المخبر الذي صار مترجما في وزارة الثقافة: الأكاديمي في خدمة الديكتاتور

المخبر الذي صار مترجما في وزارة الثقافة: الأكاديمي في خدمة الديكتاتور
اعتمد نظام الأسد في دعايته الخارجية على بعض الشخصيات الأجنبية ذات الميول اليسارية والقومية، كالسياسي ونائب البرلمان البريطاني السابق جورج غالاوي، والصحفي روبرت فيسك، والكاتب باتريك سيل، وصاحب "شبكة فولتير" تيري ميسان، والأكاديمي والدبلوماسي الروسي يفغيني بريماكوف، الذي لم يدخر جهداً أو تعباً في الدفاع عن آل الأسد وغيرهم من الديكتاتوريين في الشرق والغرب...

لن أتحدث عن هؤلاء جميعاً في هذا المقال بالذات، وإنما سأخص به بريماكوف فقط، باعتباري كنت حاضراً حفلة توقيع كتابه المترجم إلى العربية "الشرق الأوسط - المعلوم والمخفي"، التي جرت في "مكتبة الأسد" 29 تشرين الأول/أكتوبر 2006.

بداية، تم تقديم الضيف للجمهور كدبلوماسي ومستعرب وأكاديمي مختص بالشرق الأوسط؛ وهذا يفرض معرفته الجيدة للعربية، لكنه لم يتحدث كلمة واحدة بلغة الضاد حينذاك. ربما كان هذا من باب الدعاية الإضافية للصديق المحبب لأغالبية المستبدين العرب؟ 

في الحقيقة، الكتاب الذي قدمه بريماكوف للقراء لم يكن جديداً، لأن من عادته عدم تأليف الكتب الجديدة ونشرها؛ بل جُل ما يقوم به هو نشر كتاب "تشريح نزاع الشرق الأوسط" في حلة أخرى، لكن بعد أن يضيف إليه ما جد من أحداث في العالم العربي، وحسبما تقتضي رؤية مموليه وداعميه أو الحالة الراهنة.. يذكر أن هذا الكتاب قد جمعه منذ سبعينيات القرن الماضي، حينما عمل صحفياً في الشرق الأوسط ولكن في الحقيقة كان مخبراً سوفييتياً، وصدر مترجماً عن وزارة الثقافة السورية عام 1979. 

في هذه المرة تم تمويل ترجمة الكتاب ونشره والزيارة إلى دمشق من قبل أحد رجال الأعمال السوريين المقيمين في روسيا والمؤيدين للأسد؛ لذلك وجب تغيير الكتاب في صالح أصحاب الدعوة والمنظمين (الكرام). وهكذا أضاف بريماكوف فصلاً كاملاً في آخر الكتاب حول حيثيات التواجد السوري في لبنان، وعلاقة الأسدين (الأب والابن) مع السياسيين هناك؛ حيث خلص إلى نتيجة مفادها أن رأس النظام السوري بريء من تهمة اغتيال رفيق الحريري!  

في طبيعة الحال، لم ينس ذكر ذلك أثناء المحاضرة التي سبقت توقيع الكتاب ذي الطباعة الممتازة والذي وزع مجاناً على الحاضرين، حيث أكد قناعته بعدم تورط بشار الأسد في جريمة قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، التي وقعت في 14 شباط/فبراير عام 2005. إضافة إلى تحدثه عن لقاء جمعه مع المغدور قبل خمسة أيام من اغتياله، أكد بأنه صديق لسوريا، وأنه سيزور دمشق في القريب العاجل، وأن لبنان لن يكون إلا مع سورية، ولن يوقع أي اتفاق سلام مع إسرائيل بمعزل عن سورية.

طبعاً وجد بريماكوف فرصة أيضاً في كيل المديح للمقاومة والممناعة، حيث قال إن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان انتهت بالفشل، ولم تحقق أياً من أهدافها المعلنة، لاسيما المتعلقة بالقضاء على حزب الله وإشعال الفتنة داخل لبنان ضده. كذلك طالب إسرائيل بإعادة الجولان السوري المحتل، وهاجم الأحادية القطبية المتمثلة بسيطرة الولايات المتحدة على العالم...

بعد أن أنهى محاضرته، فُتح باب النقاش وطرح الأسئلة للحاضرين الذين كان جلهم من مسؤولي وضباط جيش ومخابرات الأسد.. هنا انبرى أحدهم، وكان يجلس بجانبي، لسؤال الضيف باللغة الروسية مقدماً نفسه كـ "صحفي حر"؛ مما أثار ضحك بريماكوف وسخريته، لأن هذا التعبير له معنى مجازي غير المقصود. ما لبث أن طلب منه تقديم نفسه مرة أخرى وإعادة سؤاله بالعربي. نهض ذلك "الصحفي الحر" مرة أخرى من مكانه، وكرر ما قاله في المرة الأولى باللغة الروسية.. ضحك بريماكوف ولم يجب، ثم ضحك الجميع!

جلس الشاب وبدت عليه معالم السخط والاحتقان... التفتُ إليه وقلت: عليك أن تقول له بأنك "صحفي مستقل" وليس "صحفي حر"؛ لأن العبارة الأخيرة لها معنى ساخر باللغة الروسية وتدل على أن صاحبها هو بمثابة "صبي" في الصحافة؛ أو أن تسأله بالعربي لأن المحاضرة مترجمة. فما كان منه إلا أن احمر وازرق وأخذ العرق يتصبب منه، ومن ثم تمتم ببعض الكلمات النابية وانصرف خارجاً من القاعة!

بغض النظر عن السائل وطبيعة عمله، كان من المفروض على الأكاديمي أن يستوعبه ويقدر معرفته المتواضعة للغة الروسية، ويفرح كونه يسأله بلغته؛ لكن بريماكوف كان لديه مهمة أخرى، تمثلت بالدفاع عن الأسد أمام جمهوره العسكري والمدني ووسائل إعلامه الخشبية الممانعة، لأنه يعتبر في نظرهم شخصية ذات ثقل نوعي في أروقة الدبلوماسية الروسية والعالمية. إضافة إلى أن مصطلح "الصحفي الحر" لم يظهر في روسيا إلا في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، أي مع انهيار الاتحاد السوفييتي وإزالة الرقابة ورفع الستار الحديدي؛ وهذا لا يروق بالطبع لابن جهاز "الكي جي بي" البار!

يُنظر إلى يفغيني بريماكوف في روسيا البوتينية كشخصية وطنية، وكثيراً ما يذكرون حادثة أمره ربان الطائرة، التي أقلته لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية في آذار/مارس 1999، بالانعطاف فوق المحيط الأطلسي والعودة إلى موسكو بعدما علم ببدء العملية الجوية لقوات "حلف الناتو" ضد يوغوسلافيا.. عملياً، شكلت هذه الحادثة فوق الأطلسي أول حالة عصيان علنية لبريماكوف ضد الرئيس بوريس يلتسين الذي عينه في منصبه الرفيع آنذاك.. فسر بعضهم "منعطف المحيط" على أنه عمل شجاع لرجل دولة داخل الدبلوماسية الروسية التي انهارت في ذلك زمن؛ لكن لو حدثت أزمة البلقان تلك بعد ذلك، أي خلال رئاسة فلاديمير بوتين، لما حصل يفغيني بريماكوف على أي شيء؛ لأنه في ظل جزار الكرملين الحالي، لا يُسمح لأي شخص أن يكون سياسياً "حراً" أو مستقلاً؛ حيث يمثل الولاء له أعلى قيمة في الحفاظ على المنصب. 

لقد رأى بريماكوف في زميل المخابرات بوتين، على عكس يلتسين، خلاصاً لروسيا وتطوراً لها ونهوضاً من على ركبتيها، وبداية لسياسة خارجية متعددة الاتجاهات؛ ومفاهيم أخرى لا حصر لها مصممة لشرح وتبرير معاداة أمريكا والانعزالية ودعم الأنظمة الديكتاتورية حول العالم، والتي أصبحت مع الأيام جوهر سياسته/سياسة روسيا الخارجية.

لكن في الحقيقة الغائبة عن الكثيرين، كان هذا الأكاديمي يباع ويشترى بطريقة أو بأخرى؛ وربما عرف عرابو الأسد المنتشرون في روسيا ذلك جيداً؛ وتم الشراء بسعر السوق حينذاك: رحلة للاستجمام والترويج السياسي مع ترجمة كتابه ونشره ومبلغ لابأس به كمصاريف جانبية...  

 

كان دائماً يؤمن على نفسه في حال تغيرت الرياح السياسية؛ ويقف متأخراً خطوة واحدة عن أصحاب المقدمة كي يكون لديه الوقت اللازم للتفكير وأخذ القرار السليم الذي يبقيه في مكان آمن نوعاً ما. في هذا الصدد يقول الصحفي الروسي كونستانتين إغيرت في مقال له نشر على موقع "دويتشه فيله" (30 تشرين الأول 2019): «كان بريماكوف مرناً بشكل عام طوال حياته وتأرجح مع الخط الحزبي بالمعنى الحرفي للكلمة. كان عليه أن يكون "مناهضاً للصهيونية"، وهو أصبح كذلك! ومن ثم وجب عليه الذهاب إلى إسرائيل والتحدث مع موشيه ديان، وهو سافر إلى هناك وتحدث معه! كان من الضروري تفكيك العلوم الأكاديمية في ظل بريجنيف؛ وهو فكها! كان المطلوب كسر الجمود الذي يعتري النظام السياسي في عهد غورباتشوف؛ وهو كسر الجمود! وبخ الناتو باعتباره رئيساً للمخابرات الخارجية، ولكن عندما أمره الرئيس يلتسين أن يوقع على القانون التأسيسي بين الناتو وروسيا في عام 1997، وقع بكل سرور كوزير للخارجية». 

وهنا أيضاً يمكن ذكر ما كتبه الصحفي فلاديمير أبارينوف في مقاله "الظلال لا تتلاشى" الذي نشر بداية عام 2015، كمثال آخر على فساد هذا الأكاديمي: «بعد أن أصبح وزيراً للخارجية، ثم رئيس وزراء روسيا، حول يفغيني بريماكوف دعمه الشامل لبغداد إلى المسار السياسي الرسمي لموسكو، وحفزها مع المصالح الاقتصادية للبلاد والحاجة إلى خلق "عالم متعدد الأقطاب" بدلاً من "الهيمنة" الأمريكية. 

وفي أبريل 1999، أكد الصحفي الأمريكي سيمور هيرش، في إشارة إلى مصادره في مجتمع الاستخبارات الأمريكية، أن بريماكوف (الذي كان حينها رئيس الحكومة الروسية) حصل على مكافأة من العراق مقابل خدماته: تحويل مصرفي واحد على الأقل بمبلغ 800 ألف دولار في نوفمبر 1997! 

وصف وزير الخارجية الروسي آنذاك إيغور إيفانوف مقال هيرش بأنه "محاولة قذرة" لصرف انتباه الرأي العام عن قصف يوغوسلافيا. ومع ذلك، ظل يفغيني بريماكوف صامتاً!

بعد ستة أشهر فقط، بدأ نائب مجلس الدوما ألكسندر فينغروفسكي بإرسال استفسارات إلى مختلف الإدارات وإجراء مقابلات حول هذا الموضوع؛ لكن السكرتير الصحفي لبريماكوف، قال إنه لن يكون هناك إنكار أو دعاوى قضائية. 

في النهاية قرر بريماكوف فجأة إخبار الصحافة عن سبب ذهابه إلى بغداد قبل الحرب. اتضح أنه ذهب لنصح صدام بالاستقالة، لكن صدام لم يستمع إلى هذه النصيحة الطيبة!». 

لعب بريماكوف على التناقضات في سبيل مصلحته؛ ونظّر للبراغماتية في العلاقات، بحيث يمكن الارتباط مع الأعداء والأصدقاء في آن معاً؛ فهو كان، على سبيل المثال، صديقاً لصدام وللبرزاني بنفس الوقت! 

الغموض الذي رافق سيرة حياته، لاسيما فيما يتعلق بمكان ميلاده، وحياة والده، وأسلافه اليهود، وتجنيده من قبال جهاز الاستخبارات السوفييتي لا تجعله أسطورة أو جيمس بوند السوفييتي/الروسي؛ بل شخصاً انتهازياً حاول يائساً البقاء عنصراً فعالاً في نظام من مصاصي الدماء وآكلي لحوم البشر. 

التعليقات (1)

    نبيل أدهم

    ·منذ 3 سنوات شهر
    لطالما اتخذ النظام شخصيات لها رواجها من أجل إثبات قدرته المزيفة، جعل من الجميع أقنعة يتقنع بها كي يخفي تشوهاته الكثيرة مقال مميز كالعادة دكتور علي، تسلك ايدك
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات