ميادة بسيليس: أيقونة الغناء التي رحلت.. وبقي وطنها "سورية الأسد"!

ميادة بسيليس: أيقونة الغناء التي رحلت.. وبقي وطنها "سورية الأسد"!
برحيل ميادة بسيليس.. تفقد الأغنية السورية المنهكة والمتعبة أساساً، والتي تعاني عقماً في الأجيال الغنائية.. تفقد واحداً من أجمل وأقوى أصواتها التي كانت باقية في السنوات الأخيرة. 

ترحل ميادة بسيليس بعد إعلان سريع وقصير بإصابتها بمرض السرطان. فقبل أقل من شهر، فاجأ زوجها الفنان سمير كويفاتي جمهورها على وسائل التواصل الاجتماعي بهذا الإعلان.. وقبل ذلك بنحو أسبوع كانت قد أعلنت ميادة بسيليس خبر وفاة والدها في تغريدة قالت فيها:

"بابا.. برحيلك من دنيتنا مابقدر ودعك غير بصوتي وترانيمي .. صلّيلي، مع الأبرار والقدّيسين."

سلسلة من الأحزان الشخصية التي عاشتها المطربة اللامعة قبيل رحيلها المفاجئ.. ربما لم تكن لتنفصل عن أحزان وطنها سورية، التي غاب صوتها عنها.. وقد التبس انتماؤها السوري ما بين "سورية الأسد" التي لا يجهل أحد مواصفاتها وبشاعتها ووحشيتها، وما بين "سورية الشعب" الذي قُتل أبناؤه وهدمت بيوته ومدنه وقراه بالسكود والطيران والبراميل.. وهجر وشرد بالملايين لمجرد أنه اشتاق للكرامة وهتف بالحرية.

الوطن بوصفه "سورية الأسد"!

لم تكن ميادة المولودة لأسرة مسيحية في حلب عام 1967 قادرة على رؤية الصراع من منظار الحرية.. ولهذا عندما أحيت حفلتها الباذخة في (أوبرا دمشق) التي أصبح اسمها كما كل شيء في مزرعة الذل والاستبداد (دار الأسد للثقافة والفنون) لم تجد من تجسيد لمفهوم الوطنية سوى أغنيات من قبيل “ياجبل ما يهزك ريح” و“يا قمر” التي أهدتها لمدينتها حلب "الصامدة في وجه الإرهاب" كما وصفتها.. دون أن ترى في كيماوي وبراميل الأسد من قبل، وميليشيات إيران الطائفية التي تتقاسم النفوذ في حلب من بعد، أي شكل من أشكال الإرهاب.

وبالطبع فأغنية (يا قمر حلب هدي) التي كتب كلماتها فخري قدورة، ليست جديدة، بل تعود إلى عام 2006 حين صدرت ضمن ألبوم (إلى أمي وأرضي) ومثلها أغنية (شوفوا بلدي) التي ختمت بها الحفل.. والتي تقول:

شوفوا بلدي الشمس اللي بتشرق بالحرية

شوفوا بلدي بلد الحب اللي بيتصدر للبشرية

من عنا أغصان الزيتون والأرض اللي أطهر ما يكون

مفروشة بأهداب عيون هيدي بلادي السورية  

لكن التوظيف السياسي لها في لحظة الغناء في دار الأوبرا.. كان عنوان الموقف الملتبس الذي يريد أن يفصل الوطن عن سياق مخاضه الذي يعيشه في سبيل الحرية، ويحوله إلى حالة مجردة تحاول أن تكون لا علاقة لها بنظام القتل والإرهاب ولكن دون جدوى طبعا!  

إن كلمات ميادة المبهمة عن "الحرب" التي قالتها في حوارها مع غابي لطيف في راديو مونت كارلو في نيسان/ إبريل من عام 2019 لم تكن لتخفي سعيها للهروب من دفع ثمن التعبير عن الموقف الذي كان يحتاجه الشعب السوري، قالت ميادة:  "في الحرب عانيت كثيرا خصوصا أنني ابتعدت عن حلب ولكني لم أغادر سوريا أبدا. غنّيت وأصدرت أغنية للشام وأخرى لحلب. ويحزّ بقلب الفنان أن تبقى بلاده تعاني. أتمنى أن يبعد الله الحروب لأننا عانينا كثيرا في سوريا".

