من جانب آخر تكتنز الرواية على مستوى التجارب الخاصة في الحياة والتحولات في ظل الحرب الدائرة. وهذا لا يعني أننا سنقرأ العذاب في عيون شخوصها، بل نرى الشوق أيضاً، ونتلمس العطش للحب والحياة بكل ما يعتلج في قلوبهم، من هنا نقلب صفحات الرواية ومن هنا نجد القارئ بين العواطف وجزرها، بل بين اليأس والرجاء بكل القلق الذي يصاحب المتغيرات المتسارعة، والتحولات المتعاقبة. فالتيه والغياب والفقدان هي مباضع الألم التي تنخر جنبات القارئ.
الحرب والحب والوطن
ارتكز الخطاب الروائي في "ملاذ العتمة" على ثلاث ثيمات أساسية هي: الحرب والحب والوطن، تتداخل هذه الثيمات فيما بينها، وتبرز من خلال علاقة الشخصيات التي تشكل أحداث الرواية. تبدو الرواية للوهلة قصة خاصة بامرأتين هما غفران وسيلينا وعاطف، لكن ما وراء سطورها يوحي بدلالات أعمق مما تبدو عليه، إذا انتقلنا من التجربة الخاصة إلى تجربة عامة، هي حالة وطن في مرحلة ثورة من أجل التحرر الشخصي والعام على حد سواء.
يمثل الحب قيمة إنسانية، لا يمكن للفن أياً كان نوعه التخلي عنه، فالحب يمنح الفن جاذبيته وسمته الإنسانية. لكن هل يصمد الحب في زمن الحرب؟
شكلت الحرب الثيمة الأساسية في الرواية، إذ يستند عليها السرد في تحديد مصائر الشخصيات وربط علاقاتها، وكشف مواقفها وآرائها. بانطلاق الحرب التي يشنها النظام الديكتاتوري السوري ضد شعبه، تتغير ملامح مدينة دمشق، تحتل الدبابات والقوافل العسكرية والأسلاك الشائكة شوارعها، وتدقق ساعة الحرب لتحد من انتشار الناس بالشوارع، وبذلك تصبح الحرب هي المحك الحقيقي لكشف ملامح الشخصيات المنتمية للوطن والداعمة للثورة، أو تلك المناهضة لها.
ثوري وشبيح
من الصنف الأول تظهر غفران ابنة يتيمة لمعتقل سياسي لاقى حتفه تحت التعذيب، التحقت بصفوف الثورة من اليوم الأول وتوزع الورورد على الناس، بينما أعلن حبيبها عاطف إمام المسجد والمدرس الجامعي، الذي يرى دعم النظام من خلال خطبه العصماء وحثه الشباب للدفاع عن الأمن والسلام اللذين نلوذ فيهما.
يرى بطل الرواية أن: في كل ذهاب، هناك شيء من الهروب يشبه التخلي عن الواجب، أما البقاء في الوطن فإنه نوعاً ما طريقة للوفاء لمبادئ الثورة.
من خلال موقف عاطف يطرح السرد وجهة نظر الفئة التي اصطفت مع النظام ضد الشعب، خلال الثورة السورية، وهل هي فئة خائنة لوطنها وتاريخها، أم أنها تبحث عن مصالحها الشخصية؟ وفي هذا الشأن يتساءل السرد: أين تبدأ الخيانة؟ وأين تنتهي؟ أليس نقصاً من المروءة أن تخون، معناه أنك تشكك في حقيقية الآخرين.
والآخرون هنا هم غفران وسيلينا وعاطف وكل الأمهات اللواتي أرسلن أبناءهن للتظاهر في مرحلة السلمية ومن بعد حمل السلاح في مرحلتها المعسكرة للدفاع عن الوطن والنفس.
يعتقد عاطف ومن على شاكلته أنه إذا سقط النظام، فالمعارضة التي يصفها بالإرهابية، غير قادرة على أن تدير شؤون البلاد، وما الفائدة من كل هذا؟. كذلك فإن عاطف رجل الدين لا يعتبر نفسه كباقي سكان سوريا، إنه لا يشبهم هو يختلف عنهم، بالسياسة التي اتبعها النظام منذ وصول حافظ الأسد للسلطة سنة 1970، بتقريب رجال الدين منه سواء بالترهيب أو الترغيب، ومحاولته جذب رجال الدين إلى صفه في حربه الشعواء ضد مطالب الحريات بمعناها الشامل، مقنعاً إياهم أن الشعب لا يشبههم، من خلال سياسة فرق تسد، الذي يتخذها النظام أسلوباً لإدارة البلد والاستفراد بمصائر أناسه.
السرد الذاتي والسرد الموضوعي
ينبني السرد في رواية"ملاذ العتمة"على ازدواجية الخطاب الموزع بين سرد ذاتي وآخر موضوعي، ورغم كثرة شخصياتها إلا أنها مقيدة، يتحكم في حضورها السرد المتعدد الأصوات، فاستثناء حوارتها الخارجية القليلة، يكاد صوتها يختفي من السرد، في مقابل ذلك تحضر منولوجات البطل بكثافة، عاكسة مشاعره وأفكاره، ما أدى إلى هيمنة السرد الإخباري الذي تقل فيه الأحداث، لنكون أمام رواية أقوال.
يعوض المؤلف الاقتصار في الأحداث بتكثيف اللغة الشعرية، والاعتماد على الرمز الموحي. يعتبر الزمن من الوسائل الفنية الجمالية التي يعتمدها الكاتب لإيصال أفكاره، لما للرمز من حمولات دلالية، تشرك القارئ في تأويل النص ومنحه أبعاده الفكرية.
وظف المؤلف العديد من الرموز بشكل واضح وجلي؛ أهمها المرأة وبردى..توظيف المرأة عادةً كرمز يوحي للوطن، وقد استعان بها المؤلف بطريقة واضحة، يمكن الاستدلال عليها من خلال شخصيات: غفران الوطن الأم، سيلينا الوطن البديل المنفى.
حب ينكسر وموت ينتصر
من خلال أحداث الرواية، نتعرف على علاقة الحب التي تجمع بين عاطف وسيلينا الجميلة القادمة من ألمانيا، وحضورها في الرواية يرمز للمنفى الآخر المختلف عن الوطن البديل بكل حمولاته الثقافية.
ترتبط سيلينا مع عاطف في علاقة غير شرعية، لا يعلم بها أحد، سوى غفران ذاك الحب الذي يفوح برائحة تراب الوطن، وكانت علاقتهما باهتة في البداية، لكن سرعان ما أصابها القوة والتجدد الدائم.
لقد أحبت سيلينا عاطف، وأحبت بلده ووطنه سوريا، ولكن قرار الاستقرار في ألمانيا الذي عرضته سيلينا مراراً، يلاقي قبول عاطف في نهاية المطاف، هذه الخطوة المحملة بالدلالات الرمزية الموحية، لا يمكن ورودها في السرد اعتباطاً، وقد تزامنت مع اشتداد العمليات العسكرية بين النظام والثوار، ما تسبب في هجرة غفران للمنفى، أيضاً، وفي ذلك إيحاءات لمآلات الثورة، ما أخذ بالقوة لا يسترد سوى بالقوة.
وبتغيّب غفران عن السرد مؤقتاً، تحضر سيلينا ابنة ألمانيا التي ترمز للوطن البديل والمنفى، تخاطب البطل بلغة بسيطة ولكنها موحية، ليبذل هو روحه فداءً لوطنه الأم في نهاية المطاف، كرمز للإنسان السوري الثائر الرافض للعيش الرغيد في ألمانياً بديلاً عن الوطن ولحب غفران، وكما في كل حرب ينكسر الحب، وينتصر الموت.
وأخيراً ستقف حائراً، أمام نهاية الحب الذي تحدى كل ظروف تحيطه ليحيا، وبقي ينبض لآخر لحظة في قلب الرواية، وكأنه الانتصار الوحيد على الحرب التي جردت كل جميل، وجردت العالم آنذاك حتى غفران وسيلينا وعاطف النهاية التي تحلم بها وأنت تمد يدك لآخر رشفة من فنجان قهوتك وتقرأ الكلمات الأخيرة، فتغلق الرواية، وقلبك قد فتح باباً من الأمل والأسى، تجعلك تدرك فرص الحياة في الهروب أو البقاء.
الراوي
تتميز الرواية بتعدد الأصوات، حيث هناك عدة رواة، عاطف وغفران وسيلينا، وهم الرواة الرئيسيون وينقلون وجهات نظر الشخصيات الفرعية، أثناء السرد ما يعطي للرواية ثراء وتكاملا، لأنها تستعين بعدة وجهات نظر وتكشف أسرار الشخصيات على ألسنتهم ومن خلالهم.
رواية"ملاذ العتمة"يضفي فيها الروائي السوري ضاهر عيطة حالة من فقدان الأمل والقهر واليأس والذهول، فيقفز النص من الأمام إلى الوراء ويعود للخلف دون ضابط أو التزام، لكن الخط العام للرواية يبقى واضحاً ويمكن تتبعه، ويتلخص أن هناك حباً مشتعلاً بين شخصين، وأن هناك حرباً يشنها النظام ترفض هذا الحب رفضاً صارماً.
التعليقات (0)