السعودية بين الهم السوري والتحدي الإيراني

السعودية بين الهم السوري والتحدي الإيراني
تعتبر المملكة العربية السعودية المركز العربي الأكثر فاعلية اليوم في تحديد وضع المنطقة العربية من جهة، ولملمة الدول الإسلامية في مواجهة السياسة الإيرانية التي تتلاعب بطبقات الزلازل في الدول الإسلامية، لأنها تحتوي على أربعة عناصر تمنحها هذه الفاعلية: الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي والمنعة العسكرية ومكانتها الأساسية عند المسلمين حيث الكعبة المشرفة. 

لعل التغطية التلفزيونية العالمية الضخمة التي رافقت ظهور الملك السعودي عبد الله يوم 8/8/2011 مع انطلاق دبابات ميليشيا أسد إلى حماة ودير الزور بعد ارتكابها مجازر طائفية في بانياس وحمص، أكدت أن السوريين ليسوا وحدهم متلهفين لمعرفة موقف السعودية من إجرام "نظام" أسد؛ قال الملك كلمته:

"إن إراقة دماء الأبرياء ضد القيم والأخلاق الإنسانية". وأتبعها باستدعاء سفير المملكة في دمشق إلى الرياض. وهذا أعطى المتظاهرين أملا أنهم لن يُتركوا وحيدين في مواجهة إجرام أسد!

ستة شهور مرت كانت كافية لتدرك السعودية أن أسد يكذب بوعوده لهم بالإصلاح والتوقف عن استخدام القوة ضد المتظاهرين، فخلال تلك الشهور قَتَلَ أربعة آلاف متظاهر، وسَجَنَ نحو خمسين ألفاً تواردت الأنباء عن تعذيبهم حتى الموت وإخفاء جثثهم. ولأن أسد لم يثق بالمدن الثائرة آمن أن الإصلاحات لن تُؤمّنَ له استمرارية الحكم، فوضع نفسه أمام خيارين: إما الهروب أو مواجهة السوريين الثائرين ولو كانوا عشرات الملايين بالقوة المميتة والمدمرة. وخصوصا أنه تلقى تأكيدات دولية بدعمه، حينما حصل على 2 "فيتو" لصالحه في تصويت مجلس الأمن خلال أسابيع، كما تلقى تأكيدا من الضباط العسكريين العلويين المهيمنين بأنهم يعتبرون قضية وجوده قضيتهم، وأن الأقلية ملتزمة بمنع الأكثرية من الوصول إلى الحكم حتى لو استخدمت العنف المفرط!

إيران في زوايا مشاكل السعودية كافة!

وجدتُ أن أفضل طريقة لفهم السياسة السعودية تجاه سورية خصوصا والمنطقة عموما استعراض المخاوف الاستراتيجية التي تحاصرها. فليس من السهل الكتابة عن مشاكل الشرق الأوسط السياسية، وحتى المرورية يا سادة، في ظل تضارب المعلومات واصطفافها وغياب أكثرها.

مع وصول ملالي إيران للحكم، 1979، حقنوا الدين في سياساتهم واستخدموه أداة صراع في علاقاتهم السياسية بالعالم العربي والإسلامي؛ ومن بوابة إيقاظ الخصومات الخاملة بين السُنة والشيعة استبدل الإيرانيون المعادلات السياسية في الشرق الأوسط بمعادلات مختلفة كليا، حينما أطلقوا العنان للتوترات الطائفية التي أشعلت حروبا أهلية، وذلك عبر تجييش وتسليح الشيعة من أفغانستان إلى باكستان والعراق والبحرين والكويت واليمن وسورية إلى لبنان والحبل على الجرار؛ وطالما صرحت شخصيات ذات نفوذ في النظام الإيراني أنّ السعودية هدفهم القادم، وتم الكشف عن محاولات زعزعة استقرار دول الخليج واستخدام عناصر تخريبية في البحرين والكويت والسعودية!

الإيرانيون أيضا يهددون طريق إمداد النفط السعودي، كما يتلاعبون بالتزامات دول أوبك ويضخون نفطا أكثر للحصول على حصة أكبر، وهذا سيؤدي إلى خفض الإيرادات النفطية، إضافة إلى سعي الإيرانيين لتوريط المملكة بزيادة الإنفاق لخلق مشاكل مالية إضافية لها.

الراديكاليون والجماعات الجهادية العالمية من القاعدة ومشتقاتها يتهمون السعودية بالردة، وتهديدهم لها لم يتوقف وغير مرة حاولوا زعزعة استقرارها. تقارير عدة تحدثت عن ارتباطات بين هذه الجماعات والنظام الإيراني وعن مساعدات لوجستية يقدمها للقاعدة تحديداً، ولم تمس القاعدة وأخواتها مرة المصالح الإيرانية بسوء. ومع أن السعودية ملتزمة بمكافحة الإرهاب لكنها لا تزال أهم دريئة للإعلام الغربي!

هذه السياسة العدوانية الإيرانية هددت استقرار السعودية الأمني والاقتصادي، ورغم الالتزام الأمريكي القوي بحمايتها مقابل إمدادات النفط، إلا أن دعمها تراخى في هذه القضية الحيوية. فإذا كان صحيحا أن جميع الدول السُنية لديها علاقات قوية مع الولايات المتحدة الأمريكية، غير أن العلاقة الأمريكية-السعودية ذات خصوصية لما تتمتع به السعودية من ثروة نفطية هائلة، وعلاقات تاريخية قديمة مستمرة، فضلا عن عدد السكان الكبير، وموقف أمريكا المتراخي من أفعال إيران تجاه المملكة يؤكد أن السياسة والمصالح الأمريكية لا تحددها هذه الدولة أو تلك مع اختلاف المكانة، لكن السعودية تعتبر أن مسألة أمنها ومسألة دينها قضيتان لا يمكن التنازل عنهما، وهذا رأيناه في تأكيد محمد بن سلمان أن السعودية "ستقاوم العدوان الإيراني وآثاره وستواجهه في لبنان والعراق واليمن وحتى على الأراضي الإيرانية ذاتها"، رغم أنها بفقد مصر مبارك افتقدت حليفا قويا اعتمدت عليه في دعم سياساتها مقابل أصدقائها قبل أعدائها! 

لم يهندس أحدٌ الربيع العربي. لكن هناك من دعمه في مكان ودعم ضده في مكان آخر. مع أن إيران دعمت التظاهرات المصرية، لكنها وقفت ضدها في سورية، أما في البحرين فاعتبرتها فرصة لتعبر وترسو على رمال ضفة الخليج المقابلة لها. هنا تصاعد الصراع السعودي الإيراني مدفوعا بمخاوف وطموحات الطرفين، وسمح انفتاح الفراغات الأمنية والسياسية الناتجة عن حركة الربيع العربي لكل منهما برمي ثقله، فبدت المعركة وكأنها معركة حياة أو موت.

الانتصار الحاسم للإمارات والسعودية في البحرين واستعادة الأمن بها سريعا، ربما أغرى الملك عبد الله بالتدخل في سورية، والسعوديون يدركون أن المعركة فيها لن تكون سهلة، وهم يعلمون أنه بخلاف انهيار الجمهورية الإسلامية نفسها، لا شيء يضعف إيران أكثر من خسارتها سورية؛ أما إيران تعرف أن بفقدانها الولد الدمية بشار الأسد، آنذاك، ستفقد سورية الحليف العربي القوي الذي ساندها منذ حَكَمَ الخميني طهران، بدأ بحربهما على عراق صدام إلى حربهما على شعبي العراق وسورية بعد الغزو الأمريكي للعراق، حينما ساهما ولا يزالان بخلق تغيير ديموغرافي في البلدين! فإن فقدت إيران أسد فقدت جهود 40 عاما، وفقدت معه حليفها حزب الله. وبذلك سيتضاءل المشروع الإيراني ليغدو كذبابة على قفا حصان!

اشتد وطيس المعركة عندما استجمعت إيران قوى معسكرها الشيعي من أفغانستان وباكستان ولبنان والزيدي في اليمن والعلوي/ النصيري في سورية وجنوب تركيا، وهددت البحرين ودعمت الحوثيين في اليمن، وأنشأت شبكة عملاء في شرق السعودية حيث النفط وتجمع للشيعة، وأرسلت كتائبها إلى سورية وقام الحشد الشعبي بمناورات على حدود الكويت.  أما المعسكر السُني فانقسم؛ قطر تنافس السعودية في سورية وتنسق مع تركيا وتدعم فصائل لا ترتاح السعودية لها، في حين اصطفت بوضوح مع إيران في لبنان واليمن والبحرين، وبرز الخلاف التركي/ السعودي حول الإخوان المسلمين وانقلاب السيسي في مصر، ومثله في ليبيا، واصطبغت المنطقة بفوضى السلاح وفوضى السياسة وفوضى التراشق الإعلامي، فأصبحت أكثر مهنتين دخلاً في المنطقة مهنة الإعلامي ومهنة حفار القبور!

يُعتقد أنه بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية دعمت السعودية الجماعات المعتدلة كالجبهة الإسلامية، والجيش السوري الحرّ المحايد أيديولوجياً، في مواجهة الفصائل التابعة للإخوان المسلمين، والجماعات الجهادية كجبهة النصرة التي كانت تابعة للقاعدة، أعلنت فيما بعد فك ارتباطها عنها. 

قادت السعودية سياسة غاضبة على أسد، عبر وزير خارجيتها سعود الفيصل الذي طالب مرارا بتسليح الشعب السوري أو إيقاف أسد عن إجرامه؛ وفي تصريح ناري في مؤتمر أصدقاء الشعب السوري في تونس قال: "على الأسد أن يرحل طوعا أو كرها"، وأذكر أن كلمته وانسحابه من المؤتمر أحدثا اضطرابا، فطلب السفير الأمريكي فيلتمان التحدث إلى السوريين عبر شاشة الأورينت وقال لي: "لن أترك السوريين يظنون أن السعوديين وحدهم يطالبون بالديمقراطية في سورية"! كما رفض الفيصل ممارسة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري الضغوط على المعارضين لقبولهم بحل سياسي سيبقي الأسد في السلطة بعد مجازره؛ وفي اجتماع القمة العربية في القاهرة 2015 غضب الفيصل لطلب بوتين في رسالته إلى المؤتمر تبني الحل السلمي وبعدما أكثر أسد من القتل والدمار؛ كما نجحت السعودية قبلا بعقد مؤتمر جنيف الذي خرج بنتائج طيبة للشعب السوري؛ لكن مع طول سنوات الحرب والتدخل الروسي المباشر في سورية وهن الموقف السعودي وتميّعت مخرجات جنيف الذي أصبح مسلسلاً في حلقات، وصلت لثمانٍ! وتوقفت غرفة الموك العسكرية في الجنوب، التي كانت السعودية إحدى أطرافها، وتوقفت كذلك غرفة الشمال العسكرية التي كانت تنسقها قطر وتركيا عن تقديم مساعداتهم للفصائل المقاتلة لأسد، فسقطت المنطقة الجنوبية سريعا من دمشق إلى حوران بيد الميليشيات الإيرانية حاليا، واستمر التقدم السهل لميليشيات أسد وإيران شمالا حتى وصلت إلى 20 ميلا قبل الحدود التركية.

انتهى الفصل الأخير من التدخل السعودي في سورية بالطلاق مع المعارضة عبر رسالة حادة وجهها وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لها مع وفد من هيئة المفاوضات العليا، (التي تشكلت على أنقاض الائتلاف الذي كان قد تشكل على أنقاض المجلس الوطني)، الذي التقاه بتاريخ 24/12/2018  مفادها أن السعودية ستقلص دعمها العسكري لجهود الإطاحة ببشار الأسد، وأن الوقت حان لتُكرّسَ المعارضة طاقتها لتأمين صفقة سياسية مع أسد برعاية روسيا في مؤتمر سوتشي للسلام للحصول على صفقة مناسبة لهم في عملية الانتقال السياسي، وفقاً لما نقلت مجلة "فورين بولسي" عن مصدرين من المعارضة ومسؤولين دبلوماسيين. وذهب مؤتمر "سوتشي" حيث ذهبت المؤتمرات الأخرى إلى مجرد ذر رماد سياسي في عيون المنكوبين! ونحن الآن في مرحلة إطفاء النار تحت المرجل السعودي الإيراني الذي أنتج حروب الوكالة التي لا نظن أنها ستتوقف طويلا، فالإيراني لا يزال يسعى لتطوير برنامجه النووي ولا يزال يضع إيراداته النفطية في خدمة مشروعه بنفسٍ طويل على نار هادئة تحرق الشرق كله بمن فيه!

المشكلة أن السوريين وقعوا فريسة ظنهم أن القضايا العادلة تنتصر من تلقاء نفسها! كما وقعوا فريسة عالم لا يكترث للضعفاء ولا لقيمهم! صحيح لا يمكن الاستغناء عن اللاعبين الدوليين لتحقيق السلام لأي شعب والشعب السوري أحدهم، لكن هذا لا يعني الارتهان للاعبين الدوليين، وإنما ضرورة السعي لخلق معارضة مدعومة من السوريين أنفسهم أولا وآخرا وعودة السوريين إلى زخم يوم الثورة الأول عبر تنظيم أنفسهم في الخارج والداخل، وخلق معارضة ليس فيها أي من الأشباه السذج الفاسدين الذين انتقاهم المجتمع الدولي لنا وانتهت المعارضة إليهم حاليا، فالعبيد لا يقدمون حرية للأحرار!

إذا كان صحيحا أن السعودية قد غابت عن المشهد السوري، لكن الحركة السياسية السورية إذا اكتملت عناصر قوتها، الآنفة الذكر، فإنها لا تستطيع إلا أن تقيم علاقات خاصة مع المملكة. وإني لأعتقد بأن قادة السعودية والإمارات يدركون أكثر من أي وقت مضى خطر التمدد الإيراني في أي منطقة عربية عليهما، وهذا ما دعاهم لمواجهة إيران والحوثيين في اليمن. كما أن بلاد الشام هي الحدود الشمالية للسعودية وسورية أهم منطقة في بلاد الشام، وبالتالي، فإن الخطر الإيراني في سوريا ولبنان هو خطر استراتيجي على السعودية.

اقرأ أيضا:

من يملك مفتاح السلام مع إسرائيل الأقلية أم الأكثرية؟!

سوريا وتركيا: تَقَلُّب السياسة والجغرافيا!

ماذا تستطيع السياسة لدى الثورة السورية فعله مع إيران؟!

الطائر السوري الحرّ في المصيدة القطرية*

التعليقات (3)

    واحد من الناس

    ·منذ 3 سنوات 8 أشهر
    الغريب أن الملك عبدالله ال سعود عديل (زوج أخت زوجة ) المجرم رفعت الأسد..كانوا يستطيعوا لو تعاملوا مع الثورة السورية مثلما تعاملوا مع الحرب الافغانية لم يتركوا فراغ لروسيا..خاصة أن العدو شيعي نصيري

    ناصح لوجه الله

    ·منذ 3 سنوات 8 أشهر
    مقالاتك الأخيرة مسح جوخ وتلبيس إبليس خليك بالتجارة والعمل الخيري أشرفلك في الدنيا.

    الشيعه ليسوا اعداءكم كفى دجلا

    ·منذ 3 سنوات 8 أشهر
    انتم أعداء أنفسكم والرهان على الأجنبي لن ينفعكم الطريق إلى دمشق واضحة المعالم وهذا الميدان ياحميدان
3

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات