الكورونا والحجر المنزلي وعالم "السوشال ميديا" الموازي

الكورونا والحجر المنزلي وعالم "السوشال ميديا" الموازي
يكفي أن تفك وثاق تفاهتك وتتبع خطى من سبقوك على دروب "اليوتيوب أو التيك توك أو البيغو لايف" أو غيرها من التطبيقات المعبدة أمام القاصي والداني لتدخل إلى عالم أعمال رقمي موازٍ برز مع انطلاق الثورة الرقمية واستحواذها على قلوب وعقول البشر بطريقة هستيرية لا تغفل فيها عين ولا تهدأ أصابع عن النقر، عالم تُصدّر فيه التفاهة وتدرّ على "منتجي المحتوى" أرباحاً طائلة، وتشغل الإعلام على حساب كل ما هو إنساني أو اجتماعي أو ثقافي،  ولا يتطلب الدخول إليه رأس مال أو شهادة جامعية أو خبرة في أي مجال.

قبل أن أباشر الكتابة في هذا الصدد وعندما أخذتْ الفكرة تلح علي وتضرب في رأسي؛ أخبرتُ زوجتي أنني سأكتب مقالاً عن "أم سيف" سمعتني ابنتي ذات العشر سنوات، فراحت تتقافز فرحاً كأن أم سيف فرد غائب من أسرتنا وسيقوم هذا المقال بإعادتها إلى كنفنا، في الحقيقة هي فرد من أسرتنا إلا أنها تتكىء على أكثر من خمسة ملايين متابعٍ وما يقارب المليار مشاهدة على منصة يوتيوب، فهي بذلك فرد من ملايين الأسر الأخرى، تدخل البيوت من شاشاتها، تبخ قيم التفاهة في عقول الأطفال والمراهقين وحتى الكبار أحياناً. 

فرحة ابنتي وطلبها مني قبل مدة قصيرة أن أنشئ حساباً لها على " تيك توك " بالإضافة لتعلقها بهذا الوهم زاد إصراري على الكتابة.

 

قبل أيام ظهرت المذكورة في مقطع قصير تعلن فيه توقفها عن العمل في قناتها، منذ تلك اللحظة قامت قيامة  اليوتيوب وتوابعه واشتعلت تلك المنصات بهاشتاغ "أم سيف"، فحيناً يكشف أحد "اليوتيوبرز" أنها قد اختُطفت فيخرج أخر ليفند الفكرة، وبين متفه ومتعاطف وصل الفيديو الذي لم يزد عن ثلاثين ثانية إلى أكثر من عشرين مليون مشاهدة، وانشغلت وسائل الإعلام به كأنه قضية القرن، فنسي السوريون أزمة كورونا والطوابير والمخيمات، ونسوا "القضية السورية" وعشرات الشهداء الذين قضوا في إدلب في اليوم نفسه، وانشغلوا بحركة يد أم سيف. حتى أن القنوات الكبرى كقناة بي بي سي استضافت أم سيف في أحد برامجها لتحصل هي الأخرى من نصيبها من مشاهدات "الترند". لم يقف الأمر هنا بل تجاوزه لينحدر أكثر في ظل انعدام الرقابة والتقييد على المحتوى الذي تقدمه هذه القنوات، كما أنه يتعدى أم سيف ليشمل آلاف "اليوتيوبرز" الذين أغراهم بريق الشهرة والمال الوفير والسيارات والشقق الفارهة، دون أن يحسبوا حساباً لعواقب محتواهم على المتلقي؛ فعندما يخرج أحدهم في مقلب سمج وهو يعنف زوجته أمام ملايين المشاهدين، وعندما تصبح مقولة "هدي حنش" ثقافة جيل بأكمله، ويصبح "ابن سوريا" مرجعاً للرأي ومنظّراً يدلي بدلوه في كل شاردة وواردة، ويصل تهافت الجمهور عليه حد وقوفهم على باب منزله ساعات لرؤيته، فعلى المستقبل السلام وليطمئن مفكرو الأزمنة الماضية ومنظروها وليناموا في قبورهم قريري العين فقد حمل "ابن سوريا" الراية عنهم . 

ومن نجوم التفاهة الذين سطعوا في الأونة الأخيرة،  الآتي على صهوة حماره فقط ليشوه صورة الشاب " الشاوي " بلكنة سخيفة وحركات أسخف جاعلاً الشاوي قاطع طريق تارة وغبياً لا يفقه يمينه من شماله تارة أخرى ضارباً بعرض الحائط مروءة وأخلاق المجتمع الذي خرج منه، ليصبح أيقونة عصره فيغري حتى نجوم التمثيل ليشاركوه حفلة التفاهة و ليقطفوا قليلاً من الشهرة يضيفوها في سلة نجوميتهم .

ولم يكن " للبوبجي " نصيب أقل في هذه الحفلة فقد ألهبت اللعبة خيال صناع المحتوى فاتخذوا من مجرياتها فيديوهات تجتذب عشاقها بشكل مخيف، فيصبح القتل سلعة يومية يتداولها الأطفال والكبار .

  

شهدت فترة انتشار وباء كورونا ازدهاراً غير مسبوق لمتابعي التطبيقات الرقمية، في ظل الحجر الصحي وتوقف معظم الناس عن مزاولة أعمالهم نهائياً أو الاكتفاء بالدوام الجزئي وتوقفت المدارس فأصبح التيك توك منهاجاً مدرسياً لمعظم التلاميذ؛ يصورون أي شيء وكل شيء ويلقون به في سماء هذه المنصة تاركين كتبهم يعتليها  الغبار آخذين من أقرانهم على المنصة كل ما هو رديء، وبحسب التوقعات والواقع ستشهد الثورة الرقمية مزيداً من الانتشار وسيزدهر معها سوق الأعمال الرقمية وستشهد حفلة التفاهة توسعاً وازدهاراً كبيرين، على حساب تراجع العمل الثقافي الحقيقي، ولا أدري كم سنستطيع نحن الكتّاب والشعراء المقاومة حتى ننخرط في هذا العالم البرّاق الذي يجلب المال والشهرة بسرعة وبدون جهد مقارنة بالفتات الذي يحصل عليه أي كاتب أو صحفي حقيقي في عالمنا العربي؛ فإن وجدتموني يوماً قد افتتحت قناة على إحدى المنصات لأشارك العالم تفاهته لا تنسوا حينها أن تعجبوا بفيديوهاتي وتعملوا "سبسكاريب" وتفعلوا زر الجرس.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات