صحفي أمريكي يسرد قصته المثيرة داخل سجون جبهة النصرة عام 2014: رواية الخديعة وعصابة العينين

صحفي أمريكي يسرد قصته المثيرة داخل سجون جبهة النصرة عام 2014: رواية الخديعة وعصابة العينين
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، الثلاثاء الماضي، تقريراً بعنوان "رهينة في سوريا: مراسل يصف ما احتاج إليه للبقاء حيّاً"، يتحدث عن مذكرات الأسر والتعذيب التي كتبها المراسل الأمريكي ثيو بادنوس تحت عنوان "عصابة العينين" في سجون "هيئة تحرير الشام في "إدلب".

ثيو باندوس، مراسل أمريكي مستقل في أوائل الأربعينيات من العمر، كان ينزل في بيت ضيافة بائس في بلدة انطاكية جنوب تركيا على الحدود مع سوريا. في خريف عام 2012 أصبح معدماً يائساً ووحيداً دون معين، بعد أن تجاهل محررو المجلة رسائله الإلكترونية، ولم يعد يملك سوى بضع مئات من الدولارات. 

في إحدى الأمسيات، التقى باندوس بشابين سوريين (من "الصحفيين المواطنين" كما قالا) عرضا عليه إدخاله إلى سوريا ليروي أحداث الحرب التي أخذت تستعر هناك، وعلى الرغم من نذر الشؤم والسوء، حيث اختفى صحفي أمريكي آخر اسمه أوستن تايس قبل أسابيع، قبل العرض دون تردد، وقبل أقل من أربع وعشرين ساعة، كان بادنوس يعبر الحدود إلى سوريا، ليواجه كارثة شخصية جراء تهوره.

جهاديون بثوب ناشطين

ما حدث بعد ذلك شكل موضوعاً لرواية "عصابة العينين"، وهي سرد استقصائي لنحو سنتين قضاهما أسيرًا في قبضة "جبهة النصرة"، التنظيم الرئيس المرتبط بالقاعدة في سوريا. تبين أن الأدلاء السوريين ليسوا سوى جهاديين يمارسون الخطف، اختطفوا بادنوس، وسرعان ما رموه في متاهة من أنفاق الألم والعذاب تحت الأرض –سلسلة من السجون القذرة تعرض فيها للجلد والصعق بالكهرباء، تحت وابل من القذائف التي تمطر الأرض فوقها، كان يعاني من القمل وصراخ زملائه الأسرى، أما الجوع فكان رفيقه الدائم. 

وعلى غرار كثير من مذكرات الرهائن، تعري الرواية الوضع الإنساني في حدوده القصوى: حرمان ومرونة، غضب وإلهام، ثم انتصار الروح الإنسانية في نهاية المطاف، لكن بادنوس مضى في الرحلة خطوة أبعد، حيث استخدم مهاراته في اللغة العربية للحوار مع آسريه، واستقصاء دوافعهم وأحكامهم المتحيزة وآرائهم المتعصبة، فضلًا عن الحالة النفسية لجماعة محلية في زمن الحرب يبدو أنها متأثرة تأثراً شديداً بالأيديولوجية الأصولية. 

لكن في البداية، وجّه بؤرة العدسة إلى نفسه.

يعرف بادنوس نفسه، بعد أن أصبح اسمه بيتر ثيو كورتيس، بأنه مراسل جسور لكنه مفلس، تعلم العربية في اليمن، حيث ألف كتابا لم يشتهر عن المذاهب الإسلامية (ما دفعه إلى تغيير اسمه لتجنب الارتباط به من أجل متابعة عمله كمراسل في بلدان العالم الإسلامي). أمضى ثلاث سنوات في العاصمة السورية دمشق، حيث تعرض لضغوط وإغراءات من معارفه الرجال ليتزوج بناتهن، لم يحقق أي تقدم على الصعيد المهني، لكنه ازدرى مراسلي الشبكات الإخبارية الكبرى، بهواتفهم المتصلة بالأقمار الصناعية، وغرف إقامتهم الفاخرة في الفنادق الفخمة، "الذين يظنون واهمين أن الأكاذيب التي يواجهونها حقائق". " لقد كرهتهم، إنهم مراسلون مزيفون"، كما يضيف غاضبا.  

يعتبر بادنوس أنه أكثر أصالة، ويشبه نفسه بجورج أورويل في "متشردًا في باريس ولندن". تخيل أنه بمجرد دخوله إلى سوريا سوف يتمكن من العثور على أهم التفاعلات الطبيعية والواقعية الضرورية لكتابة وصف سردي كاشف للبلاد وحاشد بالتفاصيل الغنية، أو الحصول على الأقل، على 200 دولار أجراً عن كل قصة. 

لكن لسوء حظه، حين وقع في الأسر، أوحت هذه الصفات والسمات لآسريه بأنه في حقيقة الأمر عميل لوكالة المخابرات المركزية (CIA)، وعندما حاول التأثير في قاض سوري محلي باستعراض معرفته المتعمقة بالجهاد، تأمله القاضي مليًا وقال له: "أنت لست صحفيا، ولا علاقة لك بالصحافة". خشي بادنوس أن يكتشف آسروه عنوان كتابه الذي ألفه عن اليمن (بعنوان "متنكرا في هيئة مسلم")، لكن ذلك أصبح فجأة خيارا ضعيفًا.

على امتداد الصفحات الثمانين الأولى، يعرض بادنوس خطواته الخاطئة بتفصيل مسهب، ويسخر من غروره وأباطيله، ويندم على الإشارات التحذيرية التي لم ينتبه لها. بعد ذلك أصبح الصوت في الرواية حادًا ومزعجًا. فقد وصف نفسه بأنه "الأمريكي الأحمق" (عرفنا ذلك منذ البداية!). لكنه حالما سقط في الهاوية، حولته هذه العوامل نفسها –مهاراته اللغوية، ومعرفته بالإسلام، وفضوله الغريزي- إلى شاهد عيان عميق التفكير على عالم كابوسي مريع،  وجعلت مذكراته رواية راصدة بدقة للأماكن والأحداث.  

صادق بادنوس –كلما أمكنه ذلك- آسريه، وكثير منهم تعرضوا لمعاملة وحشية تحت حكم ديكتاتور سوريا بشار الأسد. وسعى إلى تفسير لغتهم الجهادية وإشاراتهم الدينية، وإطارهم الأخلاقي المهلهل للجريمة والعقاب، وكرههم لأمريكا، وأبدى تعاطفه مع زملائه الأسرى الذين يجلون القرآن ويعظمونه.

لكنه يطلق سهامه مباشرة حين يواجه السخف العبثي على مسرحهم الوحشي. فعندما تجمع رتل من الرجال الذين يرتدون الأحزمة الناسفة أمام باب زنزانته، شبههم بعارضات أزياء يلبسن "أجرأ ثياب هذا الموسم"، مع تبني مواقف تضاهيها. "إرهابيون على الموضة، يعرفون كيف يعبسون، ويخطفون الأبصار، ويظهرون لا مبالاتهم بالعيون المحدقة فيهم". 

السخام الأسود

يشير عنوان الكتاب إلى قطعة القماش الملطخة بـ"السخام الأسود" التي أجبر بادنوس على ارتدائها في أثناء جلسات الاستجواب، والتي تحولت في النهاية إلى شيء يبعث على الراحة. السرد محكم ومشدود، ويشبه الومضات المتلاحقة، دون توقف لعرض سياق الحرب في سوريا، أو إشارة إلى والدة بادنوس المعذبة في فيرمونت. نبقى معه في الزنزانات، حيث القوى التي تصور أنها تقرر مصيره تحوم في الأفق مثل الملائكة والشياطين: بيروقراطيون متحجرو القلوب في واشنطن ودمشق؛ قادة القاعدة يتمددون بكسل أمام شاشات التلفزيون؛ الرئيس أوباما في المكتب البيضاوي.

يوفر وصول أسير أمريكي آخر –ماثيو شراير، المصور الصحفي من لونغ أيلند- فاصلًا للاستراحة، لكنه يثير المشاعر والعواطف الوجدانية. تخانق الرجلان في البداية، ثم تبادلا اللكمات. في إحدى المراحل، اعترف بادنوس أمام شراير بأنه على استعداد لقتله إذا أدى ذلك إلى استعادة حريته. وعندما أتيحت فرصة الهرب، فرّ شراير في الفجر إلى شوارع حلب. لكن بادنوس علق في إطار النافذة، ولم يتمكن من النجاة.

ما حدث بالضبط في تلك اللحظات شكل مادة لنزاع مرير بين الأمريكيين. قدم شراير نسخته عن الواقعة في كتابه "صلاة الفجر". بيد أن حقيقة الأمر هي سقوط بادنوس من النافذة إلى أرض الزنزانة، وتعرضه لضرب مبرح من الآسرين الغاضبين.

يستحقر بادنوس واشنطن بشدة، ويعتبر أن الأسلحة التي تبرعت بها وكالة الاستخبارات المركزية، كجزء من المساعدات السرية التي قدمتها الولايات المتحدة للفصائل في سوريا والتي بلغت قميتها مليار دولار، قد وقعت في نهاية المطاف بأيدي آسريه. يقول باندوس إنه وبينما تضرعت والدته لوزارة الخارجية طالبة مساعدتهم، كان السفير في سوريا يبحث في وضعيات التصوير التي سيأخذها في صوره مع قادة الفصائل المدعومين من قبل الولايات المتحدة. كان يحلم، طوال فترة أسره، باللحظة التي سيأتي فيها الرئيس أوباما لإنقاذه، ليجد لاحقا أنه وعند علم الأخير بمثل حالته، "لم يفعل الكثير".

مستعمرة من المتوحشين

ويقف عجز الولايات المتحدة عن مساعدة كايلا مولر خلف سخط باندوس الشديد، وهي رهينة أمريكية تعرضت للاغتصاب من قبل تنظيم داعش، ثم ماتت في ظروف مثيرة للجدل عام 2015. 

وروى باندوس قصته مرارا من قبل، لا سيما في مقال لمجلة نيويورك تايمز نُشر عام 2014، وكذلك في الفيلم الوثائقي "ثيو الذي بقي على قيد الحياة" (Theo Who Lived)  الذي أخرجه دايفيد شيزجال.  وتأخذ روايته المؤلفة من أربعمئة صفحة، منعطفات غامضة في بعض الأحيان، إذ نجد بعض المحذوفات الغريبة. كعدم ذكره لمحاولة فراره الفاشلة في أغسطس/آب 2014، أو الرسالة المصورة التي أجبر على تسجيلها بعد فترة وجيزة من ذلك. وكان ذكره لفدية من ملايين الدولارات وتدخل الدبلوماسيين القطريين لضمان إطلاق سراحه في نهاية المطاف مبهما للغاية. 

وتملص في عدة مواضع بشكل محبط من إظهار حالته العاطفية بشكل دقيق، على الرغم من رؤيته الثاقبة للآخرين، إذ رفض منذ إطلاق سراحه التحدث إلى والدته، حيث يقول بأنه كان قلقًا حول "عطل عام في نظام دارته العاطفية"، ومن ثم يكشف عن المزيد. 

مع ذلك كله، وصل باندوس إلى حل من نوع ما، وتشكل ذلك على هيئة رواية استعارية كتبها في الأسر، وتمكن في النهاية من كسر التعويذة التي رميت على خياله من قبل آسريه. حيث يقولها بكل صراحة: "لقد أُسرت في مستعمرة من المتوحشين الذين كنت أخافهم بالضبط كما نخاف الوحوش".

مع ذلك كله، تطارد مصائر الرهائن الأقل حظا رواية باندوس الذي يعترف بأن التعجيل في إطلاق سراحه، في أغسطس/آب 2014، كان بسبب موجة الغضب العارمة حول حادثة الإعدام المروعة التي راح ضحيتها المراسل جايمس فولي، قبل أيام من خروج باندوس،  ويبقى مصير الصحفي المستقل، أوستين تايس، الذي اختفى عدة أسابيع سبقت أسر باندوس، مجهولًا حتى اللحظة. 

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات