ولكي نستطيع أن نعرف ما الذي جرى لتلك النهضات السابقة، دعونا نبدأ القصة منذ البداية،
1- نهضة عدنان مندريس
انتقلت تركيا إلى التعدد الحزبي عام 1946 وذلك عقب مؤتمر الأمم المتحدة الذي عقد في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، وبهذه الخطوة الهامة أصبحت تركيا دولة ديمقراطية. واستطاع حزب الديمقراطية التركي بقيادة جلال بيار الذي أصبح رئيس الجمهورية التركية، الفوز في انتخابات 1950 البرلمانية، وبهذا بدأت نهضة عدنان مندريس الذي تولى منصب رئاسة الوزراء.
قام مندريس عقب استلامه زمام الأمور في تركيا، بإجراءات وإصلاحات لم تكن متوقعة، حيث قام بتخفيف الضغوط العلمانية على الشعب التركي، مثل إلغاء القانون الذي يجبر الناس على الأذان باللغة التركية، وسمح بتلاوة القرآن الكريم في الإذاعة، وفتح مدارس الأئمة والخطباء التي تركّز في تعليمها على دروس التربية الإسلامية.
والصعيد الزراعي قام مندريس بإدخال التكنولوجيا الزراعية إلى الأرياف، فأرسل الجرارات والحاصدات إلى الفلاحين، كما وزّع عليهم الأسمدة الكيمياوية. كما أنشأ العديد من السدود الكبيرة بمعدل سد في كل منطقة تقريباً. وأخذت تركيا في عهده تتصدر الدول الأوروبية والشرق الأوسط في إنتاج القمح والبندق والتين المجفف والعنب والقطن والشاي ومختلف أنواع الفاكهة والخضار، وتم إنشاء مخازن الحبوب إلى جانب ربط جميع القرى بشبكات طرق.
أما على صعيد الاقتصاد فقد قام مندريس بإنشاء معامل النسيج ومعامل عصير الفواكه ومعامل الإسمنت ولوازم البناء ومصانع الأحذية ودباغة الجلود ومعامل الصابون والأدوية.
وأما على الصعيد السياسي فقد أقامت تركيا علاقات قوية مع الولايات المتحدة واستطاعت الدخول في حلف الشمال الأطلسي (الناتو) عقب إرسال قوات عسكرية إلى كوريا. كما أنها شاركت في حلف بغداد الذي تأسس عام 1955 لصد المد الشيوعي في الشرق الأوسط.
لم تدم النهضة التي أطلقها عدنان مندريس طويلاً حيث إنها انتهت مع انقلاب 27 مايو/ أيار العسكري الذي أزاح مندريس عن السلطة عام 1960، ومن ثم إعدامه بتاريخ 17 سبتمبر/ أيلول 1961.
2- نهضة تورغوت أوزال
استطاع حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال الفوز في انتخابات 1983 البرلمانية نتيجة رفض الشعب التركي للحكم العسكري الذي قاده كنعان أيفرين عقب انقلاب 12 سبتمبر/ أيلول 1980. ركز أوزال بشكل أساسي على التنمية الاقتصادية في تركيا لذا تبنى نظام السوق الحر الذي يدعم عمليات التبادل التجارية ما بين تركيا والدول الأخرى، وقام بدعم المشاريع الريادية الخاصة. كما أجرى الخصخصة لبعض مؤسسات وممتلكات الدولة وعمل على الانتقال من البورصة الثابتة إلى البورصة المتموجة التي تعتمد على الاستثمار والصادرات والواردات وتجذب المستثمر المحلي والأجنبي. وسعى لتشجيع الاستثمار الأجنبي بوسائل شتى ولتحقيق نمو اقتصادي يعود للدولة والمواطن بمردود مادي جيد.
وأما على المستوى السياسي فقد اتبع أوزال سياسية تنويع العلاقات السياسية بحيث أقام علاقات مع الدول الغربية والشرقية وبوجهٍ خاص مع الدول العربية. كما سعى على تطوير العلاقات السياسية مع الدول العربية وفتح أفقٍ جديدة لتطوير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية فتم عقد الكثير من الاتفاقيات بين تركيا والدول العربية تشمل رفع التبادل التجاري والحركة السياحية وبناء مراكز ثقافية المُتبادلة وتبادل الطلبة.
لم تتجاوز النهضة التي استهلها أوزال السبع سنوات حيث توقفت مع توليه رئاسة الجمهورية في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 1989، ولم يستطع زميله في الحزب يلدرم آقبولوت ومسعود يلماز اللذين أصبحا رؤساء للوزراء على التوالي بعد أوزال، إكمال مسيرة نهضته.
3- نهضة أردوغان
شملت نهضة أردوغان التي انطلقت منذ توليه رئاسة الوزراء في 14 مارس/ آذار 2003، إصلاحات في الاقتصاد، والبنية التحتية، والصحة، والحريات، والصناعات الدفاعية وتكنولوجيا المعلومات وسائر المجالات الأخرى.
فقد استطاع أردوغان إدخال تركيا إلى نادي مجموعة العشرين الأقوياء الكبار (G-20) في العالم بعد أن كان ترتيبها 111 عالميا. كما أنه سدد جميع ديون تركيا لصندوق النقد الدولي عام 2013. كما أنه أنشأ شبكات طرق سريعة وبنى مطار إسطنبول الدولي الذي يعد أكبر مطار في أوروبا، إلى جانب 125 جامعة جديدة في مختلف المدن التركية والمئات من المدارس والمستشفيات.
واستطاعت تركيا في عهده صناعة دبابات مصفحة وناقلات جوية وقمر صناعي عسكري حديث متعدد المهام، وطائرات مسيرة بدون طيار التي أثبتت جدارتها في سوريا وليبيا وأذربيجان. واستطاع أردوغان بعد جهد كبير تأسيس أول شركة تركية لصناعة السيارات.
في الختام نستطيع القول إن نهضة أردوغان تعتبر أقوى النهضات التي مرت بها الجمهورية التركية الحديثة، وذلك بسبب طول فترة استمراريتها، ولكنها ما تزال مبنية على رجل واحد كما كان الوضع لسابقاتها. وإن كان أردوغان يرجو لنهضته التي أطلقها الاستمرار، وأظنه كذلك، ينبغي عليه أن يعد من يستلم الراية من بعده ويكمل مسيرته وإلا كان مصيرها كسابقاتها.
التعليقات (3)