خلال سنوات الحرب وبعد تحرير أجزاء واسعة من حلب من سلطة نظام بشار الكيماوي، غادرت ميادة بسيليس مدينتها التي شقت طريقها الغنائي فيها، وأقامت في مدينة دمشق التي غنت لها بحب أيضا.. وخلال سنوات الحرب أحيت أكثر من حفلة في دار الأوبرا، رددت فيها أغانيها التي صنعت  شهرتها كـ (كذبك حلو) و(يا غالي) و(يا طيوب) دون أن تنسى بعض التراتيل الكنسية التي كانت طريقها الأول نحو الغناء.

ومن الكنيسة وتراتيلها التي قالت ميادة عنها: "الذي يرنّم يصلي مرتين، وأنا منذ صغري كنتُ أرتل وأشعر أنني لا أعرف أن أصلي بدون ترتيل. والترنيم غذاء للروح يجعل الإنسان يحس بمعاني الأشياء العظيمة الموجودة من خلال الكتب السماوية" انطلقت ميادة نحو غناء الموشحات.. فكانت صوتا عذبا قادرا صدح منذ ألبومها المبكر (يا ليالي) الصادر عام 1997 بموشحات أبي خليل القباني (ما احتيالي) وزكريا أحمد (يا ليالي) وقبل ذلك حين كنت غنت (يا قاتلي بالهجر).

محمد سلمان والمهمة المستحيلة!  

مع انطلاق مهرجان الأغنية السورية في حلب في عهد وزير الإعلام الأسبق محمد سلمان في تسعينيات القرن العشرين.. كانت ميادة بسيليس صوتا حاضرا بقوة في هذا المهرجان الذي انطلق من فكرة افتراضية في ذهن  رجل المخابرات محمد سلمان.. مفادها أن الدراما السورية نهضت... وعلينا النهوض بالأغنية السورية.. دون أن يدرك أن الأغنية فن مرهف لا ينهض في أجواء الاستبداد والعسف والهمجية المخابراتية والوشاية الأمنية التي كان هو نفسه رمزا من رموزها.. ولهذا عاش مهرجان الأغنية السورية أكثر من عقد كامل ومات دون أن يترك أثرا أو حضورا في الذاكرة.. وربما كانت الاستفادة من أصوات بوزن ميادة بسيليس هو رافعة للمهرجان لا رافعة لميادة حتى عندما حازت على جائزة الأورنينا الذهبية عام 1996 عن قصيدة (حنين) أو أورنينا أفضل حضور مسرحي عام 1997 عن (كذبك حلو) أو جائزة الأورنينا الذهبية  عن (يا غالي) عام 1998 .. فلم تكن هي بحاجة لمهرجان كهذا كي يطلق شهرتها وإن كان يساهم في بث أغنياتها وتكرارها على شاشة التلفزيون السوري التي كان له دور ما في نشر الأغاني قبل خروج المواطن السوري من قبضتها إلى عصر الفضائيات.

شراكة إبداعية  مجددة

لقد شكلت ميادة بسيليس مع زوجها الملحن والموزع سمير كويفاتي  حالة فنية في الأداء واللحن وإدارة العمل الفني.. وهذا ما جعلها قادرة على أن تبلور ملامحها الغنائية الخاصة، وقد تكاملت هذه الشراكة أيضا مع الشاعر سمير طحان الذي كان جزءا من محاولة صنع أغنية مختلفة عن السائد في كلماتها، تراوح في منطقة وسطى بين الأغنية النخبوية التي تقدم فنا بلا جمهور.. وبين الأغنية المبتذلة التي تخضع لمتطلبات وأهواء السوق.. وقد نجح هذا الثنائي بحق في تقديم أغنيات مختلفة لكنها ليست كئيبة ومتعالية.. بمعنى أنها تسمع بحب، وتعبر عن حالة رومانسية وشغف وليس عن أفكار وتأملات وحسب. أثمرت أغنيات الثلاثي (بسيليس- كويفاتي- طحان) عن تجديد حقيقي ومستساغ في طبيعة الكلمات التي عبرت عن روحها الرومانسية بمفردات واقعية غير شعرية بالضرورة.. لكنها كانت قادرة على صناعة حالة شاعرية في فضاء الأغنية ككل، وهو ما أنتج أغانيَ ذات نسيج خاص ومنسجم في مكوناته ومناخاته.. كما نرى في أغنية (عادي):

حاج تقولولي عادي لا مو عادي

عفن قلبي من العادي وبتقولوا عادي

مو عادي إلا الفاضي.. عندو كلشي شي عادي

وحدك يسلملي حبك... تسلملي يللي حبك

خلا تحت العادي عادي.. والعادي فوق العادي

أو كلمات أغنية (ما عاد حدا) التي لا تخفي تأثرها بالفضاء الرحباني الغنائي.. لكنها تشق طريقها نحو تأملات وجدانية ورومانسية متميزة وبكلمات مغرقة في البساطة:

ماعاد حدا ... ماعاد حدا ... أيام كنّا صغار

ماعاد حدا ... ماعاد حدا ... إلاّ معو تذكار

ماعاد حدا ... ماعاد حدا ... يصفى ولو بدموع

ماعاد حدا ... ماعاد حدا ... ينطر ويضوّي شموع

ماعاد حدا ... ماعاد حدا ... يسهر ويعد نجوم

العمر لحظة ويمكن ما بتدوم

خلصت الساعات ونحن عم ندوب

وبيهرب منا الوقت ... وننسى نعيش ... لحظة

 

كانت أغنية (كذبك حلو) التي أخرج الكليب الخاص بها أيمن زيدان أثناء تصوير مسلسل (هوى بحري) الذي أخرجه باسل الخطيب عام 1997.. وفي نفس موقع تصوير المسلسل، هي جواز مرور ميادة بسيليس إلى الشهرة. كانت الأغنية بحاجة لكليب كي تنتشر على المحطات التلفزيونية، وهذا خدمها دون شك.. لكن الأغنية بطبيعة الحال كانت بكلماتها وإيقاعها ولحنها الآسر قادرة على الانتشار، لأنها كانت الأقرب إلى لغة السوق ولو بمستوى فني متميز.

غناء يطرز شارات المسلسلات

استفادت الدراما السورية من صوت ميادة بسيليس، ومن ألحان سمير كويفاتي في مجال الموسيقى التصويرية.. والاثنان استفادا من نسيج العلاقات الشخصية مع الثنائي أيمن زيدان الذي كان مديرا لشركة الشام الدولية المملوكة لباسم خدام ابن عبد الحليم خدام، والمخرج باسل الخطيب الذي كان حليفا وتابعا لزيدان. أسهمت شاعرية باسل الخطيب التي تناسب أجواء الفيديو كليب أكثر من أن تصنع دراما ناجحة في تحويل الشارات التي غنتها ميادة بسيليس في مسلسلات (أيام الغضب) و(جواد الليل) و(حنين) وسوى ذلك من المسلسلات التي كان أجمل ما فيها صوت ميادة العذب وهو يغني شارات تلك المسلسلات البطيئة الإيقاع، المصطنعة الأجواء، المشغولة بعلاقات شللية خارج الخيارات الفنية الموضوعية!

ومن وحي هذه العلاقة غنت ميادة بسيليس قصائد الشاعر يوسف الخطيب التي أراد ابنه  باسل الخطيب تسويقها عبر صوت ميادة العذب وألحان سمير كويفاتي ذات الفخامة العبيرية كما نرى في قصيدة (أجراس بيت لحم) أو القصيدة التي غنتها كشارة لمسلسل (حارس القدس) الذي أخرجه الخطيب عام 2020 وتحدث عن سيرة المطران كابوتشي بطريقة تنضح كذبا ونفاقا إزاء تصوير النظام في سوريا الذي باع الجولان وكأنه حريص على تحرير القدس!

خسارة فنية.. وخسارات أخرى

برحيل ميادة بسيليس  تخسر الأغنية السورية أملا من آمالها المجهضة..  فقد كانت ميادة بسيليس جزءا من شراكة فنية سورية ناجحة. بلورت روحا جديدة في الأغنية السورية الغائبة عن آذان مستمعيها عموما.. حملت تراث الموشحات والقدود ولكنها أبدعت ألوانا معاصرة. غنت برقي.. وسارت حياتها الشخصية بعيدا عن فضائح النجوم وإتجارهم بأخبارهم الخاصة، وتوهج الصوت القوي القادر بإحساس عذب متدفق... لكن خسارة ميادة هي جزء لا يتجزأ من خسارات فنية تتوالى.. ليس بفعل الموت وحده... بل بفعل خذلان الشعب السوري أيضا.. وخذلان مطالب الكرامة والحرية.. وفي هذا السياق فالقيمة الفنية التي تحيا ولا يمكن نكرانها.. لا تغني عن المواقف النبيلة الأخرى التي تحيا أيضا.. حضرت هنا أو غابت هناك!

التعليقات (1)

    معاوية الأموي

    ·منذ 3 سنوات شهر
    مزرعة الذل والاستبداد.. ما أروع هذا التعبير عن سورية المحتلة المختطفة.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات