عندما تحاكم "ثورة الكيوت" الثورة السورية

عندما تحاكم "ثورة الكيوت" الثورة السورية
في عام 2012 وبعد تحرير الرستن من براثن النظام الأسدي تواصلت مع صديق إعلامي هناك فكان من ضمن ما أخبرني به أن ثوار الرستن وعندما أخذوا قرار التصعيد النهائي الذي لا رجعة فيه كان من ضمن ما اتفقوا عليه بإشراف من وجهاء المدينة أن يتم إحراق كافة الملفات في مفارز المخابرات عند تحريرها، فقد كانت هناك روح ثورية تتصاعد بعد ارتكاب النظام الأسدي المجازر بحق المتظاهرين السلميين في الرستن وكان لابد من السلاح، لكن واجهتهم مشكلة، فقد كان الجميع متأكدين من وجود العديد ممن كتبوا التقارير بآخرين ضمن مكان العمل أو الحي، ومع تداخل الأمر بالعلاقات العائلية والعشائرية التي تسود هناك، كان الخوف من أن يؤدي الكشف عن الملفات داخل مفارز المخابرات إلى كشف هذه التقارير مما سيوقع عداوة بين الجميع يستفيد منه النظام ناهيك عن انقسامهم قبل التحرير، لذلك كان القرار بحرق كافة الملفات فور التحرير، وهو ما حصل فعلاً.

كان قراراً يوازن بين خيارين ليسا بالمثاليين بمنظار العدالة الطوباوية التي يقول بها الدراويش الحالمون ويستخدمها عند الضرورة الانتهازيون الكذابون، فاختاروا ما يخدم مصلحة الثورة التي التحقوا بها وكان من بينهم عدد كبير من العسكريين المنشقين كون المدينة كانت من البلدات السنية القليلة جدا التي التحق رجالها بمؤسسات النظام الأسدي بكثرة بسبب تشجيع ورعاية مصطفى طلاس لذلك، وبالمقابل كان لانشقاق عدد كبير منهم من جيش النظام أثر كبير في كشف هويته الطائفية، وهم من كان منهم أول ضابط منشق وهو الشهيد أحمد الخلف.

بالعودة للحاضر، لابد أولاً من توضيح بعض الحقائق؛ في عام 2012 بدأ المركز الأوروبي ECCCHR بفتح القضايا بتمويل من حزب الخضر الألماني لكن عدد المدعين والشهود لم يكن كافياً وهي مشكلة حلت بموجة اللاجئين التي وصلت عام 2015 وهنا دخل كل من "المحامي أنور البني" والناشط "مازن درويش" على القضية بتكليف من المركز المذكور وبدور محدد واحد فقط يتمثل بجلب شهود للمركز لمتابعة القضية وهو ما حصل، ليقوم محامو المركز الألمان مع فريق صغير من غير السوريين بإنجاز كل الأمر الذي أوصل إلى قبول الادعاء للقضايا وإصداره مذكرات الملاحقة لم يعلن عنها، لتتجمد القضية هنا خاصة مع عدم رغبة المركز بالتحرك ضد الحكومات المخالفة قانونيا، وهو ما حصل مثلاً يوم زار المطلوب "علي مملوك" إيطاليا بدعوة من مخابراتها وداخليتها.

بعد سنوات من التمويل كان لابد من إنجاز ما للمركز يشجع الممولين على الاستمرار بعد أن وقفت القضية عند هذا الحد، فكان أن اتجهت أنظار المركز لإنجاز سهل ككبش فداء، فكان وبتشجيع من البعض كل من "إياد غريب" الذي تم الغدر به وحول من شاهد في القضية إلى متهم، وأنور رسلان من منشق إلى ممثل للنظام الأسدي. 

أختم الحقائق بالقول أن اتهام أي من أنور البني ومازن درويش بالعمالة للنظام إنما هو لغو وشطحات خيال وأنا من يعرف الاثنين شخصياً ومدى عداوتهما للنظام، لكن الأمر ليس متعلقاً بهما كما يصور البعض بقدر أنه توجه باقي الأقليات الأفلاطونية بيننا في الثورة وبعض قليل لا يذكر منا (كأكثرية) رأي مختلف بثورة متخيلة طوباوية لا يرون فيها وجوداً لأي مظهر أكثري سني (أي إسلامي) وبأي شكل وليس الإسلام السياسي فقط كما نسمع، مع أن هؤلاء المسلمين هم فقط من قاموا بالثورة ويدفعون كل الثمن، كما يرى هؤلاء الأفلاطونيون أن النظام لا يقمع على أساس طائفي وأن من يناصره لا يفعل ذلك أيضاً مع أن كل الوقائع ومنذ نصف قرن تصرخ بعكس كل هذه التخيلات الأفلاطونية، يرددون هذه الأسطورة "بميكيافيلية" لنفي توصيف حقيقة النظام العلوي وأنصاره من غالبية ساحقة من طائفته بالطائفيين، ميكيافيلية لا علاقة لها بالأفلاطونية المفترضة بهم عند الحكم على الثورة الحقيقية والثوار الحقيقيين، لذلك يتحول "جيش الإسلام" وهو أكبر عدو لتنظيمات القاعدة إلى عدو بنظرهم كما النظام الأسدي بل وأكثر، وليدعوا ما بات يثير السخرية من أن القبض والتحقيق مع مجدي نعمة هو بتهمة وهدف البحث عن مصير رزان زيتونة ورفاقها وهو ما بان زيفه، وليتحول كل منشق "غير علوي" بنظرهم إلى هدف مشروع عبر النبش في تاريخه. 

قلت منشقا "غير علوي" لأنني عدت بذهني إلى العلوي الشريف الذي أحترمه وأقدره "آفاق أحمد" مدير مكتب المجرم جميل حسن .. شخصياً لا أؤيد أي مساس بالرجل كونه قد انشق عن النظام، لكن هل لهؤلاء الناشطين نية أصلا لتوجيه تهم له مع أن منصبه كان أخطر بكثير من موقع ناطق إعلامي، وأفعال سيده السابق وجهازه المخابراتي وزملائه وقد حضر جريمة تصفية الطفلين "حمزة الخطيب" و"ثامر الشرعي" بل وأفعاله قبل والتي لا يمكن مقارنتها بممارسات "جيش الإسلام" و"مجدي نعمة" بأي طريقة إلا في عقول منحرفة ملوثة بالحقد الطائفي، ومن المفارقة أن "جيش الإسلام" كان التنظيم الوحيد الذي أدرك خطر وقاتل تنظيمات القاعدة وداعش عدوة فرنسا التي تحقق فرنسا مع من عمل دائماً على محاربة عدوها هذا.

نعم قد يكون لي ولكثيرين مآخذ عل "جيش الإسلام" كوننا لا نتفق معه في مشروع دولة إسلامية يتخيلها، وننتقد تجاوزاته المعروفة التي لا يخفيها أصلاً ومنها قصة رزان زيتونة لو فعلها، لكن كم فصيلا في ثورتنا وبكل ثورات العالم وعبر التاريخ لم يرتكب تجاوزات؟ .. لا يوجد، وأذكر هنا بما كان يفعله "تشي جيفارا" الذي كان يرتكب مجازر (لم ترتكبها داعش اليوم) بحق الفلاحين لإجبارهم على اتباعه ولمعاقبة من يخالفه، لكن هذا الرمز اليساري وحليفه وكل اليسار الثوري في العالم وكل ثوري مسلح في العالم، كلهم بذنب مغفور في هذه العقول.

في بداية عام 2012 كانت الأخبار تشير إلى وجود خمسة آلاف عسكري منشق من ضباط وصف ضباط وأفراد موجودين في سجن صيدنايا وحده، وحتما بات العدد لاحقاً أضعاف هذا الرقم حتى نزف الجيش كل الشرفاء "السنة" وبقي (باستثناءات نادرة) جيشاً علوياً خالص الطائفية مع مجندين سنة مغلوبين على أمرهم يقف العلوي خلفهم ببندقيته لتصفيتهم عند كل بادرة منهم، تماما كما كان الحال مع كل عسكري انشق عن النظام الأسدي منذ اليوم الأول، ومن المؤكد أن عشرات الآلاف منهم تمت تصفيته ميدانيا على يد زميله العلوي، ليأتي السادة "الكيوت" اليوم ويصفقوا بالإنجاز التاريخي لمركز ECCHR بمعاقبة المنشقين نيابة عن النظام وهم من خاطروا وضحوا بكل شيء في عملية الانشقاق والتي تحمل وبكل مراحلها المخاطر بأعلى درجاتها.

أعود إلى قصة بلدة "الرستن" ولنسحبها على كل سوريا .. نصف قرن تورط فيها كثيرون فقد كان يبدو بعد سحقه لانتفاضة الثمانينات كالقدر الأبدي مدعوماً (ولا زال) من كل العالم، إذا سيحاسب من هم كانوا أهم بكثير حتى انشقاقهم من إياد غريب وحتى أنور رسلان، عشرات الآلاف مدنيين وعسكريين وفق هذا المنطق .. عقابهم لا لما ارتكبوا (إن حصل وارتكبوا) بل لأنهم انشقوا، فالرسالة واضحة ونيابة عن النظام الأسدي: "هذا مصير من ينشق عني" .. فأي حمق هذا الذي يجري.

وإن كنا سنفعل ونحاسب الجميع على الماضي فلنعد إذاً لنصف قرن بأثر رجعي وعندها لن يبقى ذكر علوي على قيد الحياة ومهما كان عمره خارج السجن، ومعهم جزء لابأس به من نسائهم، لا عسكرياً ومخابراتياً فكلهم مجرمون بلا نقاش، ولا موظفا مدنياً فكلهم مخبرون سفلة بلا نقاش، ولا إعلامياً كذاباً ولا موظفاً مرتشياً سارقاً ومخبراً في نفس الوقت فكلهم كذلك ..  كذلك لن يبقى عسكري ومدني منشق بيننا خارج السجن، بدءاً من رئيس وزراء أو وزير .. والسؤال هنا يعود بي إلى مشاريع "الكيوت" كمشاريع "اليوم التالي" التي تبحث عن "الغفران وطي صفحة الماضي" في حال خسر النظام المعركة وتغيب فيها المحاسبة والعدالة، والطريف أن هؤلاء "الكيوت" الذين يصفقون لمحاكمة المنشقين والثوار هم من يسترزقون من المشاركة بمشاريع "اليوم التالي" ويقدمون اقتراحات الغفران وطي صفحة الماضي للمساكين العلويين المشاركين في الجريمة.

السادة يريدون ثورة "كيوت" تفصيل بقدر أحلامهم الانتقائية ذات العين الواحدة، نعم، ربما كان أنور رسلان وإياد غريب مسؤولين عن ارتكابات قبل انشقاقهم، لكنهم لا يدفعون اليوم ثمنها بل يدفعون ثمن توبتهم عنها وانشقاقهم عن النظام الأسدي العلوي، ومجدي نعمة يدفع ثمن عمله في الثورة لا الاختطاف المزعوم لرزان زيتونة، لذلك فإن من يؤيد محاكمتهم اليوم عليه أن يكون واضحاً في موقفه ومنذ اليوم، عليه أن يقولها علنا أنه عندما يسقط النظام الأسدي العلوي الطائفي (ويسميه هكذا بحقيقته كما يفعل مع التنظيمات الإسلامية بل وكل الثورة)؛ عليه أن يعود نصف قرن إلى الوراء ويطالب بمحاسبة جميع العلويين ومصادرة أموالهم فكلها بلا استثناء بفقيرهم وغنيهم سرقة وحرام.

ملاحظة هامشية: بالنسبة للعينات المجهرية "الكيوت" قليلي الدين بيننا فهم خارج إطار الحديث والذكر كونهم "لا شيء" اجتماعياً وفكرياً وسياسياً. 

نريد أن ننتصر على النظام الأسدي الطائفي العلوي في معركة الوجود الشرسة التي نخوضها منذ عشر سنوات، ولذلك رحبنا بكل منشق، ولذلك نال العلوي المعارض وكل معارض ينتمي لأقلية (وهم كلهم معارضون سابقون للنظام قبل الثورة)؛ نال  تقديراً وميزات تفضيلية لا يحلم به كل من ضحوا من أجل الثورة، بالمقابل كم كنا ولا زلنا منذ بداية الثورة نتمنى أن نرى علوياً منشقاً عن النظام لناله التكريم والعز كما "آفاق أحمد"، ولنال الحظوة في العمل السياسي والعسكري للثورة، لكنه غير موجود.

كم هو ممجوج الحديث عن هذه العدالة المجردة الانتقائية كما في حال محاكمات اليوم، وكم هو عمى بصيرة مقصود أو بحسن نية ذلك الذي يقول بعدالة ما يجري اليوم متعامياً عن البعد السياسي المدمر الذي يصل إلى درجة الخيانة للثورة وطعنها من الخلف ولو حسنت النية، فبينما نقود صراعاً وجودياً يتآمر فيه العالم علينا ويستنفر النظام بطوائفه وحلفائه وطائفيته وبكل سلاح ممكن، يأتي من يطعن الثورة من الخلف بمحاكمة المنشقين.

كما قلت في مقالي السابق المعنون بـ "ثورة كل مين إيدو الو"؛ وفي غياب أي رأي من الفاشلين الانتهازيين الذين تصدروا المشهد القيادي منذ بداية الثورة؛ لابد من أن نضع النقاط على الحروف في وقت عز فيه قول الحق .. لذلك أقول إنني وفي مناسبات عديدة أشرت إلى أن الثورة تجب ما قبلها من ارتكابات لكن على أن يعمل المرتكب لخدمة الثورة فهي ليست أغلى من الإسلام ورسوله الذي لم يحاسب قاتل عمه بعد إسلامهم، والذي استقبل كل منشق عن أعدائه مهما سبق من أذية منه وعلى رأسهم خالد بن الوليد، أما وإن كان ولابد للارتكابات الكبيرة فيترك شأنها لما بعد الثورة ليقرر بها ممثلو الناس المنتخبون، لأن أي فتح لهذه الملفات اليوم هو حمق في أحسن نية، وخيانة للثورة وطعن لها إن استبعدنا الـ "الجدبة/الدروشة السياسية".

أما بالنسبة للنظام العلوي الأسدي وأنصاره فقد قلت وكررت دائماً إن الأمر يقوم للمنتخبين بعد انتصار الثورة لكنني شخصياً أؤيد محاكمة كبار المجرمين الآن أو بعد انتصار الثورة وبأشد عقاب، أما صغار المرتكبين (وهم الطائفة العلوية بقضها وقضيضها) فالعفو هو سبيلنا لبناء سوريا الجديدة لكن بعد اعترافهم بالذنب وطلب الغفران .. ويا ليتهم يبادرون بالتخلص من رأس الشر لديهم وكبار زبانيته لنفتح الصفحة الجديدة  .. موقفي هذا الذي ينبع من رغبتي بتوجيه كل الأدوات لنصرة الثورة ومن ذلك تقدير وعدم المساس بالمنشقين وتقدير كل ثائر مع انتقاد تجاوزاته، بهدف تحقيق النصر ووقف حمّام الدم وبناء سورية من جديد، بينما يتصرف البعض منطلقين كل من منطلقات شخصية أو مصالح آنية أو دوافع أقلوية ولو على حساب كل الثورة وكل التضحيات.

التعليقات (2)

    كلمة حق

    ·منذ 3 سنوات 11 شهر
    يوجد نوعين من المنشقين منشق من أجل الثورة و الكرامة و لم تتلطخ يداه بدم الأبرياء و منشق صاحب قلب اسود لا يرحم كان يقوم بالتعذيب من كل قلبه لأن داخله انسان مريض ولا يرحم ثم راى أن هناك خطر على حياته ففضل الانشقاق و الذهاب بعيدا و هذا النوع المجرم المريض يجب محاسبته

    تاجي

    ·منذ 3 سنوات 11 شهر
    الكلام غامض وفيه نقاط غير مفهومة .. ماعلاقة حزب الخضر الألماني في الموضوع ؟؟ ولماذا ألمانيا بالذات ؟؟ والموضوع فيه اعتراف ان داعش هي عدوة فرنسا .. معناها داعش على حق الموضوع فيه تعفيس وغير مفهوم !!!
2

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات