نبهنا بعض قيادات المظاهرات أن تلك المظاهر ستؤذي الثورة، لكن الشباب المتحمس سخر من الحالة، وأخذوها على سبيل الدعابة، معتقدين إنْ هي إلا بضعة أشهر وينتهي احتلال أسد ويعودون إلى حياتهم الطبيعية، وما الطلبات القطرية إلا حالة مسرحية هزلية ستنتهي قريبا. لكن ما لبث الهزل أن انقلب إلى جد بعدما بدأت إمدادات السلاح تصل للمتظاهرين لمواجهة الشبيحة وكتائب أسد! تحولت الثورة السورية من سلمية دامت نحو ستة أشهر باعتراف بشار أسد نفسه، إلى حرب خسر أسد نحو 83% من سلطته على الأراضي السورية مع بداية عام 2016.
قطر وحدها اقتصرت إمداداتها من المال والسلاح على الفصائل الإسلاموية.
قطر تبحث عن نفوذ!
توضحت معالم السياسة القطرية الجديدة بعد شهور من انقلاب الشيخ حمد آل ثاني 1995، التي يمكن تلخيصها بالبحث عن دور سياسي يجعل نفوذ قطر أكبر من مقاسها الجغرافي والديموغرافي، ويكون قادرا على منافسة السعودية في الشرق الأوسط الذي تمزقه وتستضعفه الصراعات والحروب.
حمد بن جاسم وزير الخارجية آنذاك، المشاكس المسلح بقناة الجزيرة التي أسستها قطر كسلاح ناعم فتاك بالدكتاتوريات، لتقود أول انفتاح إعلامي على حرية الرأي في فضاء الوطن العربي عدا قطر ذاتها المحذوفة من خارطة التغطية الإعلامية للجزيرة.
وجدت قطر غايتها في استغلال حالة الإسلام السياسي الذي يعاني مشاكل نتجت عن آثار التعذيب الوحشي في السجون العربية، طيلة نحو 65 عاما، كفلت تخريج جيل متطور متشدد جدا عن فكر الإخوان المسلمين، كجماعة التكفير والهجرة والقاعدة وغيرها من السلفية الجهادية، فاحتضنتهم الدوحة سرا، لكنها، علنا ودون مواربة، تبنت الإخوان المسلمين، أيتام ومشردي الأنظمة العسكرية العربية، لتصبح الدوحة عاصمتهم السياسية والإعلامية؛ لكن تبني الدوحة للإخوان المسلمين في الدول العربية لم يمنعها من احتواء أي تهديد قد تشكله حركة الإخوان المسلمين المحلية في الداخل القطري!
أما في الشق الدبلوماسي، فأصبح مألوفا ظهور حمد بن جاسم في الإعلام العربي بعدما تحولت الدوحة إلى وسيط "سلام" دولي تؤمها وفود أفغانية وإثيوبية ولبنانية وعراقية وفلسطينية وليبية ومصرية ويمنية وسورية؛ لكن، ويا للمصادفة، لم تنجح في أي وساطة منها ولم تجلب للإسلاميين إلا الضعف والموت! فإن استطاعت قطر تحقيق نفوذ ضخم أكبر من حجمها بكثير خلال بضع سنين، لكنه أشبه بالفرانكشتانية، استمتعت به بعض الوقت دون قدرة على السيطرة على مخرجاته وبالتالي تحمل مسؤوليته، وتحوّل الدور القطري إلى كارثة على شعوب كل دولة تدخلت فيها، وضاعت استثماراتها هباء الريح، إلا إذا كانت استثماراتها أساسا مقررة ضمن عملية الفوضى الخلاقة!
قطر والربيع العربي في سورية
عفويا 100%، انفجر الربيع العربي في مجتمعات خالية من الحياة السياسية. لكن قيادات المظاهرات فشلت في البحث عن حامل سياسي، أحزاباً ونقابات وتجمعات سياسية، يحمل مخرجات الغضب والأمل الشعبي. أما قطر التي شجعت مظاهرات الربيع العربي، أصبح شغلها الشاغل جر المظاهرات لتتكئ على الإسلام السياسي في محاولة لصبغها به وجعلها من مخرجاته، مع أن الإسلام السياسي كان ميتا في دول الربيع الخمس، وأعضاؤه مغيبون في السجون أو مبعثرون في الغرب!
رغم محاولاتنا تأخرت قناة الجزيرة بعض الوقت في تغطية المظاهرات في سورية؛ كنا نرسل أفضل اللقطات الحصرية من المظاهرات، دون أن يعرفوا أن مصدرها قناة أورينت، علّها تنجذب للتغطية الإعلامية لنحظى بتأييد عربي، فتلفزيون الجزيرة أقوى عربيا من تلفزيون أورينت المحصور بالجغرافيا السورية. وحده الإعلامي السوري فيصل القاسم كان شديد المتابعة لنا، مع أن برنامجه الشهير الاتجاه المعاكس هو الآخر تأخر في تغطية الثورة السورية!
بعد عام على انطلاق الثورة السورية بدأت الدبلوماسية القطرية تبحث عن طريقة تتدخل فيها في الملف السوري؛ المثير للسخرية أنها استخدمت طريقة العطاء والمزايدة(!) فبحثت عن مقاول سوري مقيم في قطر يكون واسطتها في التواصل مع الداخل السوري لتوصيل المال والسلاح وتأليف ميليشيات ذات صبغة إسلاموية. رست المزايدة على شخصيتين سوريتين أحدهما يملك مطعما والآخر محلا لبيع السيراميك وأدوات الحمامات(!) هذا يؤكد أن قلة من منظمي المظاهرات استجابوا لطلبات قطر بأسلمة مظاهراتهم في السنوات الأولى للثورة.
التدخل القطري في دعم الفصائل الإسلاموية، قضى على أي فصيل آخر مختلف، والتدخل نفسه أغرق، لا أريد أن أقول أغرى! تلك الفصائل في الاقتتال الداخلي، وليس أسوأ من صراع المتشابهات! فحطم آمال الثورة عند كثير من السوريين الذين آمنوا بها، خصوصا بعدما انسحبت الفصائل الإسلاموية استجابة لطلب الممول من معظم المناطق التي استولت عليها أصلا من الفصائل الأولى للجيش الحرّ السامي آنذاك!
قطر تدخلت في سورية عبر الفصائل الإسلاموية، فيما تدخلت إيران عبر الميليشيات الشيعية، واندلع القتال بين الطرفين في أزقة المدن السورية أدى إلى خراب نحو 70% من الحواضر السورية، الغريب أن الدولتين يضمهما حلف مشترك منذ نحو 15 عاما وبرزت قوته أثناء الأزمة الخليجية الأخيرة، لكن الأغرب أن الدوحة نفسها موّلت حزب الله المدعوم من إيران والذي يعتبر مسؤولا عن دمار كثير من المدن السورية وقتل مئات آلاف السوريين وتهجير ملايين منهم؟! ناهيك عن صفقات أخرى.
النخب السورية في خدمة المشروع القطري
بالتوازي مع التسليح القطري للمعارضة الإسلاموية المقاتلة، دعمت الدوحة استفراد الإخوان المسلمين بالساحة السياسية وتحولت الدوحة لمقر لاجتماعات المعارضة السورية وممول أساسي لتنظيماتها السياسية، الائتلاف وسواه. وأرسلت الدبلوماسية القطرية دعواتها إلى معظم النخب السياسية والثقافية والإعلامية ليجتمعوا في الدوحة ودعمتهم مالياً لتأسيس منظمات أو تجمعات بيافطات مختلفة ما لبثت أن تكاثرت كالأرانب، أو زجت بعضهم داخل الائتلاف ليبعدوا عنه شبهة سيطرة الإخوان المسلمين! وحيث ينثر المال بلا وعي ينتشر الفساد بلا ضوابط.
وأصبح مألوفاً أن نسمع عن منظمات متنوعة تحت يافطات حقوق الإنسان ومراكز أبحاث بأسماء متعددة ومنصات إعلام بشقوقه: مواقع إلكترونية وإذاعات ومؤخرا تلفزيون، وجميع تلك المؤسسات تشترك بصفتين:
- الأولى: أن منتسبيها ليسوا من خلفيات إسلامية بل من اتجاهات مختلفة، ليبراليين، اشتراكيين، عالمانيين، ملحدين، أقليات، غوغائيين من نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي.
- والصفة الثانية: أن مخرجاتها متضاربة ولا تحمل أي صبغة ذات دلالة، ولا يمكن اعتبارها مؤسسات سورية يمكن تجييرها لصالح الثورة اليوم أو لصالح سورية الغد، تجمعات لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، وإنما مجرد مستوعبات هدفها القبض على النخبة السورية، أهم أهدافها شل فعاليتها في إنتاج مؤسسات وتجمعات تنشئ حياة ثقافية فكرية اجتماعية سياسية سورية، ضمن عملية إعاقة احتمال ظهور معارضة سورية مستقلة وفاعلة وموحدة!
ولا يختلف عاقل على أن مشروع النفوذ القطري قائم على دعم الإسلاموية وواجهته الإخوان المسلمين، لذلك سواء أدركت تلك النخب أم لم تدرك هي تعمل في خدمة هذا المشروع!
ساندتُ وشاشة الأورينت كل الاتجاهات السياسية في سورية الثورة، لكننا وقفنا ضد من يحاول أن ينفرد بالساحة السياسية بالإلغاء والاحتيال والعمالة. وطالما آمنّا أن صندوق الاقتراع، يوما ما، الفيصل بين جميع التوجهات، ومن حق الشعب السوري أن يقرر مصيره. وعندما يفعل على الجميع أن يحترم خياره. لكننا بنفس الوقت نؤكد أن الإسلاموية بشكلها الراهن مشروع محكوم بالفشل ولا مستقبل له، وعلى الإسلامويين أن يستفيقوا من الأحلام التي حُقِنوا بها، فالواقع أقوى من الأحلام، وأن يدركوا أنه لا يوجد حسن نوايا في السياسة الدولية، وأننا جميعا سوريون وأن عليهم أن يعودوا سوريين، لأن الحياة في وطن يحقق متطلبات سكانه بتنوعاتهم ويحقق الحرية والعدالة والمواطنة للجميع سيجعل الدين أكثر تسامحا والإنسان أكثر اتصالا بالقيم!
إن انقسام السوريين على ما لهم فيه وما ليس لهم فيه، جعلهم نهشا للقوى التي تلعب على تراب وطنهم، صغيرها وكبيرها، وجعل الكتابة في كل موضوع أمرا شائكا؛ فمثلا: كنت قد طلبت من الإعلامي أحمد كامل حينما كان رئيس تحرير مجموعة أورينت الإعلامية عام 2017، تغطية خاصة لسلوكيات الدوحة في التدخل في الثورة السورية لكنه تباطأ لأسابيع، لأسبابه! وحدثت الأزمة الخليجية حينها، فطلبت منه التوقف والتغاضي عن الموضوع وذلك لانقسام الشعب السوري، وكي لا يظن أحد أننا طرف فنؤثر بذلك على قضيتنا عموما!
لسنا ضد دور إيجابي قطري يدعم ويخلّص السوريين من مأساتهم، ونتمنى من دولة قطر أن تساهم في استغلال الفائض من النفط والغاز في خلق نفوذ لها عبر البناء بدلا من التخريب؛ عبر التنمية سواء لشعبها أو للشعوب التي تريد أن تترك لنفوذها أثراً طيباً فيها، كما فعلت أمريكا بعد الحرب العالمية بتبنيها مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا؛ إن الغاز سينتهي يوما لكن مرارات الشعوب تبقى عالقة على لسان من تجرعها!
هامش*
*يُعرَفُ الطير السوري الحرّ الذي يتواجد على أطراف البادية السورية بأنه من أنبل وأندر الطيور الكاسرة وأغلاها ثمنا، ويُعرف القطريون بولعهم في صيد الصقور واقتنائها!
اقرأ أيضا:
من يملك مفتاح السلام مع إسرائيل الأقلية أم الأكثرية؟!
التعليقات (15)