عن العدالة التي تبدأ بمحاكمة المنشقين: بين الحق الشخصي والحق العام!

عن العدالة التي تبدأ بمحاكمة المنشقين: بين الحق الشخصي والحق العام!
عندما سألني المذيع في مداخلة مع إحدى المحطات عن موقفي فيما لو كنت أحد المعتقلين الذين تم تعذيبهم في سجون النظام  وشاهدت من شارك باعتقالي أو تعذيبي بعد انشقاقه، لم أتردد عن الإجابة بأنني لن أدعو لمحاكمته.

طبعاً أنا هنا لا أصادر حق الآخرين في أن يكون لهم موقفهم الخاص، لكنني أنطلق فيه من قاعدتين، إحداهما وطنية والأخرى قانونية.

أما الوطنية فتفترض أن المشاركة في الثورة كانت تعني للمنخرطين فيها الاستعداد المسبق لتحمل كل المخاطر التي يمكن أن تترتب على هذا القرار، طالما أن الهدف هو حرية السوريين وإسقاط النظام وبناء دولة القانون والعدالة والديمقراطية، وليس الانتقام.

وبالطبع كان من جملة هذه المخاطر التي كنا جميعاً على استعداد لها الاعتقال والتعذيب، الذي إن نجا منه بعضنا بالصدفة، فإن أشقاء وأقارب وأحبة وأصدقاء كثر لنا لم ينج منه للأسف، تماماً كما هو الحال مع الموت بوسائل وحشية النظام الأخرى التي واجهنا بها خارج المعتقلات، فمن منا اليوم لم يفقد أباً أو أخاً أو قريباً أو صديقاً أو حتى عدداً كبيراً من هؤلاء نتيجة ما سبق، ومَن من السوريين يستطيع أن يزاود على سوري آخر من الثوار والمعارضين بالتضحية والألم؟

أما قانونياً، فلو أردنا اليوم كضحايا محاسبة كل العاملين لدى النظام إلى اليوم، وإحالتهم جميعاً إلى المحاكمات الفردية، فسيكون علينا محاكمة مئات الآلاف إن لم نقل الملايين، بين عسكريين وشرطة وسياسيين وإعلاميين وموظفين مدنيين من كل التخصصات، وهو أمر بالطبع غير ممكن، كما أنه يقطع الطريق على أي حلول سياسية مقبولة، ولذا وجد مبدأ العدالة الانتقالية الذي يقوم على أساس محاكمة كبار المسؤولين عن الانتهاكات والجرائم، مقابل الانتقال إلى نظام حكم رشيد وعادل.

بل إن الأمر يزداد تعقيداً بكل تأكيد إذا ما شملت المطالبة بمحاسبة كل من حمل السلاح أو عمل في صفوف المعارضة، وهؤلاء عددهم كبير أيضاً، وجميع القوى باتت متهمة اليوم بارتكاب انتهاكات، بما في ذلك ميليشيا قسد وفصائل المعارضة بمختلف توجهاتها، وبالتالي فإن نصف الشعب السوري على الأقل، سيكون عرضة للملاحقة والمحاكمة.

لكن هل كل ما سبق يلغي بالضرورة حق الأفراد في المطالبة الشخصية بمحاسبة من ارتكب جرماً بحقهم؟ بالطبع لا، وهؤلاء يمكنهم اللجوء إلى محاكم جنائية يلاحقون من خلالها الأشخاص المتهمين، كما يحصل حالياً في محكمة كوبلنز الألمانية التي تحاكم العقيد المنشق أنور رسلان، لكن ذلك لا يعني أبداً أن هذا النوع من المحاكمات تفتح الطريق أو تؤدي إلى تحقيق العدالة المنشودة ومحاسبة النظام.

بل إن الترويج بأن هذه المحاكمة هي محاكمة للنظام بكامله، يمكن اعتباره تضليلاً للحقيقة، وخاصة لدى الرأي العام العالمي، الذي سيجد في محاكمة فرد واحد أو اثنين تبرئة لذمته وإخلاءً للمسؤولية القانونية والأخلاقية في ضرورة جلب كبار مجرمي النظام إلى المحاكمة، ناهيك عن الإشكالية الكبيرة التي تثيرها أن تبدأ هذه (العدالة) من خلال ملاحقة المنشقين !

يردد الكثيرون مقولة "وهل الثورة تجبّ ما قبلها، وهل الانشقاق يغفر ما سبقه" ؟! .. والواقع أنه لا يمكن تقديم إجابة واحدة عن هذا السؤال في كل الأحوال. فمثلاً ليس وارداً التسامح اليوم مع مسؤول في النظام أو ضابط لديه ينشق بعد عشر سنوات من الثورة، كما لا يمكن منح الغفران لكبار جلاديه حتماً، لكن المنشقين في وقت مبكر ممن وجدوا أنفسهم مضطرين للبقاء على رأس عملهم لعدة أشهر إلى حين إيجاد طريق للانشقاق الذي يعد عملية خطيرة جداً، هل من العدالة أن يكون جزاؤهم الملاحقة والمحاكمة، خاصة وأن الكثير منهم كان يقدم خدمات للثوار قبل انشقاقه مقابل تنفيذ مهمات كانوا مجبرين على القيام بها تحت طائلة التهديد بالموت، بل وما هو أقسى ؟

طبعاً يستثنى من ذلك المنشقون مبكراً ممن ثبت عليهم ارتكاب جرائم كبيرة ممنهجة وخطيرة، سواء قبل انشقاقهم أو بعده، لكن الصحيح أيضاً أنه سيكون مؤلماً ملاحقة هؤلاء في الوقت الذي يترك فيه مجرمون أسديون انتقلوا للإقامة في البلاد التي تتم ملاحقة المنشقين فيها، أو البلاد التي يزورها مسؤولون حاليون في النظام وكان يجب التحرك من قبل المؤسسات القانونية والمنظمات الحقوقية من أجل القبض عليهم ومحاكمتهم.

في مناقشة هذه القضية لم يتردد الكثير من الضباط المنشقين عن التأكيد على استعدادهم للمساءلة والمحاسبة، وهو موقف أخلاقي شجاع طبعاً، لكن هؤلاء يشعرون بمرارة كبيرة بسبب التركيز على هذه الفئة من المنشقين مقابل السكوت عن المنشقين المدنيين، الذين يمكن اتهامهم  بالفساد ونهب المال العام وغير ذلك بكل بساطة، وتزداد هذه المرارة عندما يشعرون بأن مشاركتهم في العمل العسكري مع الثورة بعد الانشقاق يجعلهم متهمين من قبل الطرفين، إلى جانب طبعاً الحرقة الأكبر في أن تبدأ المحاسبة بهم بينما يعيش زملاؤهم السابقون الذين آثروا البقاء مع النظام هانئين محميين !

مرة أخرى لا يعني ما سبق رفض محاكمة أي مجرم مهما كان موقعه أو موقفه، أو منع الضحايا على الصعيد الشخصي من ملاحقة جلاديهم مهما كان مستواهم الوظيفي، لكن هذا لا يعني في الوقت نفسه أنه طريق الوصول للعدالة المنشودة، خاصة إذا ما تم التركيز على المنشقين منهم، بينما يغض الطرف عن شبيحة ومقاتلي وضباط النظام المتقاعدين الذين يعيشون اليوم في بلاد اللجوء، ويبرر البعض بأنه ليس هناك من ادعى عليهم، أو لم يتم بعد  جمع المعلومات الكافية وإعداد الملفات بشكل كامل عنهم، فكيف أمكن ذلك مع أنور رسلان إذن ومع مجدي نعمة المتحدث السابق باسم جيش الإسلام، وهل الوصول إلى ضحايا هؤلاء المتهمين والحصول على الأدلة ضدهم أسهل من الوصول لضحايا مجرمي النظام والحصول على الأدلة التي تدينهم ؟! 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات