لاجئون سوريون أجبروا على تغيير مهنهم يروون قصص حياتهم العجيبة.

لاجئون سوريون أجبروا على تغيير مهنهم يروون قصص حياتهم العجيبة.
بعد وصول اللاجئين السوريين إلى دول الجوار واللجوء فارين بعائلاتهم من الموت والقصف وبراميل الأسد، واجه الكثير منهم العديد من التحديات، كان أبرزها مسألة إيجاد عمل مناسب يؤمن لهم هدفهم الأساسي الذي تركوا بلادهم لأجله (تأمين قوت أطفالهم في بيئة آمنة)، إلا أن الظروف والواقع في بلدان اللجوء فرض على كثيرين منهم تغيير المهنة التي كانوا يعملون بها في سورية، والانخراط في مزاولة مهن أخرى لتحصيل لقمة العيش. فكيف كانت رحلة هؤلاء مع مهنهم الجديدة؟ وإلى أي مسار أخذتهم؟ وأي تحولات صنعتها في حياتهم؟

مهن محدودة

رغم أن ولاية هاتاي (أنطاكية) كانت من أكثر الولايات التركية التي استقر بها غالبية السوريين في بداية رحلة لجوئهم، إلا أنها تعد ولاية ذات (صناعات ومهن محدودة)، فالمدينة التي يسيطر عليها الطابع الزراعي، تضم بضع مهن فقط يعمل بها غالبية حرفييها، وهو ما وضع حجر عثرة أمام اللاجئين في رحلة البحث عن مهن تناسبهم أو (مهنهم القديمة)، حيث كانت الخيارات قليلة جداً والواقع أجبر الكثير منهم على تغيير مهنته، بسبب حاجته الكبيرة للعمل لتأمين متطلبات حياته اليومية دون أن يمد يده ليطلب المساعدة من أحد.

 

أول خطوة على طريق اللجوء... (إيش وارما؟)

يقول (محمود) وهو لاجئ سوري من مدينة حلب ويقطن في مدينة أنطاكيا لـ أورينت نت، إن "من أولى المقومات لحياة اللاجئ وعائلته هنا في تركيا هي إيجاد منزل وعمل على الفور، فهنا الحياة مكلفة وصعبة جداً لمن ليس لديه عمل، حيث ولدى وصولي إلى أنطاكيا استقريت لبضعة أيام في منزل أقارب لي سنة 2013، ومن ثم استأجرت منزلاً، لقد كان إيجاد منزل للإيجار أسهل بكثير من إيجاد عمل بالنسبة لي، لكوني كنت أعمل في سوريا في مجال (صناعة النوافير) والهياكل الحجرية المصقولة والديكورات المصنوعة من (حجر النحيت)، وهي مهنة غير موجودة في أنطاكيا وربما في تركيا كلها".

وأضاف: "بعد استقراري في منزلي الذي استأجرته حينها بـ 300 ليرة تركية أي ما يعادل (180 دولار أمريكي) حينها في حي (حبيب النجار) المتواضع، بدأت رحلة بحثي عن عمل، قام أحد الجيران الأتراك بإرشادي عن طريقة وصولي إلى المدينة الصناعية، كان يجول في مخيلتي أن المدينة الصناعية من المفترض أن تحوي جميع المهن، بدأت بالتجول في شوارعها المعروفة باسم (الجادات)، كنت أبحث عن مهنتي التي كنت أعمل بها، إلا أنني لم أجدها كانت غالبية المصانع والورش هنا تعمل في مجال الأخشاب وصناعة الموبيليا، إضافة لمحلات أخرى تعمل في مجال تصليح السيارات وبيع قطعها".

 

وتابع: "وجدت نفسي مضطراً للعمل بعيداً عن مهنتي التي أتقنها، إلا أن المشكلة هي أنني عدت (صانعا لا يعرف شيئاً)، رغم أنني كنت (رب عمل) في مهنتي. كانت أولى الكلمات التي حفظتها في تركيا (إيش وار ما؟) أي بما معناه هل لديك عمل؟، كان البعض يقولون لا والبعض الآخر يشتكون الحال، وشريحة أخرى يسخرون مني ويطلبون مني العودة إلى بلدي، كان الغالبية يتكلمون معي بالعربية (الثقيلة)، وبعد جهد وعناء وكثير من السؤال، وافق أحد أرباب العمل في مجال صناعة الأحذية على تشغيلي لديه، وعند سؤاله عن الأجرة أخرج الآلة الحاسبة وكتب لي (160) ليرة تركية، إلا أنني لم أفهم أن هذا المبلغ سأتقاضاه خلال أسبوع أو يوم، لم أكن على اطلاع كافٍ على فرق سعر العملة بين سوريا وتركيا، فاستعان رب العمل بأحد الأشخاص العرب، ليخبرني أن هذا لقاء عملي لمدة أسبوع. كان الحساب على الدولار، كان مرتبي الشهري يعادل 90 دولار أمريكي، وجدته جيداً حينها، وعليه بدأت عملي لديه وبقيت أعمل في نفس المكان لمدة 3 سنوات، ورغم الصعوبة في البدايات إلا أنني تأقلمت مع عملي الجديد، وبت ماهراً فيه، وكنت أتلقى زيادة سنوية مقدارها 100 ليرة تركية على مبلغ الأجرة الأسبوعية، أي وبعد مرور 3 سنوات، بت أتقاضى نحو 350 ليرة تركية وهو مبلغ جيد، والآن ما زلت أعمل في مهنة الأحذية بمرتب أسبوعي يبلغ 500 ليرة تركية، وأستلم قسم (التنظيف والأمبلاج) كاملاً، رغم أنني ما زلت أحتفظ بمهنتي الأساسية وأتقنها وأحن إليها أيضاً".

 

أبو علي ... من منضدة المدرسة إلى منضدرة الخضار

تغيير المهنة لم يقتصر على أصحاب المهن اليدوية أو الحرة فحسب، بل امتد ليشمل موظفين حكوميين ومعلمي مدارس وغيرهم، فرحلة اللجوء لا تعرف كبيراً أو صغيراً موظفاً أو عاطلاً، حيث يستوي الجميع في ذلك البلد ويطلق عليهم نفس الاسم (لاجئون).

 

ويروى (أبو علي) وهو رب أسرة سوري في الخمسينيات من عمره ومعلم سابق في (ثانوية المأمون) الشهيرة في حلب مشواره مع مهنته الجديدة التي فرضها عليه اللجوء لأورينت نت فيقول: "قدمت إلى أنطاكيا قبل 10 سنوات، بعد أن أصدر نظام أسد قراراً بفصلي من عملي، والسبب في ذلك هو أنني أنحدر من مدينة (مارع) الثائرة، وقد وجدت نفسي بعدها دون أي مورد. حاولت بداية العمل في مدينتي في مجال (تصليح ولف المحركات) كوني أمتلك خبرة في هذا المجال إلى جانب عملي في التدريس، إلا أن الوضع كان يضيق أكثر فأكثر ليبلغ ذروته أواخر العام 2014، عندما تشكلت ميليشيات قسد وبدأ نظام أسد يقترب مرة أخرى من ريف حلب الشمالي، لم يكن أمامي خيار سوى ترك المنطقة، توجهت بداية إلى ريف إدلب، ومكثت فيها هناك لمدة عام تقريباً، وبعدها قررت المغادرة إلى تركيا، والهدف الأول من ذلك هو تأمين لقمة العيش بعد أن تقطعت بنا السبل. وصلت إلى أنطاكيا مطلع العام 2016، كانت الأمور في تركيا آخذة للاستقرار نوعاً ما بما يخص اللاجئين، كان هناك العديد من الجمعيات والمنظمات وحتى المدارس السورية".

 

وأضاف: "حاولت في البداية أن أكون في نطاق تلك المدارس وأن أعود لمهنتي الأساسية ألا وهي التدريس، إلا أن ذلك لم يحدث، حيث اكتشفت أنه وفي حال أردت أن أكون مدرساً، يجب علي أن أكون قد أتممت (دورة إعداد مدرسين) تجريها في العادة إحدى المنظمات هنا، هذا بغض النظر عن (الواسطة الثقيلة) وأن أكون من أقارب هذا أو ذاك، وهنا سرعان ما أيقنت أنني لن أستطيع أن أزاول مهنتي، وبدأت بالبحث عن مصدر رزق لي ولعائلتي، ولكون لدي خبرة في مجال (لف المحركات والإلكترونيات)، تمكنت بعد جهود مضنية من إيجاد محل يعمل في هذا المجال، وعملت بداية لديه بمرتب أسبوعي قدره 125 ليرة تركية، وبقيت على هذه الحال لمدة 6 أشهر، ثم وجدت أن تلك الأجور لم تعد تكفيني، وعندما طالبته بزيادة طردني من عملي واتهمني بأنني "متكبر ومتعجرف ولا أقدر النعمة)".

 يتابع (أبو علي) حديثه ليقدم لنا صورة عن تبدل الأقدار التي عصفت بحياة ملايين السوريين: "وجدت نفسي مرة أخرى بلا عمل، وبدأت مرة أخرى رحلة البحث عن عمل، واستقر بي الحال في (سوق الهال)، نعم السوق الذي يبيع الخضار، عملت بداية لدى أحد (تجار الجملة)، كنت أخرج كل يوم في الثالثة فجراً واتجه إلى السوق من أجل إفراغ حمولة الشاحنات التي تأتي إلى (السوق)، وأعود في تمام الواحدة بعد الظهر إلى المنزل، لقاء أجر يومي قدره 50 ليرة تركية، كنا نفرغ خلال هذه المدة نحو 6 - 8 شاحنات يومياً، كان العمل شاقاً على شخص في مثل عمري، في النهاية قررت أن أفتتح مشروعي الخاص المتواضع، وهو عربة أبيع عليها الخضار في السوق. الآن.. وفي ظل هذا الغلاء الفاحش الذي نعيشه في ظل تفشي وباء (كورونا) ما أجنيه يومياً بالكاد يسد الرمق، وبالكاد أستطيع تأمين احتياجات عائلتي المكونة من 5 أشخاص".

 

نقلة نوعية.... وصدفة "خير من ألف ميعاد" 

رغم أن تغيير المهنة أثر في غالبية الأحيان بشكل سلبي على حياة الأشخاص الذين غيروا مهنتهم، إلا أنه وفي بعض الأحيان شكّل نقلة نوعية لهم، وجعل حالهم أفضل بكثير مما كانت عليه مع مهنهم الأصلية، لا سيما إن كان التغيير قد فتح أفاقاً أوسع لهم في بلد اللجوء، كما حدث مع (براء) الذي بات يعمل في تصريف العملات وأصبح بحال أفضل بكثير مما كان عليه في سوريا، فـ (براء) الذي كان يعمل كـ (مستخدم) في مديرية الزراعة بمحافظة حماة، تحول إلى أشهر (صرافي العملة)، وافتتح لنفسه مكتباً إلى جانب عمله في مجال بيع الهواتف النقالة.

 يقول (براء) في حديثه لـ أورينت نت، إن "عمله في مجال تصريف العملات والحوالات كان محض مصادفة، وكانت بدايته عن طريق طلب أحد معارفه في مرسين ممن يعملون في هذا المجال تسليم مبلغ مالي قدره 450 ليرة تركية لامرأة في أنطاكيا، على أن يقوم بسداده له عندما يأتي في الولاية، وقد تكفل ذلك الشخص بدفع جميع التكاليف إن وجدت".

 

وتابع: "من هنا لاحت لي فكرة العمل في هذا المضمار، لقد كنت أعمل في بداية وصولي إلى هنا كـ (عامل حر)، أي أنني أعمل في كل المجالات أو ما تتيحه لي الظروف، ثم وبعد طلب صديقي تسليم المبلغ، وجدت أن الأمر جيد، وهنا اتفقت مع صديقي على أن أكون (فرع مكتبه) في أنطاكيا، ووافق معي على الأمر، وكان الاتفاق أن يتم الحساب بيننا كل أسبوع، ويتم تقاضي مبلغ على كل حوالة قدره 10 %، وتشمل هذه التكلفة جميع العملات سواء ليرة تركية أو دولار أو يورو".

 

بعد مرور 8 أشهر فقط، تمكن براء من استئجار محل وقرر أن يشتغل بتجارة الهواتف المحمولة المستعملة بداية إضافة للحوالات، وعن كيفية نمو مشروعه هذا يقول لنا:  "بعد مدة أخرى قمت بجلب الاكسسوارات إلى جانب بعض الهواتف الجديدة، وبدأ عملي يتوسع، ووتيرة البيع تزداد، والآن بت أملك محلاً لبيع الهواتف ومستلزماتها إضافة للخطوط"، مشيراً إلى أن ذلك كان بتوفيق من الله وكرمه، وأن لكل مجتهد نصيب، وأنه يقولها بكل صراحة ودون خجل "دخوله إلى تركيا غير حاله من الأرض إلى السماء، وأنه سعيد لأنه بات يملك مشروعه الخاص"، لافتاً إلى أنه الآن يريد شراء سيارة لأنه كان يحلم أن يمتلكها منذ أن كان مستخدماً في حماة".

 

ثلاثون عاماً هباءً منثوراً

أما (أبو حسين) وهو السوري الخمسيني اللاجئ وعائلته في أنطاكيا، لم تشفع له ثلاثون سنة خدمها في قصر العدل بحلب، و شغل بها مناصب عدة كان آخرها (مساعداً عدلياً)، في الحفاظ على حاله، إذ يعمل (أبو حسين) حالياً في مجال البناء (معمرجي)، وبأجر يومي لا يتجاوز 70 ليرة تركية، أي ما يعادل نحو 9 دولارات".

يقول (أبو حسين) في حديث لـ أورينت نت: "وصلت إلى أنطاكيا من ريف حلب الشمالي مطلع العام 2013، تاركاً خلفي 30 عاماً من الخدمة في قصر العدل بحلب، ونحو 6 أعوام قضيتها في كلية الحقوق التي خرجت منها بشهادة جامعية، اكتشفت أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح. هنا اكتشفت أنني يجب أن أكافح وأقاتل من أجل تحصيل لقمة عائلتي، وصلت إلى هنا وقطنت منزلاً آيلاً للسقوط في حي (حبيب النجار) الفقير، ومنذ وصولي أدركت أنه لا أمل لي بالعمل في نفس مجال عملي واختصاصي، ولا حتى في الحلم، فخرجت قاصداً المعامل والورش".

وتابع: "في البداية عملت في ورشة للموبيليا، ولكن كان هناك (مأساة) بالنسبة لي، أن يقوم مراهق في الثامنة عشرة بإملاء الأوامر علي، أعلم أن ذلك التفكير غير مناسب في تلك الظروف، إلا أنني لم أستطع تقبل الأمر، وتركت العمل بعد شهرين فقط، وبدأت أبحث عن عمل فيه احترام لجهود العامل على أقل تقدير، ثم تعرفت أحد (عمال البناء)، واتفقنا على العمل معاً، وبدأت بالعمل كـ (مساعد له)، أحضر له الإسمنت وأجهز له الأدوات وغيرها، وهنا تعرفت إلى العديد من أرباب العمل الأتراك في هذه المهنة، وبت الآن ذائع الصيت بينهم، ورغم أن مهنتنا تعد (حرة بعض الشيء)، إلا أنها تحوي الكثير من العقبات، ابتداءً من الظروف الجوية في فصل الشتاء، وانتهاءً بالإرهاق الذي نصاب به حتى نهاية اليوم".

ووجه (أبو حسين) كلمة لجميع السوريين في تركيا قائلاً: "من المهم أن يحافظ الإنسان على عزته وكرامته كي يتمكن من العمل، هذا آخر ما نجونا به من بلاد دمرها وما زال يدمرها نظام وحشي بربري لا يعرف للإنسان حقوقاً أو قيمة أو كرامة، فليس من المعقول أن نفرط بها، وسوى ذلك الرزق على الله، والله يكتب فرصة في كل مكان".

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات