وإذا كان موضوع الوجع السوري ومأساة الموت الجماعي والفردي- موت المجتمع وموت مقدراته، موت نسيجه وتكوينه، ليس جديداً، ونعايشه يوماً بيوم، فإنني قد وجدت بين سطور وأحداث هذه الرواية شمولية الطرح لهذا الموضوع بوجوهه المتعددة، كما تلمست فيها ذيول وخيوط وتشعبات هذا الموت.
فالرواية تبدأ بحدث بسيط ومألوف وهو موت عبد اللطيف أحد أبطال الرواية وأب لأهم شخوص الرواية، والتي تقودنا تفاصيلها بحيث تتحول أحداث الموت إلى "رمزية" تقدم مثالاً صارخاً للفرد السوري الثائر الذي تم تهجيره وتعذيبه وقتله واعتقاله خلال الثورة السورية، والرواية هي قصة ثلاثة أخوة نبيل الشهير بـ (بلبل) وحسين أخوه الأكبر وفاطمة البنت الوحيدة، حيث يستقلون مكرو باص للسفر لبلدة نائية لدفن والدهم عبد اللطيف، هذه الرحلة تفتح الباب واسعاً على الكثير من الشخصيات والأحداث على الساحة السورية.
الحنين إلى زمان ما قبل البعث
وتتناول الرواية عددا من الشخوص المتفاوتة في القدر والأهمية من حيث الدلالة والإشارة والرمزية ففيها: شخصيات تعيش الحنين إلى ستينات القرن المنصرم حيث الديمقراطية السورية أيام الزمن الجميل... وفيها شخصيات تتخذ من الدين سلوكا وطريقة للقدرة على الفعل السياسي.. رجال أمن ومخابرات يعيثون قتلاً وفساداً بالناس تحت ادعاءات مختلفة، وكتّاب تقارير ومخبرون يتسترون تحت عباءة النظام ويوظفون الفعل الطائفي لمصالحهم في محرقة يذهب إليها الجنود الذين يعدمهم القناصة في حالة تفكيرهم بالانشقاق..
الشخصيات النظيفة والصادقة يضمحل دورها ويختفي,, ليحل محلها أشخاص نفعيون وهامشيون يتطلعون إلى توظيف الأحداث لمصلحة أو خدمة شخصية عابرة. وبهذا يكون الكاتب قد تفنن وأجاد بعكس الشريحة الاجتماعية، كما يقتطع مقطعا من العرض لمكونات الواقع السوري القائم والفعال دون أن يدخلنا بسرد رتيب وممل.
رسم متقن للمشهد الحكائي
في الرواية الكثير من الواقع وفيها الكثير من المتخيل، ما يشير إلى قدرة عالية لدى الكاتب في توظيف الشخوص وتحريكها بما يوصله إلى هدفه وغايته وما يريد أن يقوله لنا بلغة هادئة ورصينة خالية من التكلف تقود القارئ بهدوء واتزان وتمنحه الارتياح والتشويق والاستيعاب المطلوب، وتنتقل بالقارئ في عدد محدد من الأماكن التي انتقاها الكاتب بذكاء وحرفية ونقلنا إليها بطريقة سلسة ومكننا من المعايشة فيها بعض الوقت.
وقد استطاع الكاتب أن يسم بفطنة ومفهومية عددا من الأحداث المتواترة والمتناوبة وقد عززها بالكثير من السوابق والمداخلات والإستدركات التي تهيئ وترسم المشهد الحكائي وتخدم موضوع الرواية وتوفر لنا المعرفة الموضوعية والدلالات والرموز التي يريد الكاتب الوصول إليها.
الحياة هي الاستثناء أم الموت؟
طرح خالد خليفة في روايته الكثير من التساؤلات والعديد من التوضيحات، الحياة في سوريا هي الاستثنائي وليس الموت، ولماذا كل هذا الموت العابث بأرواحنا؟ ويرسم صورة مقتطعة لعبثية وغرائبية الفرد السوري الذي يبالي، حسين نموذجاً حينما يستمع لسارية السواس غير عابث بجثمان أبيه الراقد بقربه، وتبث الرواية بين طياتها قدراً من الوعي الفكري الذي يوجه الكاتب بإرادة خفية لا يشعر بها المتلقي.
أنشأ الكاتب توترات جميلة تنتقل بنا من مكان إلى مكان ومن صورة قصصية إلى أخرى مع وحدة الموضوع والمضمون بيسر وسهولة كما حصل في الفصول والأجزاء المتعلقة برحلة (التيه) لكل نبيل وحسين وفاطمة، من دمشق مروراً بحمص وحلب وأماكن أخرى، مظاهر الخوف والرعب التي تم المرور بها، المأزق الذي ذهب به نبيل إلى مأزق الإرهاب والموت، المأزق والمصير الذي وضع فيه كل من حسين وفاطمة.
صورة الموت المجاني
ويجيد الكاتب في هذا الجزء من الرواية بشد النص الروائي إلى التشويق، ويجيد ترتيب الفصول، وتنظيم نصه القصصي، بين السوابق واللواحق، بين الموضوعي والذاتي، الذي يتبلور هنا ويظهر جراء حادثة اعتقال بلبل من قبل أحد التنظيمات التي توصف بالمتطرفة والإرهابية، ليمتد بإلقاء الضوء على موضوع ومضمون الرواية بعشرات التساؤلات.
إنها المعادلة التي جعلنا الكاتب نبحث عن تفسيرها وأسها، معادلة الموت المقيم بيننا، والتي تميز حيواتنا كسوريين قبل الثورة حيث الاعتقال والإعدامات، واليوم ينتقل الموت بيننا بوجوه مختلفة ويلبس تسميات عديدة، الآن حرب النظام والأمكنة والمذاهب والطوائف والقتل وقطع الرقاب.
لقد رسم خالد خليفة صورة للموت المجاني، سواء كانت الهوية أو المذهب أو الطائفة أو العشيرة أو المدينة جريمة نتيجتها الموت، أو حين يكون الموت نتيجة وشاية مغرضة، أو تقرير من مخبر أو ساقطة تتعامل مع مخبر آمن، أو جراء سلسلة الاعتقالات العشوائية التي يقوم بها النظام، وقد أظهر الكاتب وحدة خطاب الموت في الزمن السابق والزمن الحالي، أظهر وحدة الخطابين مع اختلاف المنظر والمظهر، إنها آلة القتل المتعددة الوجوه، القتل لادعاءات وأسباب وأيديولوجيات مجهولة المصير لم تخلف وراءها سوى الموت وآثار الدمار، إنها الحروب العبثية للظفر بالسلطة.
لقد كان الأداء السردي للكاتب موفقاً في تناوب الأدوار والتوترات والاستدراكات والرجوع إلى المكونات الخلفية-الماضية- كأجزاء مكونة ومكملة للصورة التي أمامنا، وقد أدى خالد خليفة وظائفه السردية، وطرح موضوعه ووجهة نظره، بضبط وتنسيق محكم أحسن وأجاد بها.
هذه الرواية بواقعيتها وتمكنها واستيعابها للموضوع الذي تضمنته ستكون وثيقة سورية تؤرخ وتوثق، وشاهدا في حقبة تاريخية ليست قصيرة الزمن في عمر السوريين ومسيرة آلامهم.
التعليقات (0)