مخيمات الشمال.. السلاحف لا تستطيع الطيران

مخيمات الشمال.. السلاحف لا تستطيع الطيران
 بلا مبالاة وبسبات عميق ينامون؛ ومن حولهم تلتف الحجارة كأم عطوف تمنع عن فرشهم الماءَ والوحل والطين.

 من يرى هذا المشهد للوهلة الأولى يظن أنه صورة التقطت لبوستر فيلم جديد. هو فعلا منظر سوريالي غريب يشعرك للوهلة الأولى أنه صورة مأخوذة من أحد مشاهد فيلم "السلاحف تستطيع الطيران".

العاصفة اجتاحت المنطقة وحملت بالإضافة إلى الثلج والمطر عاصفةَ ألمٍ تحز القلوب والروح.. تراشقت معها الفيديوهات والأخبار والمناشدات والصراخ؛ لكن ما حفر في صميم روحي هو ذلك المشهد بالذات؛ (الأطفال النائمون الذين لا يفصلهم عن الماء والطين سوى بعض حجارة) 

بعد دقائق مرّ عليّ مقطع فيديو آخر لسيدة أرملة غارقة حتى قدميها وسط الوحل؛ تُحدّث الكاميرا واصفة مأساتها بصوت منكسر "إن المياه قامت باقتلاع خيمتنا، فبقيت دون مأوى أو ملاذ يقي أطفالي البرد القارس، فانتقلت للسكن في خيمة والدتي هنا" وتشير بيدها إلى خيمة مهترئة تكاد تسقط على الأرض أيضا.

تتوالى المقاطع والصور؛ بين عجوزٍ مسنة تتكئ على عكازها شاقة طريقها وسط الخيام، وقد غمر الماء الموحل ساقيها حتى المنتصف.. وامرأةٍ تصيح بأعلى صوتها "إذا كنتم ترضون أن تعيشوا في الظروف التي نحن فيها فنحن نقبل" وتستنجد الناس (الإسلام والعروبة والمنظمات الإنسانية والقرود السود....) وبين صور لنِسوة يحاولْن الفرار بما تبقى من أغراض خيامهن بعد أن اقتلعت الريح تلك الخيام المتهالكة الواهنة...

مَنْ يراقب هذه الصور؛ ويمعن النظر في تفاصيلها هل يستطيع أن يتفلّتَ من فكرةِ أنَّ لكلِّ صورة حكاية عائلة كانت تعيش بأمان معززة مكرمة تحت سقف بيتها، قبل قصف طائرات أسد وحلفائه على مدنهم وبلداتهم...؟ هل يستطيع أن يتجاوز عقدة الناجي التي تصيبه في تلك اللحظة وسيل الأفكار والحزن الذي يعصف به؛ ماذا لو كنت أنا وأولادي مكانهم؟ ويزيد في هذه العقدة سؤال ابنتي التي رأت معي بعض هذه الصور، وسمعت ما سمعتُ : "لماذا يا بابا لا تذهب إلى هناك وتأتي بهم ليقيموا معنا هنا". 

ثم لا ألبث أن أفرغ هذه المشاعر والشحنات بسيل من الشتائم؛ أشتم أسياد الحرب، المنظمات والمجتمع الدولي والمجتمع الكلب، العجز والضعف الذي نحن فيه، أشتم كل شيء.

ثم يزيد الطين بلة بيان أقرأه لمفوضية اللاجئين يحثنا على المساهمة في تأمين هؤلاء المشردين، ولسان حاله يقول "هل يمكنكم تخيل مدى برودة الطقس في مأوى بلاستيكي أو منزل من دون نوافذ مع انخفاض الحرارة إلى أربع درجات تحت الصفر في بعض المناطق؟ هذا هو واقع آلاف العائلات التي تحتاج بشدة لمساعدتكم اليوم. نعمل على مدار الساعة للاستجابة لهذه الحالة الطارئة الرجاء المساعدة الآن".

تتكرر هذه البيانات كل عام، بتكرار المأساة ذاتها، والغريب أنه لا يستجد شيء بين عام وآخر، بينما أقل الناس اطلاعاً واكثرهم سذاجة يعرف المبالغ الهائلة التي تُدفع سنوياً لهذه المنظمات من أجل مساعدة المخيمات وتخفيف آلام قاطنيها، ماذا أنجرتم بها ... لا إجابات مقنعة ولا أحد يجيب أصلاً، حسناً أكلتها "الحوتة" وبقي الناس في وجه الرياح والعواصف لا ستر لهم ولا مأوى، إذ كيف توجه منظمة نداءها إلينا نحن كأفراد لا نملك من أمرنا شيئاً وإن استطعنا تأمين أي شيء فلا يمكن أن يكون ذا قيمة "لا يسمن ولا يغني من برد" لماذا لا يكون النداء إلى الحكومات وإلى الدول المعنية، ماذا لو كان الأمر نداء من أجل تأمين سلاح لمعركة فيها صالحٌ لهذه الدولة أو تلك؛ أجزم أن الحدود ستفتح على مصراعيها وسيدخل سلاح بمئات آلاف الدولارات، أما حين يتعلق الأمر بإنقاذ هؤلاء المساكين المغلوبين على أمرهم، الدافعين ثمن الحرب فعلا من حياتهم وصحتهم وصحة أطفالهم، فلا حياة لمن تنادي. 

في هذه السطور الساخطة سأكون كاذبا إن قلت إنني أكتب لأنقذهم، ربما لأخفف عن نفسي سطوة العجز، وأنزل عن كتفي شعور المسؤولية الحقيقية بتوصيف حالتي تماما، ولا أكذب إن قلت إنني أشعر الآن بالبرد ينخر عظامي، يعشش في داخلي ولا أملك سوى بضع كلمات أكتبها هنا وهناك وأعرف أنها لن تلقى أذناً صاغية، فبعد عشر سنوات من الوجع السوري صرنا نعرف تمام المعرفة أن لا شيء سيتغير ولا أحد يهمه إن بردنا أو جعنا أو تشردنا أو قتلنا أو أكلتنا الكلاب، وهذا الـ"هاشتاغ" سيختفي كما اختفى غيره.. 

أما هؤلاء الموتى الأحياء وسط كل هذا العجز والتخاذل سيتكيفون كما كل مرة مع هذا البرد القارس ويعوّدون أنفسهم على تدفق المياه على رؤوسهم من كل صوب؛ ويمارسون الموت البطيء تاركين لنا قسوة المشهد بعد سقوط عورتنا أمام المرآة.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات