من المسؤول عن رسم الحدود الافتراضية بين اللاجئين والمجتمع المضيف؟

من المسؤول عن رسم الحدود الافتراضية بين اللاجئين والمجتمع المضيف؟
لماذا ينجح أطفال اللاجئين بالتواصل بشكل سريع وجيد مع أقرانهم في المجتمع المضيف؟ بينما يفشل أغلب آبائهم في ذلك، أو ربما يحتاجون لوقت أطول بكثير منهم! وهل توجد بالفعل حدود للتواصل بين المجموعات الاجتماعية تسهم في الحفاظ على خصوصية كل مجموعة وتفصلها عن الأخرى؟ وما هي الآثار السلبية التي تتركها هذه الحدود على حياة اللاجئ في البلد المضيف؟

على عكس الحدود الطبيعية والسياسية هناك حدود أو خطوط افتراضية تسهم في تشكيل الأشخاص للمجموعات والشبكات الاجتماعية، هذه الخطوط تشبه الحدود بين الدول لكنها رمزية لا يمكننا أن نراها بالعين المجردة، لكننا ندركها في لحظات معينة ونقف عندها لأسباب كثيرة قد تدفعنا إلى عدم تخطيها. هذه الحدود الافتراضية أو الرمزية عبارة عن الخطوط التي تتضمن أو تعرّف مجموعة من الأشخاص، المجموعات، أو الأشياء بينما تستبعد الآخرين. ويمكن التعبير عن هذه الفروق أو الاختلافات من خلال المحظورات أو المحرمات، المواقف، الممارسات الثقافية، وأنماط الإعجاب والكره، والتي تلعب دوراً مهماً في خلق عدم المساواة أحياناً، وتحديد المسافة الاجتماعية بين المجتمعات. 

لقد لعب اثنان من الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع دوراً مركزياً في التنظير لهذه الحدود وهما: إميل دوركهايم وماكس ويبر. ويعد أحد الأمثلة المستخدمة على نطاق واسع للتدليل على وجود هذه الحدود الرمزية مأخوذ من عمل دوركهايم، الذي ينظر إلى الحد الرمزي بين المقدس والمدنس باعتباره الحد الأكثر عمقاً من بين كل الحقائق الاجتماعية، فضلاً عن أنه الحد الذي منه تشتق الحدود الرمزية الأدنى. وفي الدين الإسلامي هناك الكثير من الحدود الرمزية أو الافتراضية التي يتوقف المسلم عندها ولا يستطيع الاقتراب منها أو تجاوزها حتى بالنقاش.

عندما يغادر اللاجئ بلده الأصلي وينخرط في المجتمع المضيف تبدأ مجموعة متشابكة من الحدود الرمزية بالتشكل بينه وبين هذا المجتمع لأسباب كثيرة منها اختلاف اللغة والعادات والتقاليد والقوانين التي تنظم وجوده في هذا الحيز الجديد عندها يتعين عليه التحرك ضمنها خلال التواصل مع الشبكات الاجتماعية المحيطة به. لكن ما هي العوامل التي تسهم في رسم هذه الحدود الرمزية وكيف يمكن التقليل من آثارها السلبية؟

عند الحديث عن العلاقة بين اللاجئين والمجتمعات المضيفة تظهر لدينا أربعة مصطلحات معانيها متقاربة لكن مدلولاتها مختلفة تماماً ولا يوجد اتفاق على معانيها الدقيقة، هذه المصطلحات هي التكيف، الاندماج، الاستيعاب، والفصل أو العزل. أما التكيف فهو عملية باتجاه واحد تتضمن تكوين شروط مع المحيط الجديد مثل تعلم اللغة والثقافة وأسلوب المعيشة أي اكتساب الحد الأدنى من القدرات التي تمكن اللاجئ من البقاء وتنظيم العلاقات الاجتماعية. أما الاندماج فهو عملية باتجاهين وتعني التكامل بين اللاجئين والمجتمع المضيف، وعادة تتضمن عدة أبعاد (ثقافية، اجتماعية، اقتصادية، سياسية، قانونية مؤسساتية)، الاتجاه الأول يتوجب خلاله على اللاجئ الانخراط بشكل أكبر ضمن المجتمع المضيف مع الحفاظ على لغته الأم وثقافته الأصلية، والاتجاه الثاني يتطلب من المجتمع المضيف قبول اللاجئين في صفوفه والانسجام معهم، ومنحهم الفرصة للتقارب والتواصل وبناء شبكات اجتماعية مشتركة. أما الاستيعاب فيتضمن تبني اللاجئين ثقافة ونمط المجتمع المضيف بشكل كامل والتخلي عن هويتهم وثقافتهم الأصلية، وهذا أخطر ما يواجهه اللاجئون في حياتهم الجديدة حيث يتوجب عليهم أن يتخلوا بشكل كامل عن خططهم أو رغبتهم بالعودة إلى بلد المنشأ الذي قدموا منه. في حين يتضمن الفصل أو العزل أو التهميش عزل مجموعات معينة مثل اللاجئين ضمن حيز جغرافي محدد مثل المخيمات ومنعهم من الاتصال مع المحيط الخارجي إلا ضمن شروط عادة ما تكون معقدة، أي الانعزال عن بقية المجتمع، وقد يكون العزل نتيجة للسياسات الرسمية التي تتبعها الدولة، أو من قبل حكومة معينة، لكنه قد ينجم أيضاً عن التحيزات التاريخية، أو التقاليد، أو الاستياء من وجود الغرباء في البلاد.

تتأثر درجة انخراط اللاجئين في المجتمع المضيف بمجموعة متنوعة من العوامل، التي يختلف وزنها وشدتها بمرور الوقت، وتؤثر هذه العوامل بشكل مباشر أو غير مباشر على الفرد أو المجتمع ككل. يمكن تصنيف هذه العوامل في ثلاث مجموعات كالآتي: تلك التي تتعلق بخصائص المجتمع المضيف، مثل امتلاكه خبرة في التعددية الثقافية وقدرته على التسامح والاختلاط بالأجانب والتجانس الثقافي والعرقي والظروف السياسية....إلخ. وتلك المتعلقة بسمات المجتمع الأصلي للاجئين من قبيل التشابه الثقافي والديني والبعد الجغرافي مع المجتمع المضيف، وآخرها تلك المتعلقة بسمات اللاجئين أنفسهم مثل العوامل الديمغرافية والاجتماعية، العمر، المستوى التعليمي، ومعرفة لغة البلد المضيف.

بالنسبة للأطفال غالباً ما يندمجون بشكل أسرع من الكبار ويستطيعون تكوين صداقات مع أقرانهم بشكل أكبر، والسبب يعود ربما لأنهم يتعاملون بعفوية، وبالتالي لا توجد الكثير من الحدود الرمزية بينهم وبين أقرانهم من المجتمع المضيف، لأن التواصل مع هؤلاء لا يتطلب مهارات لغوية متقدمة على عكس الكبار الذين غالباً ما يواجهون مشاكل كبيرة خلال بناء شبكاتهم الاجتماعية داخل المجتمع المضيف بسبب اللغة أو اختلاف الثقافة أو الوضع القانوني والعادات والتقاليد والمخاوف التي تساهم في رسم شبكة معقدة من هذه الحدود الرمزية بينهم وبين أقرانهم، في حين يسهم التشابه في القيم والعادات والتراث المشترك والروابط العائلية في تلاشي هذه الحدود والتقليل من آثارها خاصة النظرة السلبية أو الدونية تجاه اللاجئين في العديد من المجتمعات المضيفة لهم.

ما تقوم به بعض حكومات البلاد المضيفة أحياناً من طمأنة اللاجئين أو الترحيب بهم قد يولد ارتياحاً لديهم، لكن هذا لا يسهم في الاندماج والتكامل مع المجتمع المضيف بشكل كبير، فبمجرد تصنيفهم قانونياً كلاجئين يسهم ذلك في رسم حدود رمزية بينهم وبين المواطنين الأصليين ويترتب على ذلك العديد من عمليات الدعم والتضامن والتسامح أو الاقصاء والتمييز والكراهية في بعض الأحيان ما ينعكس بالنهاية على إعاقة عملية الاندماج. وقد تكون هذه الحدود الرمزية موجودة لدى المجتمع المضيف بشكل أكبر من اللاجئين أنفسهم وهذا يولد آثار سلبية على اللاجئين أحياناً مثل ظهور التوترات الاجتماعية وبعض الحالات العدائية تجاههم وانطوائهم على أنفسهم، والنتيجة بقاء اللاجئين يعيشون على هامش هذا المجتمع دون الانخراط فيه بشكل كبير. أخيراً قد يسهم اللاجئون ذاتهم في رسم هذه الحدود الرمزية من خلال الحفاظ على درجة عالية من التواصل مع اللاجئين الآخرين وتكوين مجتمعات خاصة بهم، كما هو حال اللاجئين السوريين في تركيا، والابتعاد عن التواصل بشكل كبير مع المجتمع المضيف هرباً من العقبات التي يواجهونها خلال ذلك.

إذا، هناك عدة عوامل تسهم في رسم الحدود الرمزية الافتراضية بين اللاجئين والمجتمع المضيف يأتي على رأسها ما تصدره الحكومات من قرارات خاصة بكيفية التعامل مع اللاجئين والقوانين المطبقة التي تميزهم عن المواطنين الأصليين وشكل الوثائق التي يحملونها من هويات مؤقتة أو بطاقات إقامة ولوحات السيارات التي يستعملونها، ومدى نضج مؤسسات الدولة الرسمية المعنية بالتعامل مع اللاجئين، إضافة إلى العوامل السياسية والاجتماعية والثقافية والنفسية واختلاف العادات والتقاليد واللغة والدين والبعد الجغرافي والتماسك الاجتماعي والتشابه في الصفات العرقية العامة التي تميزهم أحياناً عن المواطنين. في المقابل توجد عوامل تسهم في تلاشي هذه الحدود الرمزية مثل القبول الاجتماعي والتشابه الثقافي وإتقان اللغة والمستوى التعليمي وتركيبة المجتمع المضيف ذاته إذا كان يقوم على التعددية الثقافية أو يتألف من أعراق وثقافات مختلفة قادرة على استيعاب الثقافات الأجنبية الأخرى وصهرها في بوتقته.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات