رحيل أديب سوري عاصر رؤساء سوريا جميعاً واعتقل في زمن أسد!

رحيل أديب سوري عاصر رؤساء سوريا جميعاً واعتقل في زمن أسد!
عن عمر يناهز 91 عاماً أسدل الستار عن حياة واحد من أبرز الأدباء الروائيين السوريين الذين أنجبتهم مدينة حلب في القرن العشرين، إنه الأديب فاضل السباعي بعد ما يقارب من سبعة عقود قضاها متنقلا بين كتابة القصة القصيرة والرواية والبحث التاريخي والنقد الأدبي والمقال الصحفي.

 

رحل السباعي وحيداً وبصمت، تاركاً وراءه إرثا أدبياً غزيراً خلال مسيرته الأدبية التي بدأها منذ خمسينيات القرن الماضي حين نشر كتاباته الأولى في مجلتي (الأديب) و(الآداب) اللبنانيّتين البارزتين.

من "زقاق الزهراوي" بالقرب من الجامع الأموي الكبير في حلب، ولد السباعي في 1929 في منزل كان قد سكنه عمر بن عبد العزيز والي حلب في زمن الأمويين، وعاش طفولته في ظلم بعد زواج والده بامرأة ثانية، وهو ما تحدث عنه في قصته "صغير على الهم" في كتابه "الألم على نار هادئة".

وبعد الحصول على الشهادة من ثانوية المأمون في حلب، توجه السباعي إلى القاهرة وحصل على إجازة في كلية الحقوق في 1954، ليعود إلى حلب ويبدأ بمزاولة مهنة المحاماة، ليطير في 1966 إلى دمشق التي أحبها وتغنى بها في كتاباته.. وغدا بيته في جادة نوري باشا بحي المهاجرين معلماً من معالم حياته الأدبية.

وكان السباعي قد عمل في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، والمكتب المركزي للإحصاء، وشغل منصب مدير الشؤون الثقافية في جامعة دمشق، كما عمل في مجال حقوق الإنسان، وكان معنيا بالتراث الإنساني وكان عضوا مؤسسا في اتحاد الكتاب العرب عام 1969 قبل أن يتحول إلى مؤسسة أمنية هدفها تدجين الأدب ومحاربة الأدباء الذين يتمردون على طقوس الذل والاستجداء التي طبعت الحياة الأدبية في عهد الأسد الأب والابن.

في عام 1982 طلب فاضل السباعي، بعد قيام حافظ الأسد باعتقال العشرات من زملائه المحامين وحل النقابات المهنية، إحالته إلى التقاعد من آخر وظائفه في الدوائر الحكومية إذ كان يشغل منصب مدير في وزارة التعليم العالي لكي يتفرغ للكتابة والنشر، ويؤسس دار أشبيلية للدراسات والنشر والتوزيع التي طبعت أعماله وأعمال سواه من الأدباء السوريين.

وخلال مسيرته الأدبية أصدر السباعي العديد من القصص والروايات، كان أبرزها ما كتب عن إبراهيم هنانو في ثورته ومحاكمته في 1961، ثم رواية "ثم أزهر الحزن" التي لاقت صدى كبيراً في 1963 والتي تناولت تجربة الوحدة المهمة في تاريخ سوريا ومصر وقدمت في عمل تلفزيوني من إخراج علاء الدين كوكش عام 2002، ورواية "الألم على نار هادئة" في 1985، إلى جانب عدة مؤلفات لعدد من قادة التاريخ الإسلامي مثل طارق بن زياد وعقبة بن نافع وموسى بن نصير وعمرو بن العاص وعمر المختار في 1975.

ولاقى رحيل السباعي ردود فعل لدى الكثير من الكتاب السوريين، إذ قال الكاتب والباحث السوري محمد منصور عبر صفحته في "فيسبوك": "رحل فاضل السباعي... الأديب السوري الكبير وابن مدينة حلب الذي عاش ما يقارب القرن من الزمان، فقد ولد في حلب عام 1929 في عهد الانتداب الفرنسي... وتفتح وعيه الأول على عهد الاستقلال، ثم عاصر كل رؤساء الجمهورية الذين تعاقبوا على حكم سوريا، وصولاً إلى حكم العصابات والمجرمين القتلة في عهد المجرم حافظ الأسد ووريثه بشار".

ووصف منصور السباعي بأنه "كان الأديب والمحامي والكاتب المؤسس مسكونا بالروح السورية.. انتمى إلى حلب وكتب عنها ولها.. لكنه أحب دمشق وكان مساهما بارزا بالكتابة عنها في عهود ازدهار الصحافة الورقية والثقافية خلال النصف الثاني من القرن العشرين كله.. فكان قلمه عنوان التعريف بالمكان والزمان والشخصيات السورية البارزة كما نرى في كتاباته الهامة عن إبراهيم هنانو. واستلهم المخرج علاء الدين كوكش رواية فاضل (ثم أزهر الحزن) التي تحولت إلى مسلسل بعنوان (البيوت أسرار) اختزل نكهة البيئة الشعبية الحلبية".

فيما أكد الباحث والمترجم البارز عمرو الملاح في منشور على صفحته الشخصية: "لقد كان أديبنا الكبير الأستاذ فاضل السباعي قامة أدبية سامقة، تبوأت مكانة مهمة في عالم الأدب الروائي والقصصي ليس في سوريا فحسب، وإنما في العالم العربي أيضاً، وبرحيله يفقد المشهد الثقافي السوري أحد رموزه التنويريين.

ومضى الملاح إلى القول "وداعاً أيها الأديب الجليل، والأستاذ الكبير، والإنسان العظيم المتواضع، وصاحب الفكر المستنير والقلم الحر المسكون بحب الوطن وهموم الناس".

السباعي وتفتح الأزهار

ورغم أهمية فاضل السباعي الأدبية واعتباره بأنه علامة روائية سورية مهمة، استطاع أن يترك أثراً في الساحة الأدبية محلياً وعربياً، إلا أنه لم يلق اهتماماً وتقديراً كبيراً داخل سوريا بسبب تهميش حكومة أسد له ومنع دور النشر من طباعة أي رواية أو كتاب له.

وكثيراً ما أبدى السباعي غضبه وحزنه من تهميش كتاباته، إذ قال عبر صفحته في "فيس بوك" في يوليو/ تموز الماضي، "أشهد أن المجلات العربية بأرقى مستوياتها ترحب بنتاجي الأدبي، وعتبي على "النظام" الذي أخمل ذكري وعلى "دور النشر" في هذا الزمن الأغبر".

في حين أكد منصور أن شهرة السباعي كانت أقل مما جسده من قيمة، إذ قال "كان فاضل السباعي الممتلئ علما ومعرفة ورقيا وحيوية جديراً بأن يمثل حلب وأن يكتب بحب عن دمشق، وأن يكون وجهاً ثقافياً سورياً يمثلنا.. لكن شهرته كانت أقل مما جسده من قيمة".

وأرجع منصور ذلك إلى "ظل الحكم الظلامي الهمجي (حكم عائلة أسد) الذي قتل حيوية المجتمع والثقافة حين اغتال الصحافة وهمش الثقافة وحول المثقفين إلى أدوات، لكن فاضل السباعي ابن العائلة العريقة والذي عاصر عهود الحرية كلها لم يستسغ أن يكون أداة لا قبل ولا بعد.. فاتهمته إحدى الكاتبات الإذاعيات الممتلئة طائفية بأنه يدعم الإرهابيين كما قرأت في منشور لها قبل سنوات".

وامتازت روايات السباعي بنقل ما يجري في المجتمع السوري بدقة من فساد وقهر وظلم في عهد حافظ وبشار أسد، إذ كان مدافعاً عن حقوق الإنسان ودعا إلى عودة مؤسسات المجتمع المدني.

ويقول في مقابلة مع صحيفة "القدس العربي" "عندما تصبح الكلمة خبز الكاتب اليومي، فإنها إذن الوسيلة التي يُعبّر بها عن احترامه للإنسان وتوجّهه نحو الحرية. وأعتقد أني مارست ذلك منذ البداية: احترام الإنسان بالاستجابة لأوجاع المتعَبين تطلُّعاً لحياة أفضل، والدفاع عن المضطهدين في كل المعمورة".

وفي 1980 وبعد اجتماعه بطلاب كلية الآداب اعتقلت مخابرات أسد فاضل السباعي الذي تحدث في مقابلة مع "القدس العربي" في 2016 عن ظروف الاعتقال بالقول "اقتادوني يومها إلى زنزانة منفردة في معتقل باب مصلّى في دمشق، نمت على البلاط ونحن في عز الشتاء، بطانية تحتي وملتحفاً بأخرى، وكانتا في غاية القذارة، بعد الإفراج عني قلت، في إحدى الإذاعات الناطقة بالعربية فكأنهم يريدون لسجين الرأي أن يموت من القهر والبرد والجراثيم".

ودفع الاعتقال السباعي إلى فكرة كتابة قصة حملت عنوان "بدر الزمان- حكاية أسطورة"، لكنه قرر الاحتفاظ بها بين أوراقه حتى عام 1992، لنشرها وتترجم عقب ذلك إلى الإسبانية.

ولم يثن الاعتقال السباعي عن استمراره في محاربة الاستبداد، إذ كان ضمن مئات المثقفين السوريين والكتاب الذين وقعوا على عريضة “ربيع دمشق” للمطالبة بالإصلاحات، كما دافع عن ثورات الربيع العربي التي بدأت في 2010 ووصلت رياحها إلى سوريا في ثورة آذار 2011.

واعتبر أنه "ما حل الربيع في الأوطان العربية إلا لتراكم الظلم والظلام، وقد كان الظُّالمون يُحكِمون قبضاتهم على شعوبهم. ومرة أخرى لا علينا إن حققنا اليوم الأحلام أو حصدنا الخيبات. فإنّا نكون بنهوضنا قد أكّدنا أننا أحياء، وأننا في تطلّعنا أحرار، إذا أخفقنا هذه المرة فسوف ننجح في مرة أخرى. نعم، قد نخسر حياتنا اليوم، ولكننا نكون قد أورثنا الأمل للجيل القادم".

وغادر السباعي دمشق إلى الولايات المتحدة الأمريكية قبل أن يعود إلى معشوقته في 2015 ويستقر فيها، ويبدأ بانتقاد ميليشيا أسد والنظام عبر منشوراته في "فيس بوك"، إذ قال في إحداها "أيها النظام، كيف يَغمض لك جفن وأنت ترى نصف شعبك قد غادر يصحبون معهم الذكريات الأليمة!"، و"يا سيدي النظام لو أنك أعرتَنا سمعَك قليلا.. يومَ ناشدناك الحرية، لما هَجَر الملايين منازلهم وتفرقوا في أنحاء الدنيا".

كما انتقد وهاجم ميليشيا أسد خلال قصفها على إدلب في الشمال السوري في الأشهر الماضية بالقول "سيدي النظام أنت، والميليشيات الصفوية، وكورونا.. على إدلب؟ تذكرنا بأغنية عبد الوهاب: انت وعزولي وزماني حرام عليك، لكن مع دمع لا يكفكف"، و "يا سيدي النظام البلدات، التي تقصفها في أرياف إدلب الجميلة، يرحل عنها أهلوها وإلى أين؟

رحل السباعي بعدما توقع أن تفضي ثورات الربيع العربي إلى عهد جديد يحمل شعار "دع الأزهار تتفتح، الذي كانت الصين أعلنته في الستينيات ثمّ انغلقت دونه"، معرباً عن أمانيه أن تفضي إلى "حرية ثقافية، وحرية اقتصادية، والقانون يحمي الجميع ويراقبهم من العبث والاستغلال. ومحاسبة عادلة لكلّ من ارتكب ويرتكب الخطأ. لا مكان للتعصّب والتزمّت. يتوقف قهر المرأة، وتملأ البسمات وجوه الأطفال. الريف يأخذ حقه من الرعاية. ضمان اجتماعي وصحي للمواطنين"، بحسب كلامه للصحيفة.

رحل السباعي وكثير من جيل الشباب لا يعرف اليوم شيئا عن أدبه كما الكثير من أدباء سوريا الكبار، بحسب الكاتب محمد منصور، الذي أعرب عن أمله أن "نتمكن يوماً من إنصاف هؤلاء وتخليد ذكراهم في ذاكرة الأجيال".

فيما نشر صديقه الكاتب الصحفي صبري عيسى صورة معه في باحة بيته الدمشقي وكتب يقول:

"إن الأستاذ فاضل السباعي قامة إبداعية كبيرة بحجم وطن. الكباد حزين اليوم في حديقتك أستاذنا وكبيرنا وأديبنا الكبير فاضل السباعي ولن يظلل قامتك الشامخة كل يوم وأنت ترعاه بعنايتك وتكاد لا تخلو معظم صورك مع الكباد الأصفر النقي، ونحن نشارك الكباد حزنه على غيابك لكن العزاء فيما تركته لنا من أعمال إبداعية خلال مسيرتك".

التعليقات (1)

    ياسر منصور

    ·منذ 3 سنوات 4 أشهر
    الله يرحمه ويغفر له.
1

الأكثر قراءة

💡 أهم المواضيع

✨ أهم التصنيفات