المضبطة ودورها في تنظيم علاقات العشائر في الجزيرة السورية

المضبطة ودورها في تنظيم علاقات العشائر في الجزيرة السورية
هناك مرجعيات عرفية يستند إليها القضاء العشائري في الجزيرة السورية، ألا وهي المضابط العشائرية ومفردها مضبطة، وهي تضم مجموعة قوانين وأعراف تشكل دستوراً ضابطاً للعلاقات القانونية والاقتصادية بين مجموعة من العشائر، وقد تكون عامة أو خاصة بحسب الظرف الذي لزم كتابتها والاتفاق عليها.

وأشهر مضبطة مدونة معروفة في الجزيرة السورية هي مضبطة عشائر طي التي يعود تاريخها لآواخر العصر العباسي، حيث كانت طي إمارة مستقلة في بادية الشام، ولها قانون مكتوب استمرت لأكثر من 200 سنة ثم انتهت مع سيطرة العثمانيين على المنطقة، مع مطلع القرن العشرين، أعيد كتابة المضبطة باتفاق شيوخ عشائر طي، وهي موجودة حتى يومنا هذا مدونة، وقد تجاوز عمرها أكثر من 100 عام تخضع بشكل مستمر للتطوير والتعديل، وتعدّ مرجعاً مكتوباً لمعظم قبائل الجزيرة العربية والكردية وحتى عائلات السريان والأرمن يعتمدونها.

يكتب المضبطة اجتماع مجلس العشيرة، وهو يضم شيوخها وعوارفها ووجهاءها، وعند عشائر طي يسمى هذا المجلس (اجتماع الكياخي)، وفي العصر الحديث قامت كل عشيرة أو حلف عشائري باتخاذ مضبطة خاصة له، بالاستناد إلى ما ورد في مضبطة طي المدونة، وتختلف المضبطة من عشيرة لأخرى ببعض التفاصيل، ويوقع عليها ويختم جميع شيوخ العشائر ويتعهدون بالتزام تنفيذها، ورغم أن الالتزام بتنفيذ المضبطة معنوي فإن من يخالفها يُعاقب، ويتخذ بحقه إجراء القمع ويسمى (المكموع) أي منبوذ من العشائر، ويحرم التعامل معه أو تزويجه أو الزواج منه.

تنظم المضبطة الأمور القانونية التي يحتاج إليها القضاء العشائري، مثل قيمة الدية التي يدفعها القاتل لذوي المقتول، وتختلف قيمتها المادية بين عشيرة وأخرى، كما تتضمن اتفاق شيوخ العشائر على تعديل بعض  الأعراف من حيث الإلغاء أو التخفيف، مثل اتفاق بعض شيوخ عشائر الجزيرة على إلغاء طعام العزاء، أو إلغاء (الحيار) العشائري، أو الاتفاق على توزيع الماء والمرعى، كما حصل في مضبطة عشيرة البكارة عام 1950، التي وزعت عيون الماء والآبار بين عشائر الحلف الذي وقّع على المضبطة، أو مضبطة (خوة المرعي) التي تعطي الحق للعشيرة بأخذ ضريبة من العشيرة التي تريد الرعي في أراضيها.

ومن التعديلات اللافتة التي حصلت على المضابط العشائرية، ما أقره مجلس الكياخي في طي من تعديل لحق الأخذ بالثأر أو المطلوب بالدم، الذي كان مقرراً سابقاً بحد (قضاب العصا) أي يحق أخذ الثأر من الأقارب حتى الجد الخامس، ممن لهم صلة قربى بالقاتل، وجرى تعديله إلى العائلة الواحدة في المنزل، وسمي حد (الآكلين في الصحن) أي الأب وأبنائه الذين يسكنون معه في المنزل فقط، للحد من عمليات القتل الثأري.

بعد الثورة السورية، تمت إضافة فقرة خاصة بحق الأخذ بالثأر على المضبطة، تسقط حق الثأر عن كل من قتل مع أي جهة مسلحة في سوريا، أياً كانت هذه الجهة، كما تم تعديل بنود المضبطة الخاصة بحوادث السير، وربطها بدور شركات التأمين لتخفيف مبالغ دفع الدية عن القتل عن غير العمد بحوادث السير، ويتم التعديل بشكل دوري عند حصول أزمات عشائرية كبرى تستدعي تحديث قوانين المضبطة لتواكب التطور المعرفي والحضاري، وفق ما يشير كارل ماركس إلى أن "ظروف وثقافة الإنسان تتغير بحسب تغيّر ظروف الإنتاج".

والمضابط العشائرية تقابل مصطلح (السواني) مفردها سنة، وهي عرف عشائري قائم على قياس القضية الحاضرة بقضايا مشابهة سابقة ضمن العشيرة الواحدة، بينما المضبطة هي نص مكتوب بالاتفاق بين عدة عشائر ضمن حلف واحد يوقع عليها جميع شيوخ العشائر المتفقة، وعندما تريد عشيرة الانضمام إلى هذا الحلف فهي مجبرة على التوقيع على نص المضبطة كما هو، دون حق نقاش او اعتراض عليها.

تكتسب المضبطة قوتها من قوة ذلك الحلف الذي صاغها وتعهّد بتنفيذها، والحلف ينشأ عادة من اتفاق أو تفاهم بين مجموعة عشائر تسكن في المنطقة الجغرافية نفسها، وقد تكون هذه العشائر مترابطة بنسب الدم، أو أن بينها مصالح مشتركة، وليس من الشرط أن تكون المضبطة تخص علاقات العشائر الداخلية فقط، بل قد يدخل في حلف تنفيذ هذه المضابط عشائر عربية أو كردية أخرى، تجمعها مصالح الرعي أو الزراعة أو مصلحة الحماية للدفاع المشترك عن منطقة التواجد الجغرافي الذي جمعها.

كان القضاء الحكومي يضطر إلى اللجوء إليها كمرجع عرفي في الجزيرة السورية، وبعد الثورة السورية، ومع سيطرة فصائل الجيش الحر على المنطقة، رفض قادة الفصائل اعتماد المضبطة كمرجعية قضائية، بحجة أن شيوخ العشائر يتبعون للنظام، فيما رفضها تنظيم (داعش) وعدّها "بدعة"، وبعد استيلاء ميليشيا (قسد) على المنطقة اضطرت إلى إعادة اعتمادها، بسبب تصاعد الخلافات العشائرية، وهي الآن إحدى المرجعيات القضائية عندهم.

اليوم في ظل الظروف السورية الحالية، تعزز دور هذه المضابط العشائرية باعتبارها مرتبطة بالأحلاف العشائرية في الجزيرة التي ظهرت مجدداً نتيجة الفوضى الأمنية التي فرضتها سنين الحرب، وتلعب هذه الأحلاف دوراً مهماً في حفظ السلم الأهلي، وربما منع تحول الانقسام العسكري القائم في الجزيرة إلى انقسام مجتمعي.

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات