"دمشق.. سيرة المواسم والفصول" لمحمد منصور: تاريخ تفاصيل تبدعها الأجيال ويتشبث بها الغائبون!

"دمشق.. سيرة المواسم والفصول" لمحمد منصور: تاريخ تفاصيل تبدعها الأجيال ويتشبث بها الغائبون!
لا تستطيع أن تحبس دموعك وأنت تقرأ عن حاضرة من أهم حواضر المشرق، فتقارن ماضيها القريب بواقعها هذه الأيام، والنكسة المتواصلة الفصول التي أصابتها منذ انقلاب البعث عام 1963 حتى وقتنا الحالي، حيث غدت دمشق اليوم أشبه بزهرة ذابلة في صحراء كالحة تشبه وجوه من شوهوها.

"دمشق.. سيرة المواسم والفصول " هو آخر ما صدر للكاتب والصحفي محمد منصور عن دار موزاييك في إسطنبول. يمكن اعتبار هذا الكتاب دراسة في التاريخ الاجتماعي لدمشق، وأهم معالمها التي رسمت صورة تلك العاصمة الأقدم في التاريخ، والمواسم والفصول التي تشكل الذاكرة الوجدانية للدمشقيين، ومعهم السوريون بلا شك، دون نسيان التعريج بشكل سريع على واقع هذه المعالم بظل حكم نظام الأسد، في محاولة من الناقد والباحث الدمشقي الذي سبق أن أصدر كتبا عدة عن دمشق، إدخال تاريخ ووقائع الثورة وأحداثها بنسيج التاريخ الاجتماعي لدمشق، وهي مسألة هامة جدا تتجلى منذ إهداء المؤلف كتابه هذا  لشهداء الكيماوي في غوطة دمشق، وحتى آخر فصول الكتاب حين أدخل مجموعة (عدسة شاب دمشقي) الثورية، ضمن تراث التصوير الضوئي لمدينة دمشق، التي التقطت أولى صوره بعد اختراع التصوير الضوئي في العالم بأربعة أشهر فقط، فالكتابة عن دمشق تأخذ منحى سياحياً وتذكارياً عادة... ولكن منصور أدخل فيها البعد التوثيقي النقدي.

تأملات متجددة ولغة أدبية رفيعة

يمكن وصف محمد منصور بأنه من جيل الدمشقيين الشباب الذين حملوا على عاتقهم مشوار توثيق متغيرات التاريخ الاجتماعي والثقافي لمدينتهم.. وعندما أصدر عام 2014 كتابه (دمشق ذاكرة الوجوه والتحولات) ثم (دمشق تذكارات أموية) قدم عناوين جديدة في التراث الدمشقي.. وهذا ما أشار إليه الناشر في كلمة الغلاف في كتابه الجديد الذي صدر بالتزامن مع كتاب آخر هو (دمشق طقوس رمضانية) حيث يقول: 

"من الواضح أن الكتابة عن دمشق في مؤلفاته باتت تياراً متوهجاً بالأفكار التوثيقية الخلاقة والالتقاطات الذكية التي لا تجتر ما كتبه من سبقه وهم كثر من أبناء المدينة وعشاقها، وإنما تسعى للتعبير عن زاوية جديدة لرؤية هذه المدينة التي تبدو لمنصور خزانا لآلاف الصور والحكايات والتذكارات والتأملات المتجددة" 

 ولا يمكن فصل هذه التأملات المتجددة عن عين الصحفي الخبير التي يرى بها المؤلف مدينته أو يحاول استعادتها وهو بعيدا وغائب عنها كما يقول في مدخل الكتاب (دمشق ميلاد الذاكرة) التي يشبه غيابه عنها بحالة السجين السياسي الذي لا يعرف موعد انتهاء محكوميته، ويصدّر كتابه بنص أدبي بديع ما يقول فيه: 

"من يستطيع أن يحدد الميلاد الحقيقي لذاكرته حقاً... وأي ذاكرة ولدت قبل الأخرى: الذاكرة البصرية... أم ذاكرة الشم والرائحة. ذاكرة اللمس... أم ذاكرة الطريق على وقع خفقات الحنين المدهش، الذي لا تعرف وأنت تسير في حواري دمشق كيف ينهال عليك، ومن أي عصر تنبعث نسائمه الأولى مسكونة بسرعة الضوء؟ ولماذا يعابثك بلطف وكأنه يريد أن يحدثك بما مر في كل بقعة تقطعها، من وقائع وأحداث وشخوص  ودهور يظنك غافلاً عنها ".

شهب النار البعثية!

 يقسم الكاتب كتابه إلى بابين رئيسيين الأول بعنوان: (سحر الجغرافيا يعبق في فضاء التاريخ) وفيه يكتب عن المعالم الأساسية التي صاغت أسطورة دمشق "جبل قاسيون/ نهر بردى/ بساتين الغوطة" والثاني بعنوان: (سجل المواسم والفصول) وفيه الكثير من العناوين المهمة والجديدة حقا كمواسم الثلج والربيع والحنين إلى زمن التراموي والقطار ومواسم الذكرى المنبثقة من الصورة الفوتوغرافية، ومواسم العشاق وشواهدها المكانية والصحفية، وأشهر أماكن لقائهم في ذاكرة المدينة. 

 الكتابة عن قاسيون لا تنفصل بالنسبة للمؤلف عن الإرث التلفزيوني فيه باعتباره الجبل الذي انطلقت من قمته شارة البث التلفزيوني وصورت الأعمال التلفزيونية الأولى في الاستوديو الذي تربع على أعلى نقطة فيه، ولا عما جرى خلال سنوات الثورة، ولهذا لا يفوت الكاتب تحت عنوان (محنة قاسيون الأخيرة) الإشارة إلى أنه على هذا الجبل الأشم، نصب جيش النظام مدفعيته عام 2012 وبدأ يدك منه أحياء دمشق الجنوبية ومدن وبلدات الغوطة الشرقية، بينما دك الطيران الإسرائيلي هذا الجبل أكثر من مرة دون أن يتجرأ النظام على الرد، كما يربط المؤلف بين ذاكرة الجبل والقصائد والأغنيات التي قيلت فيه ومنها أغنية البعث الشهيرة (من قاسيون أطل يا وطني) التي يقول عنها  "في كل هذه السيرة الحزينة تحول إلى معبّر حقيقي وليس مجازياً عن قول الشاعر: (البعث ينثر فوقها الشهبا ) فقد نثر حكم البعث والأسد على دمشق ومن فوق قاسيون نفسه: شهب النار والموت.. وتفرج عليه وهو يشتعل باللهب والنار، في لحظة تاريخية أدمت ذاكرة قاسيون.. وستدمي ذاكرة أجيال ستأتي".

بردى والغوطة والهجمة الاستيطانية

نقرأ في ثنايا هذا الكتاب، أسماء العديد من الباحثين الذين كتبوا في تاريخ هذه المدينة، وتميزها عن غيرها من عواصم الأرض، حتى ألهبت أفئدة الشعراء فجادت قريحتهم في وصفها.. لكن المؤلف لا يكتفي بما قالوه، بل يتابع  مسيرة الرصد التاريخي، وكيف تحول تحول نهر بردى اليوم، إلى أخدود دمع أسود على وجه دمشق، بفعل المطاعم والمقاهي التي على جانبيه، وهي تدير مياه صرفها الصحي على النهر، دون أي إجراءات حكومية رادعة، فضلاً عن لجوء المسؤولين لحفر آبار في مناطق حرم النهر لري مزارعهم وملء مسابحهم، ما حرمه من كثير من المياه التي كانت تسيل في مجراه، وتعطيه شكله الجميل الذي تغنى به الشعراء سابقاً، يقول منصور عنه: 

"ليس سراً أن بردى لا يقارن بالأنهار الكبيرة في العالم وهو ليس منها بالتأكيد.. وليس سراً أن ضخماً مثل نهر النيل يفوق طوله نهر بردى بما يقارب المئة مرة.. ومع ذلك لم ترتبط مدينة في التاريخ مثلما ارتبطت دمشق ببردى.. ولم يسكن نهر وجدان ومشاعر الناس مثلما سكن هذا النهر نفوس الدمشقيين وأفئدتهم، وسرى في حاضر أيامهم وذكريات حياتهم". 

ورغم سحر الماضي الذي يعشعش في ثنايا الكتاب فالشام الحزينة السليبة، تعيش اليوم مع غوطتيها أسوأ أيام تاريخها، بعد ما أصابها من حكم البعث، الذي شجع أتباعه على الهجرة إليها، وحثهم على السكن في أحياء عشوائية على أطراف دمشق، تحيط بها كإحاطة القيد باليد، ثم قام النظام بشكل أو بآخر بالقضاء على البساط الأخضر الذي كان يحيط بها على امتداد القرون، عبر غض الطرف عن البناء في المناطق الزراعية، بدل المناطق الجرداء، رغم وجود مخطط تنظيمي، ولكن كل قانون في سوريا الأسد يمكن تجاوزه بقليل من الرشوة للمسؤول الأمني، الذي هو الآمر والناهي في البلدية والمكتب التنفيذي فيها، المسؤول عن البناء.

ويعرف أهالي المدن المحيطة بدمشق الكثير من عناصر وصف ضباط الأمن الذين دخلوا إلى مدنهم فقراء، وفي غضون سنوات أصبحوا من رجال الأعمال الذين يمتلكون الكثير من العقارات، وما ذلك إلا نتيجة الكم الكبير من تراخيص البناء المخالفة التي أعطيت للتجار، وكان لهؤلاء الأمنيين حصة كبيرة منها.

من الطبيعي والحال هذه أن تكون مدن وبلدات الغوطة من أول الثائرين ضد نظام البعث، وبعد أن عجز النظام عن تركيعهم عبر الحصار المطبق وسياسة " الجوع أو الركوع" و لم يتوانَ عن قصفهم بكل أنواع القذائف حتى وصل به الأمر بعد عجزه عن تركيعهم إلى استخدام الكيماوي عام 2013 ما أسفر عن مقتل نحو 1500 مدني وإصابة المئات بحالات اختناق، وهذا أيضاً ما لم يفت منصور الإشارة إليه بلغة مفعمة بالنبل: 

 " لكن غوطة دمشق مثلت خلال سبع سنوات متواصلة من عمر الثورة السورية عنواناً من عناوين معركة الحرية، فغدت وهي تعيش سنوات الحصار الطويلة شخصية اعتبارية تحكي قصة شعب يخوض ملحمة تصنع حداً فاصلاً بين زمن الأحرار وزمن العبيد، وبين كلمة الحق وكلمة الباطل".

سجل المواسم والفصول

في الباب الثاني من الكتاب "سجل المواسم والفصول" يشير الباحث إلى عدد من المناسبات التي تشكل الذاكرة الوجدانية للدمشقيين، بل وحتى للسوريين الذين يعتزون بعاصمتهم، من الثلج وهطوله وتسمية السنوات به، مروراً بالبيت الدمشقي الفاخر، والمخفي الجمال عن المارّة، تواضعاً أو لأسباب أخرى، وصولاً إلى خط الترام الذي دخل دمشق مبكراً، والذي خاض الدمشقيون من أجله أطول إضراب في تاريخ العرب الحديث في ثلاثينيات القرن العشرين، ولكن تم إيقافه عام 1962 كما يوثق المؤلف، حيث كان ترام الميدان آخر خط تم إيقافه دون أسباب تذكر، رغم أن الترام من أرخص وسائل النقل وأقلها ضرراً بالبيئة.. وليس انتهاء بمواسم العشاق وصخرة (اذكريني) في الربوة، التي تمثل أشهر تذكارات العشق في ذاكرة دمشق بعد أن نسجت حولها الأساطير.. دون أن ينسى أشهر أماكن لقاءات العشاق التي عاصرها، بما فيها تلك التي كان يرتادها المثقفون والمخرجون "أثناء التحضير لتصوير مسلسلات جديدة يملؤوهم الإحساس بحاجة الوجوه الجديدة إلى التعرف إلى قاماتهم الإبداعية الشامخة، وسط أجواء من الابتذال والتظارف" على حد تعبيره. 

تغيير ديموغرافي

في ظل عملية التغيير الديموغرافي التي تحاول إيران فرضها على عاصمة الأمويين، هناك أهمية كبيرة للتوثيق الصُوَري، وهو تقليد حي في دمشق التي تَولعَ أبناؤها بتصوير معالمها فيذكر منصور أجيالا من المصورين الفوتوغرافيين الذين وثقوا معالم جُلَّق منذ بداية اكتشاف التصوير من خلال مصورين فرنسيين وإنكليز وألمان ومن ثم سوريين حتى يومنا هذا  حيث يخص  مجموعة "عدسة شاب دمشقي" الثورية، بوقفة خاصة، في سياق مواسم الذكرى التي سكنت زوايا دمشق وصورها. تُرافق الكتابَ في نهاية كل فصل عدد من الصور النادرة المرفقة بشرح توثيقي هام. 

قبل عقود من الزمن قال نزار قباني: "لا أستطيع أن أكتب عن دمشق، دون أن يعرّش الياسمين على أصابعي" واليوم نحن لا نستطيع أن نكتب عنها دون أن تقف الغصة في حلوقنا، كيف لا ؟ والمجاعة بدأت مخالبها تنشب في لقمة الدمشقيين خاصة والسوريين عامة، والفيحاء تواجه اليوم وحيدة أسوأ نظام حكم عرفته عبر سنواتها العشرة آلاف، وجرى على يديه ترييف ممنهج لمدنيَّتها، مع تدمير لمعالم الجمال فيها، فضلاً عن غزو إيراني يحاول طمس معالمها وتغيير ثقافتها وتاريخها، في ظل تعامٍ دولي- إن لم يكن تواطؤاً- عما يُقترف بحق أرضها وأهلها، من هنا تأتي أهمية هكذا مؤلفات، التي تبدو وكأنها تقول إن تاريخاً ضارباً في العمق بجذوره لا يمكن اقتلاعه، ولا حتى تزويره وتغييره.. لكن رغم هذا كله تبقى الكتابة عنها، بهذه الروح المتشبثة بكل تفصيل وواقعة وذكرى.. فعل تأصيل، وفعل انتماء؛ يستحق أن يكون مثالا يحتذى  في الكتابة عن الإرث الاجتماعي الهام لباقي المدن السورية.. وليس دمشق فحسب.

التعليقات (1)

    آلاء شرابي

    ·منذ 3 سنوات 3 أسابيع
    عنجد اللي بيشوف صور الشام بالخمسينات والستينات وبيشوفها هلأ وقبل عشر سنين.. بيبكي على الحالة اللي وصلت لها.. الله ينتقم من اللي كان السبب
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات