وانتهت الرواية بسؤال تعجبي يحمل معاني عديدة: ( لماذا لم يدقّوا الخزان؟)
يحقّ للسوري اليوم السؤال عن القادم من الأيام، وكيف ستكون النقطة الفارقة القادمة بعد منعطفٍ عايشه منذ عقد؟ بعد عقد كاملٍ من الحراك السوري، بعد مشهد لم يتغيّر وامتدّ طويلاً وكان السوري هو من يجسّد دور الضحية، هاهي ملامح التغيّر تبدأ ولكن على صورةٍ أكثر بشاعةً لتحل محلّها صراعات إقليمية ودولية مدعومة بتجييش عقائدي ومذهبي، فعلت فعلها في تضليل وعي الناس، وحرفِهم عن طموحاتهم وأحلامهم بوطنٍ بديلٍ تتحقق فيه العدالة الاجتماعية، وتستعاد الحقوق المنتهكة وتصان الكرامة، لتغرق البلاد في مستنقع الدماء وترفرف فوق أراضيها المنكوبة رايات الجحيم وديمومة إجرامٍ كلّما تقطّعت أذرعه وانكسرت سكاكينه نبتت له غيرها، ومع ازدياد انغلاق الأفق في وجه السوريين، وتحوّل حياتهم إلى كل أشكال استحالة العيش إلّا في جبريّة الحياة، تزداد ضرورة طرح الأسئلة، قد لا توصل الأسئلة إلى نتيجةٍ أو حلّ شافٍ أو خروج من الخزان الذي حشرنا فيه العالم باختلاف أساليبه.
فعندما يتقلص فضاء الثورة وتختصر مطالبها في تأمين الطعام ودرء الجوع والبرد وسلة أغذية يهان من أجلها السوري فقط، فإن هذا يرهن المستقبل إلى بطون خاوية وعتمةٍ لا يرى عبرها سوى اللاشيء وليس إلى ضمائر وعقول تبحث عن بدائل تليق بذواتها المكتشفة، وما تعاني من انتهاك لإنسانيتها وعقلانيتها التي تفكّر فقط في بناء وطن..
كان الأمل أن تكون ثورة بكل معنى الكلمة، ثورة على الواقع كله، وإحداث انقلاب جذري، والمضي في بناء مشروع الدولة المشتهاة، الدولة التي يحقّ لكل فرد فيها أن يشعر بأنها دولته، وبأن الوطن وطنه.
بعد عشر سنوات، صارت الصورة مخيفة حدّ الذعر، إنها لم تعد ثورة على نظام مجرم فحسب، بل صار المنتظر من هذه الظروف الحياتية الغاشمة التي تلفّ حبائلها على أعناق الشعب، أن تكون ثورة على النظام والعالم وعلى ذواتنا أيضاً. ولا يضيم أي حرّ في هذا البلد المنكوب أن يصل إلى أي مرحلة من مراحل الجنون أمام هذه الصورة المعقّدة، فلا طائل من مناورة الواقع، بكل أدلته ومؤشراته الفجة القاسية على أن الشعب السوري مستعبدٌ حدّ الرمق. ولا أعني هنا العبودية كبنيان أخلاقي وقيمي ومفاهيمي، بل كواقع مفروض بحكم القوة، الحرب على الشعب السوري ومصادرة كل الخيارات، إلّا ما تقدمه من أشكال الحياة التي تلتحم مع الموت، مع عدم تغافل حقيقة أن الأخلاق تنشأ كمنظومة معرفية وسلوكية لجوهر الوجود الإنساني، وتؤثّر بها وبصياغتها البيئة الفاعلة في الحياة، دينية كانت أو أيديولوجية أو فلسفية أو معرفية، وهذا حديث آخر عن السلوكيات والمفاهيم بعد سنواتٍ عشر من الجحيم، والتي هي في الواقع حصيلة قرون توّجتها العقود الأخيرة من تكريس التاريخ التسلطي بكل ما يحمل من قدرات الاستعباد الذاتي والاستلاب الوجودي لقيمة الإنسان.
صارت الأخلاق والقيم من الماضي، وصار الشباب في سورية يلهثون وراء فرصة التحاق بفصائل تقاتل في معارك بعيدة لصالح دول أخرى، زجّتهم فيها الدول المسيطرة على الميدان في سوريا، وهذا شكلٌ موجعٌ من أشكال الاستعباد وجدران صلبة تلتفُّ حول الحلم.
المخيّمات التي ضاق بها الشمال وجميعها تنتظر المساعدات من الدول، لايحصل عليها السوري حتّى يهان بطريقةٍ أو بأخرى، من تصوير وتقارير وإذلال واستغلال وابتزاز هي الأخرى تشكّل جدراناً تأسر الأمل وتقيّده فلا ينطلق في الأفق.
الطوابير التي صنعها النظام المجرم بأسلوبه القذر وتجويعه للسوريين في الداخل وندرة كلّ شيء من أبسط أساسيات المعيشة، محاولاً ترويض من بقي هناك كي لايحلم ولا يأمل شيئاً، هي جدران استعباد كبيرة تجعل ممن وراءها محدود التفكير.
حتّى من فرّ خارج البلاد وجد أمامه عوائق وقوانين تجبره على الشعور بالمهانة والاستعباد حتّى لو أمّنت له ما تبقّى من مقومات الحياة.
كلّ شيء في هذا العالم الفسيح صار قبراً ضيّقاً يلمُّ السوريين ويذيقهم ذات الاستعباد رغم تغيّر جودة هذه الحالة ومسمّياتها وأساليبها، جميعها جدرانٌ لخزّان كبيرٍ يحاول خنق حلم السوريّين الأول منذ عقد، وماهي إلّا محاولةٌ تمارس جبروتها على أرواح السوريين في الخارج والداخل. للخارج مجالاته التي تتباين بين بلد لجوء وآخر، حيث تختلف درجة العبودية لحياة مشروطة بحكم ظروف قاهرة لا إنسانية.
فمنذ عشر سنوات والسوريون يجسدون رواية (رجال في الشمس) في الداخل والخارج وفي كلّ مكان، ينتظرون الوصول ولا يقرعون جدران الخزان، أم أنّهم اتفقوا جميعاً أن يكونوا سوريين في محرقة الشمس!
ولم تعد تلك الرواية إلهاماً أدبيّاً، فكم من خزّانات وشاحنات وخيامٍ وأنقاضٍ قضوا فيها تاركين للعالم السؤال ذاته "لمَ لم يدقّوا الجدران؟"
وقد كرّروا حالة التضحيةِ في الحياة من أجل حياة مأمولة متخيّلة… ليكتبوا بذلك رواية جديدة عنوانها الواقع الجبري..
التعليقات (6)