بقلم جاف ..رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همينغوي: قصة أسطورية عن العزيمة والتحدي لكاتب منتحر!

بقلم جاف ..رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همينغوي: قصة أسطورية عن العزيمة والتحدي لكاتب منتحر!
بالتعاون مع (راديو أورينت) ينشر موقع أورينت نت، نصوص حلقات برنامج (بقلم جاف) التي تعرف بكلاسيكيات الرواية العالمية، والتي يعدها ويكتبها الأديب السوري مصطفى تاج الدين تحت عنوان: (رحلة في روايات تشبه حياتنا).

رواية في قائمة المئة الأفضل

"إرنست همنغواي" يبدع في روايته "الشيخ والبحر" بطلاً لا يستسلم للموت، بينما الحياة تجبر "همنغواي" ذاته على الاستسلام.

الروائيون بشرٌ متناقضون بامتياز، وهذا يبدو سراً من أسرارهم الإبداعية، وهذا التناقض يبدو جلياً عند "إرنست همنغواي" الذي عاش حياته مصاباً بالاكتئاب، وحاول الانتحار عدة مرات، قبل أن تهزمه الحياة في محاولة انتحاره الأخيرة، فينجح بقتل نفسه ببندقيته التي أحبها كثيراً ولم تكن تفارقه برحلاته، بينما بطل روايته العجوز "سانتياغو" في رواية "الشيخ والبحر" يكافح الأشياء كلها التي تحالفت ضده، من حياة كئيبة، وصيادين شامتين به، وتقدم في السن، وعواصف البحر، وأسماك القرش، ليعود منتصراً من منتصف البحر، في الرواية التي صنفها النقاد ودارسوا الأدب في العالم ضمن قائمة أفضل 100 كتاب في كل العصور.

نوبل للآداب 1954

ولد "همنغواي" في عام 1899 بأمريكا، عمل صحفيا من على خطوط الجبهات في الحرب العالمية الأولى، ثم أصدر العديد من الروايات التي حصلت على نجاحٍ كبير حول العالم مثل "الشمس تشرق أيضاً، ولمن تقرع الأجراس، ووداعاً أيها السلاح، وثلوج كلمنجارو" وتقديراً لإبداعه الروائي حاز في عام 1954 على جائزة نوبل في الآداب، لكن كل هذه الإنجازات لم تمنعه من وضع حدٍ لحياته في صباح يوم من عام 1961 عندما أطلق النار على نفسه من بندقيته التي يحبها كثيراً.

صياد منحوس وشراع مهزوم!

"سانتياغو" عجوز وحيد، وصياد قديم، هرم مع مرور الزمن، يعيش في كوخ صغير ومتواضعٍ قريب من الشاطئ، ومنذ أكثر من 80 يوماً لم يستطع اصطياد سمكة واحدة، لم يعد كما كان أيام الشباب، يحظى بصيدٍ وفير، تبدو له حياته الآن مع سوء حظه بالصيد وكأنها توشك على النهاية، لكنه لا يستسلم أمام ظروف الشيخوخة، ويظل يومياً مداوماً على الصيد، على الرغم من رجوعه دون صيد دائماً، حتى إن والدي الفتى "مانولين" الذي يعمل معه أجبراه على العمل مع صيادين آخرين، لأن العجوز "سانتياغو" صياد منحوس، وشراع قاربه ليس إلا راية انهزام، لهذا يتمتم العجوز "سانتياغو" بأسى في سره وهو ينظر إلى أمواج البحر:

لم يعد يحالفني الحظّ، ولكن من يدري؟ ربّما كنت محظوظاً هذا اليوم... كل يوم يأتي حاملاً معه فرصة جديدة، لا بد من أن يحالفني الحظ في أيّ لحظة، لكن يجدر بي أن أهيئ نفسي، حتى يحالفني الحظّ وأنا على أتمّ الاستعداد. 

الهزيمة المادية والانتصار المعنوي

من يتأمل آثر الجروح القديمة على كفي العجوز "سانتياغو" يستطيع أن يعرف كم عارك الأمواج في حياته، ومن يمعن نظره في تجاعيد وجهه الشاحب يفهم كم كانت حياته غنية بالأحداث والتجارب، ومن يسمع كلماته يكتشف أنه يجمع في صدره كل أسرار الصيد وأسرار البحر، لكن كل هذا لا يشفع له الآن، وعدم قدرته على اصطياد سمكة يعني بالنسبة له أنه قد مات، ولا بد من معركة مع هذا الموت في أبعد نقطة من البحر، والانتصار عليه. 

في اليوم الخامس والثمانين وفي نقطة بعيدة من البحر، تعلق في سنارة العجوز أكبر سمكة شاهدها في حياته، حجمها تحت قاربه كان أكبر من حجم القارب، يدخل في معركة مع السمكة بين الأمواج المرتفعة، معركة حياة أو موت، هي معركة حياته كلها، فلم يسبق لصيادٍ أن اصطاد مثل هذه السمكة، حجمها ونوعها كفيلان بأن يجعلانه معنوياً أسطورة بين الصيادين، تنتهي المعركة الهائلة بانتصار العجوز بعد نجاحه بقتل السمكة بطعنها، ويرجع بقاربه إلى الشاطئ يجر خلفه في الماء الجثة العملاقة للسمكة، وعندما يصل إلى الشاطئ يكتشف أن أسماك القرش قد التهمت سمكته العملاقة، في طريق الرجوع، ولم يتبق منها سوى هيكلها العظمي العملاق.

هي هزيمة مادية، لكن العجوز "سانتياغو" ينتصر معنوياً، والهيكل العظمي العملاق للسمكة المرمي على الشاطئ إلى جانب قاربه أمام أعين الصيادين كلهم، دليل انتصار إرادته، وانتصار الإنسان، الإنسان الذي مهما كانت ظروف حياته قاسية، لا يسمح لكلمة "مستحيل" دخول قاموسه أبداً.

الراوي: عندما وصل العجوز "سانتياغو" إلى كوخه متعباً، لحقه الفتى "مانولين" حاملاً له القهوة الساخنة.

سانتياغو: لقد هزمت يا مانولين، لقد هزمت حقاً...

مانولين: على كل حال ليست السمكة هي التي هزمتك..

سانتياغو: هل بحثوا عني في غيابي؟

مانولين: طبعاً بواسطة حرس السواحل وبالطائرات إلى أن يئسوا من العثور عليك.

سانتياغو: المحيط كبير جداً والقارب صغير لا يُرى بسهولة، لقد افتقدتك في هذه المعركة، ماذا اصطدت في غيابي؟

مانولين "سعيداً": ثلاث سمكات، أريد أن أرجع للاصطياد معك..

سانتياغو: أنا لست محظوظاً يا بني.

مانولين: سوف أجلب الحظ معي، لا تهتم، ولا تنسى أن تهتم بنفسك استلقِ في فراشك، وسوف أجلب لك حالاً قميصاً نظيفاً وشيئاً تأكله، يجب أن تستعيد نشاطك لأن هناك أشياء كثيرة يجب أن أتعلمها ويجب أن تعلمني إياها.

سانتياغو: احمل لي عند عودتك الصحف التي صدرت خلال غيابي في البحر.

الراوي: خرج الفتى "مانولين" من كوخ العجوز "سانتياغو" أما الصيادون فقد تجمعوا مندهشين على الشاطئ بجانب قارب العجوز، حول الهيكل العظمي للسمكة العملاقة.

صياد 1: يا إلهي، انظروا إلى هيكلها العظمي، إنها سمكة عظيمة حقاً، طولها ثماني عشرة قدماً من الأنف حتى الذنب، لا أحد شاهد مثلها!

صياد 2: كيف حال سانتياغو؟

الصياد 1: ذهب إلى كوخه ليستريح.

امرأة "مندهشة": ما كنت أعرف أنه يوجد في المحيط مثل هذه الأسماك، انظروا إلى ذيلها كم هو جميل.

الصياد 1: وأنا كذلك لم أكن أعرف..

مات همنغواي وبقي سانتياغو حيا

"الإنسان لم يُخلق للهزيمة، قد يُدمر الإنسان لكنه لا يُهزم"، يؤكد "همنغواي" وهو يروي رحلة العجوز "سانتياغو" بين أمواج البحر في امتحان الحياة وفي ملحمته الخاصة، لكنها لا تشبه رحلة "همنغواي" بين أمواج سنواته الأخيرة في امتحان حياته. 

هزمته الحياة فأطلق النار على نفسه، مات همنغواي لكن سانتياغو في روايته "الشيخ والبحر" ما يزال جانب الشاطئ على قاربه، يتحدى في كل يوم قدره، ولا يستسلم لأمواجه العالية، وإذا لم يتحدَّ الإنسان قدره فما الذي يتبقى منه؟ غالباً لا شيء.

التعليقات (1)

    ابو يمان

    ·منذ 3 سنوات شهر
    مشكور استاذ مصطفى على هذه الوقفة الجميلة
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات