ولا شك أن إقامة العدل بين الناس وتحقيق العدالة هي قيمة عليا تسعى لها البشرية، بل هي السبب الأساسي في نشأة الدول ابتداءً فلا دولة بدون أمن وسلم اجتماعي ولا سلم بدون إقامة العدل، وتقوم فلسفة العقوبة في الفقه الجنائي على تحقيق الردع الخاص للمرتكب إضافة إلى تحقيق الردع العام لكبح جماح الأفراد من القيام بذات الفعل لذلك اعتبرت العقوبة الجزائية حقا عاما للمجتمع بينما بقيت الحقوق الشخصية للضحايا مقتصرة على التعويض وجبر الضرر المادي والمعنوي وليس الانتقام والتشفي.
في الحالة السورية كانت العدالة وما زالت وستبقى هدفا نبيلا لكل طلاب الحرية والكرامة خاصة مع جرائم الحرب الممنهجة والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها نظام الأسد وتورط بها أعداد هائلة ممن يأتمرون بأوامره، إضافة إلى انتهاكات أخرى لحقوق الإنسان جرت على هامش تلك الحرب التي شنها نظام الأسد على السوريين. والسؤال الذي يطرح نفسه بهذا الصدد هو:
هل محاكمة المنشقين التي نتابعها تحقق العدالة بالفعل وهل ستقود إلى محاكمة مجرمي الحرب؟
عندما تكون الانتهاكات على نطاق واسع وهناك جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة حقوقيا محليا ودوليا فالمبدأ المستقر هو أن " العدالة لا تتجزأ".
إن العدالة لا تكون كذلك، مالم تطبق على الجميع وفق معايير قانونية تضمن حق المتهم في الدفاع عن نفسه، ولا يكون فيها محاباة لقريب أو صديق ولا عداء فيها لخصم أو بعيد، ولا مكان فيها لظلم أو انتقام أو انتقاء، فإن حاسبت البعض وتجاهلت البعض فقد ظلمت، فكيف وأكابر المجرمين وعتاتهم يسرحون ويمرحون بينما تقتصر الملاحقات على بضعة أفراد، مجرد انشقاقهم قرينة كافية على انتفاء رضاهم عن الاجرام الممنهج لنظام حكم بأكمله لا لأفراد منه وحسب، لأن الانشقاق عن أجهزة النظام المجرم هو قرينة كافية على توفر عنصر الإكراه وعدم الرضا وبالتالي على انتفاء الركن المعنوي للجريمة والذي مؤداه عدم مسؤولية منفذي الأوامر المكرهين عن أفعال اقترفوها وهم في تلك الحالة، وحتى لو كان هنالك شك في حجم ومدى الإكراه المادي أو المعنوي الذي لازمهم وقت ارتكاب الأفعال الجرمية فإن قواعد العدالة تقول "الشك يفسر لمصلحة المتهم"، و"خير للعدالة تبرئة ألف متهم من إدانة بريء واحد".
واستطراداً، فإن موانع العقاب هي أعذار قانونية تعفي من العقاب مع بقاء الصفة الجرمية للفعل، وتعني بقاء الفاعل مسؤول جنائيا مع إعفائه من العقوبة المقررة للفعل ولا تؤثر على الحقوق الشخصية للمدعي الشخصي ولا تسقطها. ولعل أهم تلك الأعذار المعفية من العقوبة والتي ينبغي تقنينها بالنص عند توفر الإمكانية التشريعية أو بالعرف والممارسة في القضاء الحر، هي: الانشقاق عن جيش الأسد وأجهزة أمنه وقضائه وبالتالي من باب أولى أن يكون الانشقاق بحد ذاته سبباً مانعا للعقاب.
ولعله من مصلحة ثورة الشعب السوري فتح الباب أمام المغلوب على أمرهم والمكرهين وتشجيعهم على الانشقاق، وليس إغلاق الباب في وجوههم بدافع من التشفي والانتقام باسم تحقيق العدالة، خاصة ان الأمر لم يطل منسوبي التشبيح الأسدي بل بدا مقتصراً على محاسبة منسوبي الفصائل ليس على جرائم اقترفوها وحسب وإنما على مجرد انتمائهم لهذا الفصيل أو ذاك ، ونتساءل هنا: هل من الحكمة إرسال إشارة إلى الشباب السوريين الذين انتسبوا بحسن نية لفصائل منحرفة عن الخط الثوري الوطني بضرورة الاعتصام بانتمائهم الفصائلي كطوق وحيد للنجاة من ملاحقات قادمة، بدلا من توعيتهم واستيعابهم و تشجيعهم على العودة لثوريتهم ووطنيتهم؟؟
كل ما سبق ليس معناه أننا ضد محاكمة كل المرتكبين والمنتهكين كائنا من كانوا وكائنا ما كانوا، ولكن المقصود من المحاكمة هو تحقيق العدالة والمحاسبة والمساءلة وجبر الضرر وليس الانتقاء والانتقام والتشفي.
والمفارقة العجيبة أن بعض المدافعين عن مسار تلك المحاكمات الجزئية هم أنفسهم من المعترضين على المسار الدستوري بوصفه وضعا للعربة قبل الحصان، فذلك السبب أيضا ينطبق على مسار المحاكمات الحالي، وما ينطبق على الانتقال السياسي وهيئة الحكم الانتقالي وأولويتها ينطبق أيضا على ملف العدالة التي في حالتنا السورية لا يمكن أن تكون عدالة مطلقة أو كاملة وإنما عدالة انتقالية كاملة الأركان والشروط تقام في المرحلة الانتقالية، وليس من العدالة أن يجرم ويعاقب مواطنون سوريون منشقون عن نظام الإجرام الآن، بينما من المرجح أن أمثالهم من المنشقين وأمثالهم ممن لم ينشقوا سوف يتم منع عقابهم بموجب العدالة الانتقالية التي لا مناص من قيامها في المستقبل القريب أو البعيد.
وقبل تحقق ذلك تبقى العدالة التي يجري البحث عنها أمام القضاء الأوروبي بموجب الولاية الشاملة لبعضه هي عدالة انتقائية عرجاء وسابقة لأوانها ودافعها كما يبدو هو الانتقام وتعويض عن الفشل السياسي والحقوقي العام وحرف الأنظار عن تراتبية الحل السياسي العادل أكثر منه تحقيق للعدالة.
محمد سليمان دحلا
*محام من أبناء الغوطة الشرقية
التعليقات (1)