التعميم على مثل هذا الخبر من قبل، تخبّط مبدئي عن ماهية القصف ولكن سرعان ماتكشفت المصيبة من رائحة الموت التي غطت المكان و أعراض الاختناق التي ظهرت على الضحايا، نهرتني أمي فزعة لأقوم بإخلاء أهلي وأقاربي إلى مكان بعيد وهي تصرخ "كيماوي كيماوي  يا ابني  " بعد أن سمعت تحذيرات بهذا الخصوص عبر "القبضة" 

خرجنا هرباً باتجاه أطراف المدينة الغربية بحثاً عن ملجأ، لم يكن يخطر ببالي سوى إنقاذ أمي من الموت الذي غيّب أبي قبل فترة زمنية  بالبراميل الأسدية المتفجرة.

بعد أن أجليت أهلي إلى أحد بيوت أقاربي عدت حذراً إلى محيط الاستهداف بالحارة الشرقية المعروفة بحي المرور أو بحي بيت اليوسف الذي كانوا من غالبية الضحايا الذين قضوا بهذه المجزرة فيما بعد، لم أكن الوحيد الذي أقترب من مكان الاستهداف بقصد الإسعاف والتوثيق أو تقديم المساعدة الممكنة فهناك العشرات ممن  جمعهم ذات الهدف وهو معرفة ما يجري في المدينة 

أعراض الموت الصامت 

قطعت حديثنا سيارة تأتي من مكان الاستهداف مسرعةً  تطلق "زمور" الخطر وعلى متنها عدد من المصابين من بينهم أطفال ونساء "مزرقّي" الوجوه "والزبد" يخرج من أفواههم وهو يصرخ "من شان الله إسعاف، في كتير ناس  إسا" وتتوالى بعدها حالات الإسعاف بالسيارات أو الدرجات النارية أو حتى مشي على الأقدام، لم أنسَ كيف سقط أحد المصابين على مقربة منا بعد أن تمكن السم من جسده كغيره من المصابين، وما أثر في نفسي أكثر أننا لم نستطيع أن نفعل له شيئا سوى النظر إليه خوفاً من التعرض للغاز السام الذي استنشقه حتى أن جاءت سيارة إسعاف وحملته، وكانت حركة الإسعاف واحدة من الداخل الى الخارج،  من أهل وذوي المصابين والمسعفين والذين لا يزالون على قيد الحياة في مكان الاستهداف

تكاتف الجهود لاحتواء الموقف 

حيث باتت فرق الدفاع المدني ومنظومات الإسعاف الموجودة في المدينة بالدرجة الأولى ومعهم من هبّ لمساعدتهم من فرق اختصاصية تدخل إلى الحي الشرقي "حي المرور" وتقوم بإخلاء الضحايا إلى أطراف المدينة ليتم نقلهم عبر سيارات الإسعاف وأيضاً سيارات المدنيين الذين تجمعوا من القرى والبلدات المجاورة إلى مشافي خارج المدينة أو إلى مركز الدفاع المدني على أطراف المدينة لتلقي العلاج ومحاولة إنقاذ حياة المصابين، من جهتي توجهت إلى مركز الدفاع المدني على أطراف مدينة خان شيخون صدمني هول المشهد جثث ضحايا بدون أشلاء أو دماء على خلاف ما اعتدت رؤيته بعد كل قصف أو استهداف للمدينة، كل الضحايا مجردة من الثياب ويقوم عناصر الدفاع المدني برش الماء بكثرة على أجسادهم المرتجفة، ومحاولة البعض للجوء للإنعاش الرئوي ولكن دون جدوى لبعض الضحايا، وسط حالة من الخوف المتزايد من حجم الكارثة ولا سيما بعد إعادة التعميم عن وجود طائرات بالأجواء واحتمالية تكرار الاستهداف والقصف الذي حصل بالفعل برشاشات الطائرات الحربية على المدينة 

المشهد الأخير.. والحصيلة النهائية 

ساعات مريرة وصعبة جداً شهدتها مدينة خان شيخون وخاصة ليلاً بعد أن تفقّد الجميع أهله وجيرانه لإحصاء أعداد الشهداء والمفقودين، وبعد أن عاد الدفاع المدني والأهالي يحملون جثث الشهداء المختلفة من كل مشافي الشمال السوري والتعميم على الضحايا والشهداء مجهولي الهوية هنا وهناك بحاجة من يتعرف عليها، يوم مأساوي على المدينة كانت رائحة الموت تفوح منه بشدة في كل الأرجاء والزوايا، وكان ارتفاع الخوف والصدمة عنوان المشهد العام في المدينة  حيث أصوات البكاء وأنات النساء والأطفال تعلو حتى على صوت الطائرات التي لم تزل تحلق بالأجواء، وكأنه لم يكفها الجريمة الكبرى التي ارتكبتها.  

في اليوم الثاني وبعد امتصاص الصدمة نوعاً ما، علمتُ من الدفاع المدني عدد الإصابات الإجمالي الذي بلغ أكثر من 500 مدني، توفي منهم 95 شخصا بينهم 33 طفلا و18 امرأة، تركوا جرحاً لا يزال ينزف مع كل ذكرى يستعيدها أبناء خان شيخون في ذاكرة الحدث الأليم. 

من الكيماوي إلى التهجير

لا يندمل جرح الكيماوي الذي يصنع الموت بلا دماء.. مهما تعاقبت السنون، خاصة وأن مرتكبي تلك الجريمة لا يزالون يتمادون بتكرار جرائمهم المتكررة بحق الآمنين والأبرياء والأطفال والنساء والشيوخ على مرأى ومسمع دعاة الإنسانية والعدالة العامة التي تتعامى ومازالت عن محاسبتهم، والتي استكملت مساندتها لهم لاحقا بتهجيرنا من مدينتنا التي انتزعتها منا سياسة الأرض المحروقة، وعقلية الإجرام التي لم ترَ في أي مدينة تدمرها وتحيلها أنقاض وطن أو قطعة من وطن.

في الثامن عشر من آب/ أغسطس من عام 2019 وبعد أكثر من عامين من مجزرة الكيماوي، أجبرنا على الخروج من خان شيخون مصطحبين معنا ذكريات المجزرة المؤلمة والأشواق المؤرقة والمحزنة.. وتاركين جثث شهدائنا في ذمة الثرى. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات