قول في الرثاء: بين رثاء نزار قباني لابنه توفيق و رثائه لعبد الناصر

قول في الرثاء: بين رثاء نزار قباني لابنه توفيق و رثائه لعبد الناصر
إذا تركنا المعنى المعجمي لكلمة رثاء على أنها بكاء مع كلام، فإن الرثاء هو خطاب حزن، حزن يمض القلب.

فكل خطاب عن الحزن هو رثاء. ولو تركنا الحزن الفلسفي الميتافيزيقي كحالة وجودية تقود إلى رثاء الحياة كلها جانباً، وحصرنا قولنا برثاء من فقدنا، لوجدنا أنفسنا في حال الحزن الخاص، الحزن على موت من نحب.

وموت من نحب أكثر الوقائع قسوة على النفس، إنه الفقد الذي تكون الإرادة فيه عاجزة عجزاً مطلقاً. و تكون كل كتابة عن الموت أيضاً نمطاً من الرثاء. فالحزن الذي يخلقه في النفس موت من نحب يرمي النفس في حزن قد لا يبلى مع الزمن.والحزن أصدق العواطف التي تحفر مجراها في النفس، وتمثيل الحزن أحط أشكال تزييف العاطفة، بل قل إظهار الحزن والقلب خلو منه، لهو وصول الكائن إلى الدرك الأسفل من النفاق.الحزن خطاباً، نثراً أو شعراً، يعني بأن الخطاب خطاب ألم، إذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فإن خطاب الرثاء هو خطاب عن الألم الذاتي وليس خطاباً عن المرثي، فالرثاء حب مطعون بالموت، فالذات لا تحزن ويتحطم قلبها على فقد شخص ما يتمتع بصفات حسنة، بل ما كان القلب ليتخضب بالحزن الممض لولا الحب.

والحب هو الذي يُبقي الألم حاضراً في النفس، حتى ليمكن القول في ألم كهذا يكون هناك تداعي الحزن.

فالحزن الذي يحضر في التداعي لهو الحزن الأصيل، لأنه حزن لا يصدر عن قرار، ولا عن واجب الكتابة عن راحل، فالحزن ليس من مفاهيم الواجب، بل هو من أعراض الحب، إذاً الرثاء حب مكلوم يعبر عنه عقل (قلب) مكلوم باللغة- بالخطاب الأدبي أو اللوحة.

قارن أيها القارئ العزيز بين قصيدتين لنزار قباني في الرثاء. قصيدته في رثاء عبد الناصر، وقصيدته في رثاء ابنه توفيق. في الأولى أنت أمام بيان سياسي لشاعر غاضب على العرب، ويمدح فيها رئيساً حمل هموم أمة.

قصيدة لا مكان للألم والحزن فيها. إنه يقدم قصيدة في مناسبة، موت عبد الناصر بالنسبة لنزار كان مناسبة، فقال قوله بمناسبة موت عن الميت.

فيما في قصيدته في رثاء توفيق ابنه، فأنت أمام الحزن المطلق، أمام نفس تتعذب، وتحملك على البكاء، كان نزار يتحدث عن ذاته الحزينة المتألمة حين يذكر توفيق، بل هي أعمق حزناً من رثائه لزوجته بلقيس.

وما زال أكثر العرب يعتبرون بأن الرثاء والمديح صنف واحد من التعبير. وليس هناك من فرق سوى فرق المدح لمائت والمدح لحي.

ولعمري بأن الرثاء مدحاً لهو عاطفة كاذبة متكلفة، عاطفة مناسبة عابرة قد لا تدوم أكثر من الوقت الذي كُتب فيه الرثاء.

أما خطاب الرثاء الذي يحول موت العزيز إلى فلسفة في الحياة فهو من شغل من يعيش الموت هماً وجوديا، فينتقل موت الحبيب إلى قول في المعنى.

فجأة يطير إليك الخبر: لقد مات، فيسرق منك موته كل معنى، وتتذكر سؤال العبث الذي تنسيك إياه الاهتمامات بالزائل والعادي، ويحضر الأحمدان: أحمد المتنبي وأحمد أبو العلاء المعري ساخرين.

فيردد الشاعر المقتول:

يدفّن بعضنا بعضاً وتمشي أواخرنا على هام الأوالي.

فيرد عليه من مات شيخاً:

خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.

هل كان الشيخ مصيبا يا نيتشه عندما قال لزارا: على هذه الأرض ما يستحق الحياة؟

وهل كان درويش يخفي رفضه للموت حين صرخ بقول الشيخ؟

الموت موت المعنى والرثاء رثاء الكينونة التي يعشش فيها العدم.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات