"حافظ الأسد ونظريّة الخلود والانعكاس"

"حافظ الأسد ونظريّة الخلود والانعكاس"
"إلى الأبد" لايوجد أحدٌ في سوريا وعلى مدار أكثر من نصف قرن لم ينطق هذه الكلمة إلّا القليل جدّاً، فقد يكون الأمر أقرب للخيال منه إلى الواقع، لكنّه أمرٌ مألوفٌ جدّاً لدى السوريين، فهذا الشعار وأمثاله الّتي كان يردّدها الشعب السوري من المهد حتّى اللحد كانت أشبه ماتكون بتعويذةٍ ساحرة، وأغربُ مافي الأمرِ أنّ أحداً لم يسأل عن معناها، هي مفردات تُلقّنُ وتلهج بها الألسن عند اللزوم دون أيّ غوصٍ في معناها، وبلا أدنى تفكير في أكثرها لامعقوليّةً، وأبعدها عن أدنى درجات المنطق الّذي ربّما يمتلكه طفلٌ في الخامسة من عمره، وبقيت رغم غرابتها وعدم أهميتها تُكرّس وتُلقّن من قبل النظام للأجيال جيلاً بعد جيل، وكأنّها كانت من البديهيّات واللزوميات في حياة السوريّ كالخوف والتعبِ والاستغباء والروح الوطنيّة العالية.

فقد استطاع النظام الأسديّ الأوّل وبعد أن قضى على مراكز القوى المدنية والعسكرية في سوريا التي كانت متحكمة في مفاصل الدولة إثر الثورة الآذاريّة المزعومة، أن يؤسس لحكمه الفردي الّذي لاشريك له ويثبّت أركانَه بالحديد والنار، ومن انتكاسات الزمن على السوريين أنّه استطاع إثبات وحدانيّته كحاكم في يقظة السوريين وأحلامهم، في سرّهم وجهرهم وكلّ أحوالهم وأزمنتهم، ويمسي القائد هو الخالد هو الأبدي هو الأوّل والآخر ورئيساً للجمهورية التي حوّلها إلى مَلكية وراثية، بعد ثلاثين عاماً من حكمه، وقد بنى مملكةَ الرعب أو سوريا الأسد أو الدولة الفريدة أو المزرعة الكبيرة أو خيمة السيرك، وكلّ هذه الأسماء تلائم سوريا إلّا الوطن فهذا مصطلح فرّغه من مضمونه وجعله انعكاساً لصورتِه، فكانت حالة الخوف في سوريا، كما في غيرها من المجتمعات المغلقة المحكومة من نظمٍ ديكتاتورية، ليست مجردَ حالة فيزيولوجية فحسب، بل حالة نفسية وعقلية، تتجسد في الواقع كطريقة تفكيرٍ وأسلوب حياةٍ ومنهج تربيةٍ وتعليمٍ وعمل، أي كسلوكٍ اجتماعي كامل، وقد تفرّدت الحالة السوريّة وبلغت ما لم تبلغه تجربة مجتمع آخر مع دكتاتور، فضاءات مغلقة على عبادة الفرد، مؤسسات مفرغة من كل محتوى ديمقراطي وإنساني، أقوال توهم السوريّ أنّه في الجنة، ممارسات توظيفية للدين في خدمة القائد وفكره المتفرّد، وزمن طويل من كبت الفكر الحر، وتأجيل الإجابات على الأسئلة الملحة، لا بدّ أن تخلقَ في النهاية إنسانًا مقموعاً يحفظ ماقاله القائد أكثر من حفظه لما يقوله لنفسه.

فالجميع في سوريا درس مع مراحل تعليمه الطويلة مادة القوميّة، تلك المادة الغريبة العجيبة، فيها من العلم مايغنيه عن علم الأولين والآخرين، فيجد السوريُّ فيها الدينَ في فكرِ القائد الخالد، ذلك الدين الّذي ميّعه ليجعل منه عصاه السحريّة يضربُ بها ظهور الشعب فيتبارك بها، يطوّع بها العقل الّذي يقف عند ما أوّله القائد وقد أصاب في تأويله فهو الّذي يعلم مالانعلم.

ويجد في الكتاب ذاته رؤيته للأمة العربية والتاريخ وطبائع الشعوب ومكامن قوّة المجتمعات، والصراع الدونكيشوتي وكيف استطاع أن يصبح في فترة قصيرةٍ عملاً سيزيفيّاً لا نهاية له ولا نتيجة، لكنّه واجب بلا موجِب.

إضافةً إلى الاقتصاد في فكر القائد وكيف يستطيع تحويلَ الموجود إلى مخفيٍّ بطريقةٍ سحريّة أنيقة، والعقد الاجتماعيُّ أيضاً، والوطن والإنسان والمعلّم والفلّاح وماخطر على بال بشر، وكأنّه النسخة الأشمل عمّا كتب ابن خلدون في حياته…

وبعد الانتهاء من الدراسة ينتهي كلّ شيء ويُنسى بلا فهم وتبقى كلمة وحيدةٌ هي شيفرةُ الحياة وهي "إلى الأبد".

لقد أثبتت الأيّامُ منطقيّة هذه المقولة وحقيقيّتها، فقبل الثورة كان المنتمي لفئةِ "الخاكي، المموّه، البسطار…" مهما كانت رتبتهُ سيّداً في مكانه يحاول قدرَ مساحته أن يكون الأوحد والأكثر إرهاباً ورعباً، وقد تسلّل هذا الأمر إلى مراكز التعليم فأصبح الموجّه في المدرسة مموّه الروح ويرتدي تحتَ حذائه الأنيق بسطاراً، مروراً بفئاتٍ كثيرةٍ من المجتمع، وأمّا بعد الثورةِ فالأمر اختلف كثيراً.

فالكثير من حالات الاستلاب للقائد الرمز الخالد البطل المناضل المقدام: حافظ الأسد، عادت للتجسد بقادةٍ كثر في الجهتين المتقابلتين في سوريا، أو بأصحابِ رؤوس المال المانح للعطايا، أو الممول للمشاريع، أو المتنفّذ في المنظّمات الإنسانية والتربويّة….الخ، لكن ثمة فارق بسيط يتمثل أحيانًا بطبيعة مهنة أو حرفة أو حياة الشخص المستلب في عهد الأسدين، لكنه يبقى فارقًا كمياً لا نوعياً، وهو فارقٌ في القشور لا اللب، مهما تغيّر لونه فهو يعكسُ صورةً واحدةً لا أكثر…

وقد قامت مملكة الخلود التي بناها حافظ الأسد كمنظومةٍ متكاملة على أركانٍ عدة، مثل جهاز الجيش كوسيلة لتحطيم الروح الوطنية لا إنمائها، وأجهزة المخابرات الهمجية لقتل حرية التفكير والإبداع واعتقال الفضاء السياسي والفكري، وأجهزة الإعلام المختلفة، كل ذلك ساهم في ترسيخ شعار "الأبديّة" وقد استخدم جميعَ مؤسسات الدولة وكلّ ما يمكن استخدامه من التربوية والتعليمية وأجهزة القضاء والأجهزة التنفيذية، لتحقيق غايته في القبض على المجتمع، وترسيخ هذه الكلمةِ في عقول السوريين أنفسهم وربّما استغلّ حتّى الهواء في ذلك.

كانت النتيجة أن عاشت أجيال وماتت، ووُلدت أخرى وترعرعت، في ظل منظومة الاستلاب هذه، وقد تركت في الأنفس والسلوكيات آثاراً غير قابلةٍ للتغيير أو الزوال بسرعةٍ.

إنّ "القائد الخالد" قد جهّز الكثيرين ليكونوا ملائمين كي تحلَّ أفكاره وعقليّته فيهم، وبهذا يكون خالداً وإلى الأبد، وبهم يستمرُ المشروع الأسدي ويبقى أداةً للجريمة وانعكاساً لدكتاتوريّته، كلّ هذا نستطيع أن نشاهده بأمّ أعيننا وهو الدليلُ على منطقيّة الشعار الخرافي وحقيقته، ولهذا نستطيع أن نصدّق وبعد عشرين عاماً أنّه خالدٌ أبداً، لأن الحصاد الدموي الرهيب خلال العقد الماضي كان الحصاد الّذي زرعه ومايزال يرعاه ذاك الدكتاتور المتعدّد الأشكال.

وقد تعبَ السوريّون من أن يتجسّد لهم حافظ الأسد المجرم في كلّ مجرم صغيرٍ مهما كان جرمه صغيراً، ولهذا مازلنا وبعد عشرين عاماً من موته نشاهد أناساً سوريين يرفعون صوره ويهتفون باسمه ويحجّون إليه دون أيِّ تفكيرٍ أو إرادة، سوى أنّهم أجسادٌ حلّت بها عقليّة القائد الخالد وبرهنت على خلوده إلى الآن، وهو ماأثبته السبب وراء لعن السوريين الأحرار لروحه منذ انطلاقة الثورة السوريّة.

التعليقات (1)

    ف إ م

    ·منذ 3 سنوات أسبوعين
    كلمة معبرة عن بعض ايديولوجيات الدكتاتوريين ولاتنسى : لافرق بين دكتاتور وآخر الا بالقمع الصالح لتجويل بقائهم
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات