في جرائم أجهزة المخابرات: نعم لمحاكمة الضباط السنة أولا!

في جرائم أجهزة المخابرات: نعم لمحاكمة الضباط السنة أولا!
على خلفية محاكمة بعض الضباط  المتهمين بارتكاب جرائم التعذيب المروّعة في أفرع المخابرات السورية أمام محاكم في ألمانيا،  بعد بدء محاكمة العقيد أنور رسلان رئيس فرع الخطيب سابقا، ومساعده إياد غريب، تثور في وسائل التواصل الاجتماعي وعلى صفحات بعض الكتاب والصحفيين، وأحيانا في مقالاتهم.. اعتراضات مباشرة وواضحة، وأخرى التفافية استدراكية مشفوعة بـ"لكن" كأن يقال نحن مع محاكمة جميع من ارتكبوا جرائم تعذيب بحق السوريين في كل المواقع ومن كافة المستويات والرتب ولكن... لماذا يتم التركيز على الضباط السنة!  وهل الهدف من ذلك تقديمهم كبش فداء من أجل إبعاد الاتهام عن عائلة الأسد أو عن محطيها الطائفي الملتصق بها والذي شكل عصبية حكمها على مدى عقود؟! أم أن الهدف هو الاكتفاء بهؤلاء وتبرئة الآخرين؟!! 

لعبة لصرف النظر! 

وقد قرأت قبل أيام على صفحة شخصية لأحد الأصدقاء الصحفيين، تحذيرا منقولا على لسان ضابط منشق وصفه بأنه ليس سنياً دون أن يذكر اسمه، يحذر من أن تكون هذه المحاكمات لعبة لصرف النظر عن جرائم الرؤوس الكبيرة من طائفة النظام كما قال!

يعيدني هذا السجال – أيا كان مصدره -  لتلمس حقائق يعرفها كل السوريين، ويمكن اختصارها بجملة من التساؤلات: هل كان الضباط السنة  الذين يعملون في أجهزة المخابرات التابعة للنظام ينتمون للأكثرية السنية انتماءً حقيقيا؟ هل كان يدافعون عن مصالح المواطنة التي حرمت منها هذه الأغلبية كما باقي المكونات بدرجة أو بأخرى؟ وهل محاكمتهم هي تجريم للمكون السني وإسهام في خلط الأوراق وصرف الأنظار عن المجرمين الكبار وأصحاب القرار الطائفيين؟! 

للإجابة على هذه التساؤلات أتذكر قصة ضابط المخابرات الدمشقي الذي كان يقطن في حارتنا.. كان ابن عائلة كريمة، يشهد لها الجميع بحسن الخلق وأصالة النسب وطيب المعشر... وحين كنت أسأل بعض الجيران العارفين كيف أصبح ابن هذه العائلة  ضابطا في المخابرات، يرد محدثي هامساً: "لك ابني بكل عيلة في بلوعة... وهذا بلوعة العيلة"! 

المنتمي واللامنتمي؟!

كان جميع سكان الحارة يتحاشون هذا الضابط ويخافون من صف سياراتهم قرب بيته.. بعضهم كان يرى أن عليهم أن يبعدوا عن الشر ويغنوا له: "الله يجيرنا من أولاد الحرام" وبعضهم الآخر كان يلجأ إليه عند الحاجة القصوى المتعلقة باعتقال أخ أو ابن، أو مشكلة أمنية مع قريب.. أما عندما تكون مشكلة الاعتقال كبيرة.. أي لها علاقة بالسياسة لا سمح الله، فثمة من ينصح من يريدون اللجوء إليه: "هذا ضابط سني شو بيطلع بإيدو مسكين.. روح شفلك ضابط علوي كبير لك ابني.. القصة بدها حدا تقيل.." وأحيانا واتقاء لآذان الحيطان في ذلك الزمن المسكون بكتاب التقارير، كان يتم استبدال التسميات الطائفية بأخرى مناطقية فيقال: هذا ضابط شامي مسكين حاطينو واجهة.. روح شفلك ضابط من الساحل!!

 طبعا هذه تفاصيل لا انفرد بها أنا وحدي... بل يعرفها وعايشها وشاركها جميع السوريين، وهي تكشف عمليا أن ضباط المخابرات من المكون السني لم يكونوا ينتمون للسنة بالمعنى الحقيقي للكلمة.. لم يدافعوا عنهم لرفع مظلمة، ولم يستطيعوا أن يساعدوهم  على تحصيل حق، ولا يستطيعون... والأهم من ذلك أنهم لم يستطيعوا تغيير الانطباع السائد عن أجهزة المخابرات باعتبارها "مرتع للسفلة ولأولاد الحرام " وليست مؤسسة حكومية لتطبيق القانون وحماية الناس.. وعليه فمن ينتمون إليها هم عرضة للشكوك في أخلاقهم وفي إنسانيتهم حتى لو كانوا أبناء عائلات عريقة!

حين تنسب القرى لضباط المخابرات! 

ولكم أن تتخيلوا بالمقابل شكل العلاقة بين ضابط المخابرات العلوي وبين محيطه الاجتماعي.. فهو ليس مرهوب الجانب فقط، بل هو مثار إعجاب واحترام.. ويكاد يشكل قدوة لأبناء ضيعته أو أسرته في النجاح وخدمة الوطن والقدرة على خدمة محيطه.. لأن هناك تصالحا اجتماعيا مع تجاوزات أجهزة المخابرات وممارستها الوحشية يصل إلى مرحلة الفخر لدى بعض الفئات الاجتماعية، ولأن هناك انتماء مصلحياً يعبر عن هالضابط العلوي بقدرته النافذة على خدمة محيطه الاجتماعي وأبناء ضيعته وتوظيف وحل كل مشكلاتهم ما لم تصل مشكلتهم إلى المس بالسيد الرئيس أو القائد الخالد! 

لا أعقد هذه المقارنة بين ضابط المخابرات السني والضابط العلوي وعلاقة كل واحد منهما بمحيطه الاجتماعي، كي أبرر للضابط السني مشاركته في الجرائم وأقول أنه مغلوب على أمره ويجب عدم محاسبته، لا. على العكس من ذلك تماما، بل لأقول أن ضابط المخابرات السني لم يكن ينتمي من حيث الجوهر والثقافة لمحيطه الاجتماعي ولآلام أناسه وأهله تحت حكم هذه العصابة الطائفية.. وقد بقي مرذولا ومكروها حتى لو لجأ إليه البعض تحت سيف الضرورة القاهرة أو لوعة الاكتواء باتهام التقارير الكيدية والوشايات الأمنية.. كان ضابط المخابرات السني ينتمي لمصحلته الشخصية ولفساده.. وكان النظام يسمح له بالفساد الشخصي، لكن يحرّم عليه أن يكون شهما ذا مروءة مع محيطه.. الفساد الشخصي سيكون مستمسكا عليه.. أما حركات الشهامة والمروءة ومساعدة الناس لوجه الله فستشكل رصيدا شعبيا له، وستعيد تشكيل العصبية القيمية للأكثرية السنية التي عمل النظام على تفتيتها، مقابل تقوية العصبية العلوية على مبدأ طائفي وليس قيمياَ، كما يقول ميشيل سورا في كتابه (الدولة المتوحشة)..  وهي مضادة لجوهر النظام الذي أسسه حافظ الأسد على مفهوم النذالة المطلقة، التي تعاقب من يتورط في إغاثة رجل مُسن يضرب في الشارع من عنصر مخابرات تجبراً وظلماً.. عقابا يكاد يوازي عقاب قيادي في جماعة الإخوان المسلمين المحظورة!

محاكمات أم استهداف للطائفة؟! 

من هنا يمكن أن نفهم لماذا لم يكن ضباط المخابرات الذين ينتمون للمكون السني يمثلون هذا المكون في أذهان السوريين.. فهم أنذال وأولاد حرام في نظر أقرب المقربين إليهم حتى لو لم يجرؤ أن يصرحوا لهم بذلك.. وإلا لما قبلوا أن يعملوا في أجهزة كان شغلها الشاغل قهر المواطن السوري وتعذيبه وإرهابه، وسحق كرامته بلا أدنى وازع من أي ضمير إنساني أو حتى حيواني.. فداخل أفرع المخابرات تلك قد تغدو الحيوانات ذات ضمير غرائزي أكثر مما تراه  لدى من يحسبون على البشر.. وداخل أجهزة المخابرات تلك، يصح تماما عنوان الكتاب التراثي: تفضيل الكلاب على كثير ممتن لبس الثياب!

يمكن أن نفهم تماما لماذا ترعب دعوات محاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي جرائم التعذيب أبناء الطائفة العلوية بعامة.. ولماذا يعتبرونها جزءا من استهداف الطائفة بأكلمها، فهم يعتبرون ان هؤلاء الضباط الأشاوس يمثلونهم، وجرائمهم أكثر من طبيعية وأكثر من ضرورية من أجل حمايتهم..  والمساس بهم هو وشاية من إرهابيين ودواعش ضدهم، كما قال الطبيب العلوي الذي اقتيد للمحاكمة في ألمانيا مؤخرا على خلفية اتهامه بخيانة شرف الطب حين قالم بتعذيب متظاهرين وجرحى حين كان يعمل طبيبا في مشفى تابع لنظام الدولة المتوحشة في حمص. 

يمكن أن نفهم تماما لماذا ترعب دعوات محاكمة ضابط المخابرات معظم العلويين.. إذ كيف يمكن لضيع وقرى كانت تكنى باسم ضباط المخابرات التي خرجوا منها.. فيقال من ضيعة علي حيدر.. ومن ضيعة علي دوبا.. ومن ضيعة غازي كنعان.. ومن ضيعة عدنان بدر حسن... كيف يمكن لهذا التماهي أن يسمح بالتبرؤ من هذا الإرث او يكون أهلها سعداء بمحاكمة رموزه؟!

ويمكن ان نفهم بالمقابل... لماذا لا يكترث السنة عموما بأبنائهم من ضباط المخابرات الذين تلوثت أيديهم بدمائهم ودماء باقي السوريين.. رغم بعض الأصوات المستريبة التي تحاول أن تكشتف مؤامرة ما في الموضوع. 

قبل الجميع!

لا يهم إن كانوا قد قبلوا أن يكونوا واجهة تشاركية لنظام طائفي أو كانوا مؤمنين بهذا النظام لأنه خدم مصالحهم جيدا.. في كلتا الحالتين هم مجرمون يجب أن يحاسبوا مثلهم مثل البقية.. وربما قبل البقية. ولهذا ولكي نسحب البساط من تحت أرجل الطائفيين نقول: حاسبوا الضباط السنة قبل غيرهم.. حتى لا نضيع وقتنا في التساؤل من يجب أن يحاسب قبل من؟ ولماذا الضابط العلوي وليس السني؟ لا عليكم... الضابط السني الذي خان أهله وانتمى لهذا النظام الطائفي المجرم يستحق أن يكون قبل الجميع... ولن ندافع عن أي واحد منهم... ولا منكم!

التعليقات (0)

    0

    الأكثر قراءة

    💡 أهم المواضيع

    ✨ أهم التصنيفات