منها العتابة والمواويل.. إضاءات على التراث الغنائي في الجزيرة السورية

منها العتابة والمواويل.. إضاءات على التراث الغنائي في الجزيرة السورية
تمتاز الجزيرة السورية بتنوع حضاراتها وثراء تاريخها الغنائي والموسيقي الموغل بالقدم، المستمد من تنوعها العرقي والإثني ما أكسبها تراثًا فنيًا متنوعًا، ونشأت ألوان من الغناء الشعبي كالمواويل والغناء الخاص بكل حالة نفسية من الفرح إلى الحزن إلى الحب والحنين، كما تنوعت في دبكاتها ورقصاتها.

يحافظ سكان الجزيرة السورية، الممتدة من ضفتي الفرات حتى نهر دجلة، على إرثهم الحضاري والثقافي الممتد إلى (أورنينا) أول مغنية في التاريخ التي وجد تمثالها في مملكة ماري القريبة من الجزيرة، وتتأثر أغانيهم وأهازيجهم وتؤثر بالإقليم، فنجد التراث الغنائي في جنوب الحسكة وريف دير الزور يتأثر بالفن العراقي الذي يمتاز بأصالته، نظرًا للارتباط الجغرافي والاجتماعي بين عشائر المنطقة، فيما يميل غناء سكان ريف الحسكة والرقة الشماليين للتأثر بالفن الكردي والتركي والأشوري والأرمني، حتى إن بعض الأغاني تجدها غنية بألفاظ كردية وتركية وأرمنية وسريانية، وكذلك الأمر بالنسبة للرقصات والآلات الموسيقية.

امتاز التراث الغنائي في الجزيرة السورية بالمواويل المتنوعة، المعبرة عن حالات المجتمع المزاجية والنفسية، فكان منها العتابة التي تتألف من أربعة أشطر  الثلاثة الأولى تكون ذات قافية واحدة بينما الرابع ينتهي بألف أو باء، أما إذا كان الرابع حرًا فتسمى (أبوذية)، فإذا عبرت العتابا عن الحزن والفراق سميت (فراقيات)، أو عن الحب والغزل تسمى (هواويات)، وأكثر ما يرافق غناء العتابة العزف على آلة الربابة التي تعد جزءًا أصيلًا من تراث الجزيرة، ومن أشهر شعراء العتابة عبد الله الفاضل في حنينه وعتبه على أهله عندما تركوه وحيدًا مع كلبه يصارع الموت بعد إصابته بمرض الجدري، ومما يقول:

هلك شالوا على مكحول يا شير  وخلوا لك عظام الحيل ياشير 

لون تبجي طول العمر ياشير     هلك شالوا على حمص وحما 

9KVxOFl1eKg

من أنواع المواويل أيضًا (النايل) تعود تسميته إلى النيل وهو اللون الكحلي المائل للسواد كناية عن شدة الحزن، ويتميّز النايل بحزن لحنه ونظمه السهل، وورنه أكثر سهولة،ويسمى المُطوّح ،و عروضيا هو من منهوك البحرالبسيط وعروضه : مستفعل فاعل في الشطر الاول ومستفعل فاعل في الشطر الثاني.ويكون المطوح ملازما لبيت العتابا بالمعنى تعقيبا ، أو توضيحا، أو توكيدا ومنه قول الشاعر:

مناحر فجوج الخلا      ياريم وين تريد   

هيّمتنا ع الولف          بأول ليالي العيد 

ومن أنواع المواويل نوع (السويحلي)، الذي يتميز بكلماته القليلة والمختصرة إلا أنها بالغة التأثير، وعادة ما يكون موضوعه العشق وحديث النفس ومحاكاة طيف المحبوبة وهو مؤلف من شطرين تكون قافية البيت في منتصف الشطرين، ومثال على ذلك:

حبر من الدموع   مكتوبكم يازين

من بين الضلوع   نار الفراق تزيد 

كما اشتهرت البيئة الجزراوية بمجموعة من الأغاني الشعبية التي تعبر عن حالة الفرح والحزن التي يمر فيها مجتمع هذه المنطقة من هذه الأغاني (الموليّا) وتنتشر على مجرى الفرات وخاصة في الرقة، وهي مشتقة من المولوية وهي أحد أنواع الفن الصوفي استقر في المنطقة نتيجة رحلات التجارة النهرية بين تركيا وخليج البصرة (مسار نهر الفرات) حيث اختصرت الموليّا الى أربعة اشطر عما كانت عليه في المولويه، الأشطر الثلاثة الأولى متشابهة أما الرابع فمختلف وينتهي غالباً بحرف الياء أو الهاء وهي كما العتابة تأخذ البحر البسيط في وزنها :

الريمة الجاتلية صبّاغ بالنيلي   

 لبست ثويب أحمر ماتقبل النيلي 

قالت ما أريد العفن لولو يبنيلي 

قصر وفضة وفوق القصر عليّة

تغنى الموليا على بعض الآلات الموسيقية مثل الدف والمزمار والربابة، و أشهر من غنى الموليا: خلف الفرج، حسين الحسن ووالده ومن شعرائها الشاعر محمود الذخيرة.

اشتهرت الجزيرة كذلك بنوع (الميجنا) الفراتية، ويظن البعض أن الكلمة جاءت من كلمة (المي جانا) كناية عن فيضان النهر، وهي تتألف من أربعة أشطر الثلاثة الأولى بقافية واحدة والأخير ينتهي بنون والف:

يا ظريف الطول غيرك من إلي 

وان سقوني الصبر من إيدك حلي 

من بعد ما كان السلام مواصلي 

يا حسرتي صار الورق مرسالنا 

وعرفت أغنية (أبو رديّن) والتي تعني الكم الواسع وهو بالعربية (ردن)، أو هي تحريف لكلمة ردنية وهي المسدس الفرنسي الطويل الذي كان يوضع على الخصر، كما اشتهرت (على المايا) وهي المرأة الجميلة على ضفاف الفرات، ومن أشهر من غناها الفنان ذياب مشهور الذي ذاع صيته بعد مشاركته في مسلسل (ملح وسكر) الذي عرض في عام 1973.

aIwglDAYbN4

وقد اختصت كل مناسبة بفن غنائي خاص بها مثل فن الزفة أو ما يعرف بـ (العد) وهي أهازيج تغنيها امرأة معروفة بصوتها الجميل وترد خلفها باقي النسوة في مناسبات الأعراس والخطبة، وسمي هذا اللون بالعد نسبة الى الإعادة أي تكرار الأهزوجة خلف تلك الفتاة، ومثال عليه:

قومي يا (اسم العروس) قومي لا يعرونج مربوعة    محلّف عليج (اسم العريس) ألا تجي حفيانه

قومي يا(اسم العروس) قومي عدلي التراجي مالن     أنتي عشقتي وخذيتي واليعيرونج عالن.

وفي حالات الحزن والعزاء تعّبر النساء عن حزنهن بنوع من الرثاء، وهو لون غنائي ملحمي يسمى (التنعية)، ويقوم على اجتماع النساء في بيت المتوفى عند الدخول لخيمة التعزية والجلوس بجانب أقارب المتوفي، ويبدأن بالندب والتنعية وسط بكاء الحاضرات، ومنه:

أني هايمه والقلب هايم     حزين قلبي على ذيج الجهايم 

وإذا كان المتوفى شاباً أو ذو شأن في المجتمع تبنى (المعادة) وهي الرد خلف المُنعيّة، سميت بالمعادة للتفريق بينها وبين العد الذي يكون في الفرح مع اللطم وقص الشعر وشق الثياب أحيانا ومن أمثلة المعادة:

ألواني ياعشب الربيع الواني   السن يضحك والقلب حزناني 

كل من سقاه البين فنجان قهوة  وآني من أُثم الجود أرواني 

انكاد يسنوني تريدن الضحك   لَحدِر عليكن من حجر صوّاني

وانكاد يا عيوني تريدن الكحل    لَحدِرعليكن مروّد العمياني

وعرفت الجزيرة إلى جانب الألوان الغنائية السابقة فن المديح الصوفي الممزوج بالعتابا في بداية المديح، حيث يقوم المدّاح وهو صاحب صوت عذب بالإنشاد مع آلة الدف، وتطغى حالة من الطرب على الحاضرين حتى ترى البعض يفقد السيطرة على نفسه ويبدأ بالتمايل والصياح تسمى هذا الحالة محلياً بـ(الجذب)، ومن المدائح المعروفة:

لدير الزور المحمية دزينا فزاع    هذولة جدودي بالمحنة يشكون الكاع

دفزع يابو الحربية وشدلها عنان    والكدها بيوم المحنه ودش الميدان 

كما عرفت الجزيرة ألوانًا من الغناء، كذلك عرفت ألوانًا من الدبكات والرقصات الخاصة بكل نوع غنائي وتمايزت بين منطقة وأخرى في الجزيرة، ومن أنواع الرقصات (الدحة) المعروفة عند قبائل البدو، وهي عبارة  عن أبيات شعرية تقال في تمجيد القبيلة والعريس تغنى بطريقة استعراضية  يقوم بها رجلين أو أكثر من فرسان القبيلة باستخدام السيوف والعصي ولكن مع استقرار البدو وظهور الدبكات بدأ يختفي هذا النوع من الاستعراض. 

وتنتشر في الرقة ودير الزور دبكة (الجولاقية) التي تتميز بإيقاع بطيء وكسرة أرجل وكتف ثقيلة مع ثلاث ضربات إلى الأمام وضربة للخلف، وهناك دبكة (الزوري) معروفة لدى أبناء دير الزور والحسكة وهي ذات إيقاع أسرع وتتكون من ثلاث كسرات خفيفة مع هز الأكتاف.

في ريف القامشلي يوجد دبكة تسمى (دبكة عربية) شبيهه بالزوري لكن ذات إيقاع أسرع منها، وكلما اتجهنا نحو الحدود التركية حيث الكثافة الكردية تزداد سرعة الدبكة متأثرة بالفن الكردي، وربما سميت دبكة عربية للتفريق عن الدبكة الكردية وتستخدم فيها آلة البزق الكردية بكثرة، كما تشتهر في الجزيرة دبكة (الجوبي) وتكون بهز الأكتاف مع تقديم الرجل اليسرى وإرجاعها ثم اليمنى وذلك بالتناوب.

من أشهر فناني الدبكات عمر سليمان ابن منطقة رأس العين، الذي وصل إلى العالمية عبر إحياء حفلات في مختلف دول العالم، حتى وصل عام 2013 إلى ذروة الشهرة بمشاركته في إحياء حفل توزيع جوائز نوبل عام 2013، وذلك بفضل غناءه الممزوج بين العربية والكردية وكذلك إيقاع موسيقى أغانيه اللافت.

yGbThoV1E6g

تستخدم في الجزيرة السورية عدة آلات موسيقية، وهي تختلف باختلاف اللون الغنائي، وتمتاز الرقة ودير الزور بغلبة الطابع العربي الشرقي على آلاتها مثل الربابة والماصولة والناي والدف، فيما نجد في الحسكة آلات كردية أو تركية أشهرها: البزق، البلغمة، والمطبق.

لعبت البيئة النهرية الزراعية الفريدة للجزيرة السورية دوراً في التنوع الكبير لأطياف المجتمع الجزراوي، حيث اجتمع البدوي مع الحضري والمدني بالإضافة للتنوع العرقي والإثني من عرب وأكراد وأشوريين وغيرهم الكثير، ما مكنهم من انتاج إرث فني غنائي عظيم، حفظ تاريخ المنطقة وكان مرآة عكست ثقافة أهل الجزيرة وغناها وتنوعها. في المقال القادم نضيء على الغناء الكردي والأشوري والمردلي لإظهار الغنى الثقافي في تلك المنطقة ودوره في تعزيز علاقات سكانها وتآلفهم.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات