جدلية الهدم والبناء: ما الذي يجب أن يبقى من التعليم السوري بعد سقوط النظام؟

جدلية الهدم والبناء: ما الذي يجب أن يبقى من التعليم السوري بعد سقوط النظام؟
 يتبادر إلى ذهني منذ انطلاقة الثورة السورية عام 2011 م أسئلة كثيرة تتصل بالتعليم السوري الحالي والمستقبلي، غير أن أهم تلك الأسئلة هو: لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب عملية تقييم موضوعية لكل عناصر النظام التعليمي عبر ما يُسمى مدخل تحليل النظم، أو أي مدخل آخر يقرّه خبراء التعليم بصحة معاييره، ومع ذلك فهذا لا يمنع من استقراء الواقع، والعودة إلى ما سطره لنا بعض الفلاسفة فيما يتصل بجدلية الهدم والبناء في التعليم، والتي أتناولها في هذا المقال من جانب واحد فقط وهو الخاص بالمعلم والتلميذ.

 فإذا نظرنا إلى علاقة المعلم بالتلميذ في التعليم السوري في ضوء ما تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار" سوف تتجلى لنا أهمية هدم ما يحمله التلميذ من قيم واتجاهات ومعارف بائسة، ثم إعادة بنائه من جديد، يقول باشلار: "إن أهمية جدلية المعلم والتلميذ ليست فاعلة على الصعيد المدرسي فقط، وإنما هي فاعلة في تاريخ الثقافة بأسره. والمعلم قبل أن يبدأ في عمله عليه أن يقوم بعملية مزدوجة، جانب منها سلبي، وهو هدم المعارف القديمة لدى التلميذ، ليأتي الجانب الإيجابي بعد ذلك وهو العمل على تشكيل نموذج جديد من التفكير، ذلك لأنّ المتعلمين لا يأتون إلى المدرسة بعقول فارغة، وكأنها ورقة بيضاء يخط عليها المربي ما يشاء، بل تأتي تلك العقول مثقلة بتلك المعارف والقيم الخاطئة التي اكتسبوها من الإدراك الحسي عن طريق الملاحظة والمشاهدة الأولية البسيطة" (باشلار، 1999، 63).

وهذا يعني أن على التعليم السوري مستقبلاً أن يبدأ بهدم كل ما يوجد في عقول التلاميذ ونفوسهم من قيم واتجاهات ومعارف بائسة زودهم بها نظام تعليمي عمل طوال خمسة عقود على غرس قيم نسقه السياسي من خلال زج التلاميذ منذ دخولهم المدرسة في منظمة طلائع البعث، ثم إدخالهم إلى اتحاد شبيبة الثورة، ثم إرغامهم في المرحلة الثانوية إلى الانتساب إلى حزب البعث. وحتى نُخلّص التلاميذ من كل ما غرسه النظام عبر مناهجه الدراسية ومناهجه الخفية المدعمة برسائل صامتة كانت تُكتب لهم على جدران المدارس، وجدران الفصول الدراسية، فإن ذلك يتطلب هدماً منظماً، ثم إعادة بناء ينسجم مع نسق قيم الثورة، وفي مقدمتها قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

من هذا الهدم تبدأ أولى الخطوات نحو نظام تعليمي جديد، ثم تأتي بعد ذلك المهمة الأصعب وهي صنع الثقافة العلمية التي تبقى في حالة تعبئة دائمة، وذلك بالعمل على إبدال المعرفة المغلقة والجامدة بمعرفة منفتحة ونشطة، لأن عقل التلميذ الذي يأتي إلى المدرسة مثقلاً بمعلومات ومعارف وقيم ورثها من نظام لا يسمح بحرية الرأي والتعبير، لا يمكن أن تكون هذه المعارف والمعلومات محفزاً على الإبداع، ومن ثم ليس المطلوب من المعلم البدء بتلقين التلميذ نتائج تجريبية ومعارف جاهزة، بل يجب العمل أولاً على هدم العقبات التي كدستها ممارسات النظام التعليمي السلطوية، وبذلك يقوم بالمرحلة السلبية التي تحدث عنها "باشلار"، وهي هدم المعارف والقيم السابقة الساذجة لدى التلميذ، فيحدث له بذلك قطيعة معرفية عن الفكر السابق أو نسق النظام السياسي الذي كرسه النظام التعليمي بالقسر والإكراه، وهذا يولد لديه حالة من الشك والحيرة والرغبة في معرفة الحقيقة، فتنشأ لدى التلميذ ملكة الجدل، وعدم تقبل أي شيء دون إخضاعه للتمحيص والمعاينة.

ولهذا نجد "باشلار" ينحو باللائمة على المعلمين الذين يقتلون في التلميذ غريزة الإبداع والتجديد، حين يصبونه في قوالب واحدة، جاهزة، ويرفضون رفضاً قاطعاً تجديد مناهجهم، مُعبراً عن ذلك بقوله: "إنني خلال تجربة طويلة جداً ومتنوعة، لم أر أبداً مربيّاً يبدل منهجه التربوي، فالمربي ليـس لديه حاسة الفشل لأنه يعتقد أنه معلم، ومن يُعلم يأمر" (باشلار، 1981، 17). وهذا هو تماماً حال معظم المعلمين السوريين، الذين ما زال بعضهم يرى في العصا والفلقة أسلوباً ناجحاً في التعليم، وهذا ما أشار إليه "البرقاوي" في مقال عن "جيل العصا والفلقة"، الذي حلل ظاهرة العنف في المجتمع السوري بدءاً من العقوبات التي تقع على التلاميذ في المدرسة، وانتهاء بظاهرة العنف التي تُمارسها السلطة ضد مواطنيها. 

من جهة أخرى، يرى "باشلار" أن عقل المعلم نفسه قد يكون جانباً من العقبة الأبستمولوجية لتعلم التلميذ، وذلك بما ينطوي عليه من ركود وكسل، وميل إلى اعتبار الفكرة المفيدة والواضحة هي التي يسلكها المعلم، ولا يحاول تجديد أفكاره وإخضاعها دائماً إلى التغير والصيرورة المعرفية، لأن أية معرفة، وأي لون من ألوان الثقافة، وأي مجموعة من المعلومات والمعارف العلمية، قد تصبح في مرحلة من المراحل عقبة أمام النزعة العلمية؛ وبخاصة إذا تحولت إلى عادات راسخة تمنع المعلم من التقدم في عمله (باشلار، 1989، 19)

ومعنى ذلك أن الروح العلمية لدى المعلم، لا يمكن أن تتوقف أو تتجمد بل لا بد لها أن تتجدد بغير انقطاع، ولا بد للمعارف والأفكار أن تنقّى باستمرار، فلا تكتسب فكرة من الأفكار قيمة لقدمها أو لطول عهدنا بها، بل لا بد من إعادة تقييمها باستمرار انطلاقاً مما يحصل في الواقع اليومي. ومعنى ذلك أيضاً أنّ هناك باستمرار معارف جديدة في التدريس يجب على المعلم الإحاطة بها، لأن المعرفة العلمية يجب أن تخضع لعملية الهدم أو السلب حسب تعبير "باشلار"، سلب المعرفة السابقة وتجاوزها لمعرفة جديدة، وأن نجعل جميع المتغيرات التجريبية في حالة جدلية، وأن نعطي لعقل المعلم مسوغات التطور والنماء، وهذا لن يحصل إلا إذا نظرنا إلى العملية التعليمية نظرة دينامية تناسب المواقف التربوية المعاصرة، ومن ثم يجب التعرف دوماً إلى مشاكل جديدة متولدة من مواقف جديدة يتخذها التلميذ بمساعدة المعلم، ويتخذها المعلم من قراءاته في ميدان اختصاصه.

     خلاصة القول: يجب صناعة بنية جديدة كل الجدة للنظام التعليمي تقيم قطيعة مطلقة مع البنية القديمة، ليس فقط ما يتصل منها بثنائية المعلم والتلميذ، وإنما بكل ما يتصل بعناصر النظام التربوي، بدءاً من فلسفة النظام التعليمي وسياسته وأهدافه واستراتيجياته، مروراً بالمناهج الدراسية وإعداد المعلم والتوجيه التربوي، وصولاً إلى الأبنية المدرسية والمقعد الدراسي والسبورة. لا بد من إعمال جدلية الهدم والبناء من جديد في كل عناصر النظام التعليمي السوري مستقبلاً إذا أردنا أن نخطو خطوة نحو الامام.  

مراجع المقال

- غاستون باشلار: (العقلانية التطبيقية)، ترجمة: بسام الهاشم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، 1999.

- غاستون باشلار: (تكوين العقل العلمي)، ترجمة: خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، 1981.

التعليقات (1)

    قتيبه الشيخ يوسف

    ·منذ 3 سنوات 3 أسابيع
    ماهي سبل نجاح التعليم في التخلص من مخلفات افكار نظام البعث البائس
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات