د. حسان عباس.. رحيلُ صانع جيلٍ جديد

د. حسان عباس.. رحيلُ صانع جيلٍ جديد
"قولوا لمن تحبونهم إنكم تحبونهم، لا تنتظروا رحيلهم لتكتبوا عنهم بعد فوات الأوان، كلمة حب أفضل من ألف قصيدة رثاء".

هذه الكلمات التي كتبها في منشورٍ على الفيسبوك صديقنا الراحل الكبير د. حسان عباس، في السابع من شباط 2020، وللأسف كنت أحد الذين كان عليهم آنذاك وبناءً على هذه النصيحة أن أكتب له نيابة عني وعن الكثيرين من الشباب، الذين نالوا الكثير من اهتمام ودعم هذا المثقف الكبير، إلا أنه لم يخطر في بال أحدنا أن أستاذنا الكبير، سوف يرحل قريباً تاركاً خلفه على صعيد النشاط والإبداع الثقافي السوري، فراغاً كبيراً لا يستطيع أحد أن يملأه من بعده، لقد كان الراحل بحد ذاته مؤسسة كبيرة.

بالتأكيد كلنا يعرف مدى أهمية المشروع الفكري النقدي الذي اشتغل عليه د. حسان منذ دراسته الجامعية، إلا أن ما يميزه عن غيره من المثقفين الكبار هو نزوله إلى الأرض، ومساهمته الفعالة وبروحٍ إنسانية عالية في بناء جيلٍ جديد، يتقن ثقافة المواطنة والعلمانية والديمقراطية، وغيرها من المفاهيم التي بات المجتمع السوري بحاجة لها أكثر من أي وقت مضى بعد آذار 2011.

في مطلع عام 2014 تواصل معي د. حسان بكل لطف بعد متابعته لعدد كبير من القصص القصيرة التي كنتُ أنشرها على الفيسبوك، ثم طلب مني جمعها في ملف واحد وترتيبها ومراجعتها، ثم تزويده بها لمراجعتها مع إدارة الدار ــ وآنذاك كان يساعده الصديق "فايز علام" وغيره ــ وذلك لطبع الملف في كتاب قصصي، شعرت بالسعادة، لطالما أغلقت دور النشر أبوابها أمام الأدباء الشباب، فكيف الآن وثمة دار تتواصل معك وتطلب منك قصصك لنشرها! وفعلاً صدر كتابي القصصي "مزهرية من مجزرة" عن الدار التي أسسها د. حسان "بيت المواطن للنشر والتوزيع" وسرعان ما تواصل معي مجدداً وطلب مني تزويده ــ بحكم معرفتي وصداقاتي مع أبناء جيلي من الأدباء الشباب ــ بأسمائهم، مع نماذج من كتاباتهم، وهذا ما فعلته، وبعد أن اطلع على هذه التجارب مع أسرة  دار بيت المواطن، تواصل مع الشاعرتين السوريتين المتميزتين "وداد نبي" و"منار شلهوب" وسرعان ما طبعت الدار لهما المجموعتين الشعريتين الأوليتين لهما.

وكنا نتفق في تلك المراسلات على أننا سوف نلتقي يوماً ما.

دار "بيت المواطن للنشر والتوزيع" على ما أظن أنها كانت دار النشر الوحيدة التي كرست كل مطبوعاتها لأدب وفكر الثورة والتغيير، بل ووضعت مشاريع لسلاسل فكرية وأدبية تخدم وتدعم هذا المشروع، من خلال "الرابطة السورية للمواطنة" التي أسسها الراحل إضافة لـ "بيت المواطن للنشر والتوزيع".

تواصل معي الراحل مجدداً من أجل المشاركة في دورات تدريبية فكرية في لبنان وفرنسا "على ما أذكر"، ولكن عدم وجود أوراق نظامية لديّ "كلاجئ سوري في تركيا" حال دون مشاركتي، لكن مع مرور الزمن انتبهت لمشاركة عدد كبير من الأصدقاء في سوريا وخارجها، في البرامج التدريبية، التي كان يؤسسها ويطلقها ويحاضر بها د. حسان، شباب كثر، مثقفون وموهوبون ورائعون، مل كل الجغرافيا السورية، القومية والدينية والإثنية، لم يجدوا من يقف بجانبهم، لإعادة تشكيل فكر جديد يناسب تطلعاتهم وأحلامهم ومواهبهم، يفيدهم ويفيد بلادهم على المدى القريب والبعيد، لا مثقفون كبار ولا منظمات، الذين ــ في الغالب ــ كان شغلهم على الجيل الجديد متواضع جداً... وحده د. حسان كان منظمة كاملة، وكان برامج هائلة من التدريب والتنوير والثقافة.

في آواخر عام 2019 وبمناسبة صدور كتابه "الموسيقا التقليدية في سوريا" تواصلتُ معه وعبرت له عن رغبتي باستضافته في لقاء تلفزيوني عبر "السكايب" في تلفزيون سوريا، للتحدث عن كتابه الجديد واستجاب بلطف كبير وتواضع لرغبتي، ونسقنا معاً لنخرج بلقاءٍ جميل، ومفيد لكل من له عطش لثقافة بلاده، ولتلك الجهود الجبارة التي يبذلها د. حسان وغيره في الحفاظ على تراث السوري اللامادي.

وداعاً دكتور حسان عباس، لقد كنتُ أنا واحداً من عشرات الشباب السوريين الذين مددت لهم يدك بمحبة وتواضع ومسؤولية، وأخذتهم للأعلى ودعمتهم، هكذا... لوجه البلاد التي نحلم بها، وزودتهم بالثقافة الجديدة التي تحتاجها البلاد الجديدة، التي ما نزال ننتظر قيامها.

شكراً لك بوصفك عراباً حقيقياً ووحيداً، للجيل الجديد... هذا الجيل الذي لن ينسى معلمه الذي أفنى سنواته الأخيرة في سبيله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: صدر عن الراحل د. حسان عباس كتاب بعنوان "حسان عباس في عيون معاصريه" من إعداد وتقديم "فايز سارة" جمع الكتاب بين غلافيه مواد لأسماء ثقافية كبيرة من جيل الراحل، تحتفي بشخصه وبمنجزه، وأعتقد أنه لا بد من كتاب آخر عن الراحل، يكتبه هذه المرة طلابه الكثيرون، الذين تفانى الراحل في صناعة وعيهم، وتدريبهم وصقل مهاراتهم المعرفية والفكرية.

التعليقات (1)

    اسعد حداد

    ·منذ 3 سنوات شهر
    لاتخلو سوريا من مفكرين وعباقرة ولكن معرفة الناس بهم هي على الاغلب بطرق شخصية فردية في حين لم يولي الاعلام الاهتمام الكامل لأفراد يمثلون ظاهرة فكرية تؤثر في الشأن العام . وهذا التقصير له أسبابه ومبرراته .
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات